الانقسام الذي أدى للفصل بين غزة والضفة ليس معادلة فلسطينية خالصة ولم يجري بسبب الخلافات الفلسطينية الداخلية حتى وإن شاركت فيه بعض الأطراف الفلسطينية، بل هو مشروع استراتيجي اسرائيلي تم فيه توظيف هذه الخلافات وقد كتبنا عن ذلك كثيراً بما فيه كتابنا حول صناعة الانقسام ودولة غزة، ولو لم يحدث الانقسام وإخراج غزة من معادلة الصراع ما كان العدو يستطيع التفرد بالضفة كما يجري اليوم.
مطالبة البعض بإنهاء الانقسام من خلال تراجع حماس عن انقلابها وعودة السلطة الشرعية لقطاع غزة دون وضع آلية توافقية لذلك ليس طرحاً عملياً قابلا للتطبيق، ليس فقط لأن حركة حماس ترفض ذلك بل لأن الكيان الصهيوني لن يسمح بإعادة توحيد غزة والضفة في سلطة وحكومة واحدة وهو الذي صنع الانقسام ويعمل على اضعاف السلطة الوطنية حتى في حدود نفوذها المجدود في الضفة.
كما يمكننا الحديث مطولاً عن المشاركين في الانقسام والمستفيدين منه وعن مخاطره، كما يمكن لمعارضي حماس مواصلة اتهامها بالمسؤولية ومطالبتها بالتراجع عن انقلابها وسيطرتها على القطاع، كما يمكن لحركة حماس والفصائل المؤيدة لها والمعارضة للسلطة الوطنية مواصلة انتقاد السلطة وتحميلها مسؤولية الانقسام وفشل حوارات المصالحة …. ولكن أن يستمر الانقسام والمناكفات في الوقت الذي تشهد فيه فلسطين أخطر هجمة عدوانية استيطانية لحكومة عنصرية لا تخفي هدفها بتصفية الوجود الوطني للفلسطينيين على أرضهم بحيث لا تقل خطورة المرحلة عما جرى خلال النكبة 48 وخلال حرب 67، هو أمر خطير يحتاج لتفكير ومعالجة خارج صندوق التفكير العدمي لكل الطبقة السياسية.
فشلت عشرات جولات حوارات المصالحة والاتفاقات الموقعة بشأنها لأن المتحاورين كانوا يريدون تحقيق توافق على كل الملفات: الأمن والحكومة والمنظمة والمصالحة الاجتماعية والانتخابات والبرنامج السياسي (رزمة واحدة)، ولم ينجحوا في ذلك، إذن ما العمل؟ هل سيبقى مستقبل ومصير المشروع الوطني والقضية برمتها أسير المخططات الصهيونية وأسير الانقسام والمستفيدين منه ويستمر كل طرف فلسطيني بتوجيه الاتهامات للآخر وتحميله المسؤولية؟ أم تفكر بموضوعية وعقلانية بإمكانية تفكيك ملف الانقسام والتدرج في مسار الوحدة الوطنية من خلال مصالحات وتفاهمات بين الفاعلين السياسيين في كل منطقة؟
إلى حين إجراء لانتخابات العامة الشاملة أو نجاح جهود المصالحة في الجزائر- إن كانت المبادرة الجزائرية ما زالت قائمة- ،وحتى لا تستمر نظرة العالم للفلسطينيين كشعب منقسم ويتصارع مع بعضه البعض ولا يتفقون على أية رؤية أو موقف موحد، وحتى لا يستمر توجيه الاتهامات لقطاع غزة بأنه محكوم من جماعة الإخوان المسلمين ومن جماعات مسلحة خارج إطار الاجماع الوطني، وتصنيف عديد الدول بما فيها عربية لحركة حماس كحركة إرهابية، وبالتالي يستمر حصار القطاع وإخراجه من معادلة الصراع مع الاحتلال، ولأن قطاع غزة كان خزانا ًللوطنية ويجب أن يستمر كذلك، وحتى لا نستسلم للمخطط الصهيوني لصناعة دولة غزة الذي طالما تحدثنا عنه وحذرنا منه وقد ذكر مؤخرا ًحسين الشيخ أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أن مشروع دولة غزة مطروح على الطاولة لدى عديد الدول … لكل ذلك يجب التفكير ومن خلال التوافق على مصالحات جزئية تكسر معادلة الانقسام وتغير المعادلة القائمة، في غزة من خلال تشكيل حالة وطنية تضم جميع أطياف الشعب الفلسطيني، مع استمرار جهود المصالحة الوطنية الشاملة مقابل أن تتوقف حركة حماس وقوى المعارضة عن سياساتها المعادية للسلطة الوطنية في الضفة، وأن تسمح السلطة في الضفة بحرية العمل السياسي لمعارضيها من حركة حماس وبقية الفصائل، وأن يتفهم كل طرف خصوصية كل حالة.
نعم، مع تمنياتنا بنجاح السلطة الوطنية الشرعية والرسمية في مواجهة ما تتعرض له من تهديدات وأن تنجح جهود المصالحة ليعود قطاع غزة جزءاً من سلطة وحكومة وطنية واحدة، إلا أنه راهناً هناك سلطة في قطاع غزة منذ عام 2007 تحكم فيها حركة حماس حكماً منفرداً،، إلا أنها سلطة تحكم أكثر من 2 مليون فلسطيني، ومع أنها بدون سيادة ومحاصرة إلا أنه في قطاع غزة لا يوجد مستوطنات أو احتلال مباشر، مما يجعل من الممكن أن يتشكل في قطاع غزة إدارة أو حكومة محلية وطنية تمثل كل الأحزاب والمجتمع المدني بجانب السلطة الوطنية الرسمية في الضفة.
