بقلم: محمد البراهمي كاتب صحفي وناشط سياسي |
عشر سنوات عجاف تهاوت فيها، أو تكاد، دولة القانون والمؤسسات التي كانت حالة متفرّدة في محيطها الإقليمي تحت مسمّى التحوّل الديمقراطي، إذْ أنّ اليوم وضع تونس لا يسرّ، شهدت عملية تخريب ممنهجة لمؤسسات الدولة ولهيبة القانون والمؤسسات، وهو ما أدى إلى حالة من التيه والعبثية السياسية والدمار المجتمعي، زادت في حدّته الأزمة الاقتصادية المستفحلة..
تشهد تونس صراعات سياسية داخلية طاحنة، لم يجنِ الشعب من ورائها إلا الفقر والتفقير والتهميش، ويمكن فهم الأسباب والدوافع الحقيقية لتلك الصراعات السياسية العقيمة على أنها صراعات وحروباً بالوكالة لأطراف خارجية ظلت تغذيها على الدوام نتيجة توفر عوامل داخلية، هذه العواصف الهوجاء المتمثلة في الصراعات السياسية المعقدة والأزمة الإقتصادية والإجتماعية والجائحة الوبائية التي التقت فيما بينها في نفس الزمان والمكان لتتحالف في جوانب عدة.. بالتنافر السياسي والسياسات الخاطئة والممارسات العبثية معارك كسر العظام والتي وصلت إلى حدّ لا يمكن الإستمرار فيه، وأدت إلى تسميم المشهد السياسي في تونس..
الإستقطاب الثنائي على أشدّه بين مكونات المشهد السياسي في ظل أن البلاد رهينة هذا الصراع العقيم الذي لم يخرج ولا أفق لنهايته بل نرى أزمة سياسية حادة وعميقة منذرة بإنهيار سياسي كبير يتبعه إنهيار إقتصادي أكبر.. وفي حال استمر هذا الصراع والإستقطاب الثنائي، فإنه سيمثل خطر على كيان الدولة ومحاولات الجر إلى مستنقع التصادم مع الدولة وتتواصل العداوة المقيتة ضد مصالح الوطن، وبالتالي يتطلب على الجميع تحمل عبئ المسؤولية لإذلال الخلافات تفاديا لتفاقم الأزمة السياسية، والأجدر والأصوب أن تبادر كل الأطراف الفاعلة على قاعدة تغليب المصلحة الوطنية والترفع عن الحسابات السياسية الضيقة لإيجاد حلول جذرية لإذلال التعقيدات السياسية والإجتماعية والإقتصادية في هذا البلد الجريح وهذا ما سيدفع بكل الأطراف إلى البحث عن نقاط التلاقي والحلول اللازمة لأزمة ثلاثية الأبعاد التي تهدد البلاد على جميع الأصعدة بعيدا عن التجاذبات السياسية الضيقة وسياسة الجذب للوراء أو الهروب إلى الأمام..
لاتزال تونس تتخبّط في المأزق السياسي، وتستمر النخبة السياسية في التصرف وكأنّ شيئاً لم يكن، وتخوض خلف الكواليس مساومات وصراعات سياسية عبثية، ويأتي ذلك فيما تقف البلاد على حافة انهيار اقتصادي ومالي كامل، ستكون تبعاته كارثية على الشعب وعلى الدولة في حد ذاتها ،
بعد عشر سنوات من الانتصار على الدكتاتورية، يبدو الشعب أكثر يأسا من ثورته التي أنتجت طبقة سياسية عملت وتعمل على إطفاء أي نوع من الحماسة للبناء والتغيير، وصار الشعب التونسي ينظر إلى تلك الطبقة وكأنّها عقاباً أو إبتلاء تهون أمامه حماقات وأخطاء وإستبداد النظام السابق..
تونس تحتضر، أمام إنغماس الطبقة السياسية بالصراعات السياسية وحسابات لا دخل لها بمصلحة المواطن والوطن في ظل تراجع المؤشرات الاقتصادية إلى نسب غير مسبوقة، وجميع المؤشرات الراهنة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن تونس على حافة الهاوية من دون وجود ما يوحي بالتفاؤل بخطوط المرحلة المقبلة..
