قبل الخوض في مسألة من أخطر المسائل المبتلات بها هذه الامة، وشعبنا التونسي جزء لا يتجزأ منها، لا بد من اشارة الى أن تهديد الارهاب لمجتمعنا قد استوطن في عقول بعض، ممن آثر أن يسلك طرق الاقصاء، ويتخذ من قناعاته وتصوّراته، حصنا تترّس بداخله، ليقذف غيره، بما رآه مناسبا لاتهامهم وتشويههم.
ما اكتبه اليوم هو كلمة صريحة، يحقّ لي أن أعبّر بها على الخطر، الذي ما زال يداهم مجتمعنا من الداخل، رغم تناقص أعداد التكفيريين من تونس، والحمد لله فقد كفانا الله شرّ جحافل، من استدرجهم تجار صفقات نقل الاهاب من بلد الى آخر، تغذية لمؤامرات ثبت تورط أمريكا والصهيونية العالمية فيها، كما حصل في سوريا والعراق واليمن وليبيا، حيث لم يجدوا وسيلة دمار، يدفعون بها الى تلك الساحات، سوى تلك الوحوش الوهابية التكفيرية، التي برهنت جماعتها أنها أسوأ تنظيم ارهابي وجد، بصناعة بريطانية أمريكية صهيونية.
ان الخطر الحقيقي الذي يهدد مجتمعنا – ولا يختلف عن خطر الارهاب في شيء- يكمن في انه يوجد بيننا أناس أدعياء علم وثقافة، ركبوا الشخصنة ركوبا غير مستحق، وظهروا بعد ثورة 14/1/2011، بعدما سمحت لهم الأجواء بوجوه ثورية مزيّفة، قد شحنت قلوبهم بالعداء على فئة أو فئات من المجتمع، بسبب معتقدهم وفكرهم، وكل دعوة تتبنى اقصاء أو عداء، موجّه الى فئة ما من مجتمعنا هي دعوة ارهابية، محاربة لأفكار ومعتقدات المواطن التونسي، يجب أن تقف عند حدّها، ويحاسب دعاتها بما يقتضيه الدستور ويجرّمه القانون.
لماذا لم ينته النّافخون في بوق التحريض، على قسم من المواطنين، بسبب اختيارهم العقائدي، من حملاتهم العدائية؟
الا يدعو هذا التسلسل في التحريض من أشخاص قريبون من الإخوان، لم يكن لهم وجود ثقافي أو سياسي، او حتى اجتماعي في زمن ما قبل 14 جانفي الى التساؤل، إن كان نفس النفس الوهابي التكفيري الذي يذكّي نيرانه آل سعود بشهادة وليّ عهدهم، عندما قال إن جهود نظامه بأفريقيا – وتونس منها طبعا- في الحدّ من انتشار التشيّع في بلدانها، قد قلّص ارتفاعه الى حدّ كبير، هو الذي يقف وراء هذه الحملات، التي لم تهدأ منذ ذلك التاريخ، والمتورّطون وعلى رأسهم شخصيات إخوانية، حملت من قبل في داخلها فكرة التصدّي للمسلمين الشيعة، زمن كانت مضطهدة، فما بالك اليوم؟
هذا التوجّه والتحرك المريب، لا يمكن عنونته بغير الارهاب العقائدي والفكري، الذي مارسه بورقيبة وبن علي سابقا، واستلم عهدته بعد 14 جانفي شرذمة من تجار الدين، وأدعياء حقوق الانسان، وراكبي موجة الثورة والنضال، لا اعتقد أنّ الاوساط الفكرية والحقوقية، وعامة الشعب التونسي، سيقبلون بهكذا دعوات تحريضية، لا مكان لها لا في دستور ولا في روح الانفتاح والتسامح التي عرفت بها تونس.
ولا يشرّفني ذكر اسماء دعاة الفتنة التحريض على المسلمين الشيعة، لأنهم أقلّ شأنا من ان ألطّخ مقالي هذا بهم، لكن لا يمنعني ذلك من أن أدعو لهم بالهداية، والاقلاع عن ترويج الاباطيل التي سئم التونسيون منها ومجّوها، حتى لم يعد لها مكان في اهتماماتهم، وإنّما اهتمامهم اليوم منصبّ على إخراج البلاد من حال الركود والانحدار الاقتصادي، الى الرّقيّ والتقدّم الذي ننشده جميعا.