يقول بعض المقربين من قائد حركة حماس في قطاع غزة يحيى السنوار إنه يعتبر نفسه غير مشارك في الانقسام وأحداثه الدموية وبالتالي يرغب في تجاوز المرحلة السابقة وتشكيل حالة وطنية في قطاع غزة. ويستشهد هؤلاء بخروج أو إخراج غالبية القيادات التقليدية والمؤسِسة الأولى للحركة من القطاع وإقامتها الدائمة في تركيا وقطر والتزام من بقي في القطاع الصمت، وهي القيادات المتهم بعضها بالمشاركة في صناعة الانقسام وتوتير العلاقة مع منظمة التحرير، كما توجد في القطاع إرهاصات حالة جديدة تتميز بتخفيف نسبي القبضة الأمنية المتشددة على المعارضين وتوظيف خطاب وطني وحدوي وفسح المجال نسبياً لكل الفصائل الفلسطينية بالعمل السياسي بما فيها تنظيم فتح في غزة.
صحيح أن قطاع غزة يشهد انفراجه في الأمور السابق ولكن ذلك لا يعني تجاهل بعض الأصوات الموتورة التي تواصل خطابها التحريضي على السلطة والقيادة الفلسطينية كما لا يمكن تجاهل ما يُقال من أن كتائب القسام تشتغل خارج إطار القانون وتعتبر نفسها فوق كل قانون، أيضا فالتنسيق مع إسرائيل يتزايد يوماً بعد يوم في مجال تنظيم العمل على المعابر والعمل في الأراضي المحتلة والحفاظ على الهدنة، وهي أمور على كل حال تجد قبولاً من قطاعات واسعة من الجماهير بحيث تراجعت الدعوات لإطلاق الصواريخ أو الدخول في مواجهات مباشرة على الحدود.
قد يقول قائل إن ما يجري في غزة مؤخراً من هدوء وتهدئة و تحسن في الوضع الاقتصادي حيث تدخل الأموال للقطاع من أطراف متعددة بتنسيق مع دولة الاحتلال، وهناك علاقة وثيقة بين الاقتصاد والأمن، محاولة من حماس لتحسين صورتها وإرسال رسائل للعالم أنه يمكن قيام دولة في غزة تعيش بسلام مع دول الجوار ، ولكن، هل يستسلم الفلسطينيون لهذه الحالة إلى ما لا نهاية مما يعني تكريس الانقسام والفصل أم يعملون على كسرها من خلال إثبات أنهم قادرون على حكم أنفسهم بأنفسهم في نطاق ما هو متاح لهم من أرض وسلطة في القطاع وفي نفس الوقت يؤكدون أنهم جزء من الشعب الفلسطيني ومن الحالة الوطنية العامة؟
في قطاع غزة مجلس تشريعي، أجهزة أمنية وجيش، إدارات تقوم بمهام وزارية كاملة الصلاحية، محاكم وقضاء وأنظمة قانونية منفصلة عما يوجد في الضفة، جباية للضرائب، إشراف على المعابر الحدودية، علاقات مع عديد الدول الخ، بمعنى أن في القطاع كل العناصر التي تشكل النظام السياسي إلا السيادة وهذه غير متوفرة حتى عند السلطة أو النظام السياسي القائم في الضفة.
دون أن يشط البعض في تفكيره ويتهمنا بتكريس الانقسام أو يُفهم من كلامنا تشكل بديل عن منظمة التحرير وعن السلطة الوطنية الشرعية، فإن ما نطالب به تشكيل حالة وطنية توافقية لا تعادي منظمة التحرير والسلطة الوطنية والمشروع الوطني، ومن غزة تستمر الحوارات لإعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير، فهل تتعاطى حركة حماس مع هذا الاقتراح وتقبل بتشكيل هيئة أو حكومة محلية مؤقتة لإدارة القطاع تتكون من جميع الأحزاب ومن شخصيات مستقلة؟
قد يشكك البعض في أن تتخلى حركة حماس عن السلطة في غزة وما توفره لها من منافع أو تتخلى عن مشروعها الإسلامي وارتباطاتها الخارجية، كما قد يشكك البعض بأن تسمح السلطة بحرية العمل السياسي لحماس وفصائل المعارضة في الضفة وسيكررون الحديث عن التنسيق الأمني والتزامات أوسلو الخ، ومع ذلك يحدونا الأمل بتغليب صوت العقل والمصلحة الوطنية العليا عند الجميع كما نراهن على دور إيجابي من الفصائل والأحزاب المتواجدة في غزة وعلى دور إيجابي لمؤسسات المجتمع المدني والجمهور في قطاع غزة.
تغيير الأوضاع في قطاع غزة في الاتجاه الذي ذكرناه سيفشل مخططات العدو بتكريس الانقسام والانفصال ما بين غزة والضفة وسيعزز العلاقة بين حركة حماس والاحزاب الوطنية كما يعطي مصداقية لخطابها الوطني الذي سمعناه يتردد مؤخرا، كما أن غزة تحتاج لحكم وطني ديمقراطي رشيد يثبت للعالم أن الفلسطينيين قادرون على حكم أنفسهم بأنفسهم فيما هو متاح لهم من الأرض.
من المتوقع عدم الرضا عن هذا المقترح من المستفيدين من الانقسام ومن أصحاب الأجندة غير الوطنية وقد يتحدث البعض عن سذاجة هذا المقترح، ولكن من لديه اقتراحات عملية للخروج من دوامة الانقسام ومربع المناكفات السياسية فنحن مستعدون للاستماع له.