لعلّ أبرز ما يؤزّم الأزمة السياسية في تونس أكثر فأكثر، هو انقطاع خطوط التواصل بين مؤسسات الدولة (رئاسة وحكومة) والنخبة السياسية، وحتى بين أبناء الشعب التونسي،
ممّا عمّق الأزمة السياسية بسبب انعدام الكفاءة وغياب رؤية واضحة المعالم، جعل من الصراع على الحكم والسلطة في تونس فارغاً من أي محتوى إيجابي، بل صراع تموقع عبثي وعدمي بمنطق الغنيمة ولا شئ غير الغنيمة، وهو الذي دفع البلاد كي تكون أرضية خصبة لمعارك جانبية غير مسبوقة وغير محمودة العواقب ،
لا يمكن لوم الشارع التونسي الذي استفاق متأخراً ضد نخبة سياسية متعفنة ومكبلة بمصالحها الضيقة ولا يمكن التعويل على هذه الطبقة السياسية الفاشلة للخروج بالبلاد من عنق الزجاجة المتعفنة.. وإذا لم يقف الجميع اليوم وقفة صادقة وجريئة لتقويم الوضع الراهن الأكثر تعقيداً، سنشهد انهياراً إقتصادياً محتماً سينقل تونس إلى المجهول حيث الجميع خاسر لا محالة..
لقد كشفت الثورة العديد من المتسلقين إلى الكراسي السياسية تحت أسماء الوطنية وحب الوطن، على حساب الشعب التونسي الزوّالي و كشفت أقنعة كل خائن يلبس ثوب الوطنية ليتسلق كرسي السلطة ضارباً بعرض الحائط تطلعات وأحلام شعب ناضل من أجل الحرية والكرامة..
يجب أن ينتهي عهد التكالب ﻋﻠﻰ السلطة ﺑﻤﻨﻄﻖ الغنيمة والتوافق المغشوش الذي ﻛﺸﻒ إﻓﻼﺳﻪ ﺑﻌﺪ 12 ﺣﻜﻮمة ﻓﻲ 10 سنوات ﻣﻦ الثورة دون تقديم حلول إذ أنها ﻛﺎﻧﺖ حكومات ﻣﺮﺗﺒﻜﺔ ﻣﻬﺘﺰّة بحزام ” ناسف “، وﻛﺎﻧﺖ ﺑﺪﻋﺔ التوافق زائفة ﺑﻜﻞ المقاييس، وكلها فشلت في قيادة سفينة البلاد إلى برّ الأمان، والسبب جليّ وواضح وهو أن جزءاً من الأحزاب والأطراف السياسية تسعى إلى استكمال ثورة لم تبدأ أصلاً، وبعض هذه الأحزاب لا تزال تعيش تحت وقع هذه المتاهة السياسية، التي لا ولن تستقيم، في منظورهم، إلّا بالتدمير الكامل للماضي، وإعادة بنائه على مقاسها لتبسط نفوذها بإحكام على مفاصل الإدارة والدولة والحكم..
الأزمة السِّياسيّة الخانقة تستفحل يوماً بعد يوم، وتونس اليوم تستدعي أكثر من أي وقت مضى الوقوف وتأمل المشهد مليًّا والإقرار بأن الحل يستوجب أن يقدّم الجميع تنازلاً من أجل الإنقاذ وتغليب المصلحة العليا لتونس، إذ أن المرحلة الحالية الحرجة لا تقبل بغير التعايش بين كل القوى بمختلف أطيافها والإنسجام والتوافق بين مؤسسات الدولة، وأي محاولة للإنفراد أو تصفية حسابات أو تهميش وإستبعاد لن تكون إلاّ هدماً لسقف الوطن على رؤوس الجميع.. ولاشك وأنّ عودة الإستقطاب الثنائي بقوة إلى المشهد السياسي ينذر بتفجر أزمة سياسية غير مسبوقة في البلاد، قد تهدد إستقرار مؤسسات الدولة كما تنذر بمعركة كسر العظام بين سلطات البلاد غير محسوبة العواقب..
في ظل هذه الأجواء المشحونة بالتوتر، تعيش تونس وقت محاسبة وتدقيق في نموذجها الديمقراطي المعقد وهو مزيج من النظامين البرلماني والرئاسي، إضافة الى الجدل الدستوري حول التحوير الوزاري الذي خلَّف جدلاً سياسياً حاداً في تونس بين قصري “قرطاج” و”القصبة” في ظل غياب المحكمة الدستورية التي من صلاحياتها البت في مثل هذه المسائل..، إلاّ أنه لم يتم إنشاؤها حتى الآن.. إلى أين..!!