إن وجود الشيعة كمنهج تعبّدي إسلامي لا يشكّل خطرا، كما يدّعي روّاد السفارة السعودية، وحملة فتنتها الى داخل اوساط الشعب التونسي، بل برهنوا على مدى نشأة أفرادهم، وتحوّلهم بعد بحث وتقصّ عميقين، من الاتباع الوراثي للمذهب المالكي، الى منهج أئمة أهل البيت عليهم السلام، اذعانا للنصوص الصحيحة، التي وجدوها في كتب مخالفي الشيعة، وهي لعمري أدلّة قويّة، لا تقبل الشك في رجحان اتباعهم.
إن الذي قال: “إن الشيعة أخطر على الاسلام من ايّ خطر آخر.” ليس في مقدوره اثبات شيء من مقالته، وانما اراد بها اثارة الفزع والخوف بين التونسيين، من مذهب أثبت على مرّ التاريخ، أنه اسلامي عقيدة وشريعة، لا يختلف في شيء تقريبا عن بقية المذاهب الاسلامية، ومن أجل اطفاء نائرة فتن التناحر المذهبي، التي كانت سببا في ضعف انتشار الاسلام وتفكك عرى وحدة شعوبه. تأسس مجمع التقريب بين المذاهب الاسلامية في مصر سنة 1947 على يدي كل من الشيخ محمود شلتوت شيخ جامع الأزهر والشيخ محمد تقي القمي أحد علماء ايران، وفي سنة 1959 أصدر الشيخ شلتوت فتواه الشهيرة، التي نصّت على جواز التّعبّد على مذهب الشيعة، شانه في ذلك شأن المذاهب الاربعة واعتقد ان ذلك الشيخ الجليل كان متفطنا بعد اطلاعه طبعا على المذهب الشيعي الامامي الاثني عشري أن حصر الاسلام في اربعة مذاهب كان خطأ فادحا ارتكبه سلاطين الدولة العباسية والمماليك الذين بنوا اساسات حكمهم على معادات المسلمين الشيعة، لرفضهم الدخول في طاعة الظالمين واساس عقيدتهم مبنية على معاداة الظلم واهله، ومن هنا بدأت محاربة الشيعة.
بعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر، واستلام العميل السادات الحكم في مصر، توجّه الرجل الى التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومعاداة ايران والشيعة، فأغلقت دار التقريب بين المذاهب الاسلامية في القاهرة، بعد الثورة الاسلامية الايرانية سنة 1979، بأمر حكومي غير خافية أهدافه، ولم يقع تجديد الفكرة الا في سنة 1990، على يد قائد الثورة الاسلامية الايرانية الامام الخامنئي في طهران، حيث تأسس المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية، وهو ينشط الى اليوم، ويقدم خدمات فكرية جليلة في شتى انحاء العالم، من شأنها أن تجمع المسلمين على راية الاسلام العامة، وتسقط من خلال اصداراتها وندواتها ومؤتمراتها، كل دعوات الفتنة والتفرقة التي تتعالى أبواقها من بلد اسلامي الى آخر، خدمة لأجندات معادية للإسلام بكل مذاهبه.
ولا يمكن لشعب أو أمّة أن تزدهر وتنمو، الا اذا تعايش أفرادها فكريا وعقائديا باختلاف قناعاتهم، بعيدا عن التعصّب الاعمى والاصرار على الموروث على علّاته، لذلك فإنني على ثقة تامة من أن دعوات الفتنة والاثارة على المسلمين الشيعة، ستلقى جدارا من وعي الشعب التونسي، وقوة من احكام الدستور، الذي يكفل حرية التفكير والمعتقد، وعلى دعاة هذه النّعرات الفاسدة أن يصمتوا، أو يتحمّلوا تبعات تحريضاتهم الخبيثة أمام القضاء.
واخيرا اقول، ليس الارهابي من يحمل السلاح ليقتل الابرياء فقط، وإنما الارهابي أيضا من يعمل على قتل غيره فكريا وعقائديا.