قام مؤخرا 57 عنصر من الشرطة المسؤولة عن “مكافحة الشغب” في نيو يورك بتقديم استقالتهم للاحتجاج على توقيف عنصرين من أصدقائهم الذين قاموا بدفع رجل مسن “ابيض” مسالم واسقطوه على الارض ونتيجة السقوط بدأ راسه ينزف دماء وترك دون ان يقوم اي فرد من عناصر الشرطة باسعافه. ونشرت الحادثة على وسائل التواصل الاجتماعي وكذلك تناولتها وسائل الاعلام مما أضطر السلطات القضائية الى توقيف العنصرين من الشرطة اللذين قاما بعملية دفع الرجل المسن دون مبرر لذلك وخاصة وان مسن ولا يحمل بيديه سوى زجاجة ماء. ولا بد التوقف قليلا عند هذه الحادثة وغيرها التي صاحبت الاحداث والحركات الاحتجاجية في الولايات المتحدة.
اولا هذه الحادثة وما شابهها تدلل على وحشية تعامل الشرطة مع المواطن الامريكي وبغض النظر عن لونه وهذا العنف الى جانب العنصرية ضد الملونيين وخاصة السود منهم ( وهم بالمناسبة يشكلون 13% من تعداد السكان في امريكا) هي الثقافة السائدة في هذا الجهاز الامني الذي وظيفته الاساسية التي تربى عليها هي حماية النظام السائد وليس حماية المواطن الامريكي وضمان سلامته.
وثانيا: ان هذا الرجل كان محظوظا وذلك لوجود شخص او اشخاص قريبين من موقع الحادثة والذين قاموا بتسجيل ما حدث في الوقت الفعلي للحدث وكأنه شريط سينمائي ونشره. والسؤال هنا كم هي الاعتداءات التي قامت بها الاجهزة الامنية الامريكية من شرطة مكافحة الشغب الى قوات الحرس الوطني الى عناصر الجيش الامريكي الذي استدعى عناصره السيد ترامب التي لم توثق بالكاميرا وهي تحدث؟ وأيضا جورج فلويد كان من المحظوظين نتيجة تصوير وحشية الشرطة في التعامل معه مما ادى الى وفاته. أما الذين قتلهم الشرطة من الامريكيين من اصول افريقية والذي زاد عددهم العام الماضي بحسب الاحصائيات على 1000 شخص لم يكونوا محظوظين لان حوادث قتلهم بدم بارد من الشرطة المحلية او الفيدرالية لم يصوره أحد.
ثالثا: أن التحركات الاحتجاجية التي عمت فيما يقرب من 150 مدينة رئيسية في الولايات المتحدة لم تكن مقصورة على الامريكيين من اصول أفريقية بل شملت كافة الاعراق من سكان أمريكا وهذا يدلل على الشرخ الكبير على المستوى السياسي والاجتماعي والطبقي المتواجد في المجتمع الامريكي بين فئات واسعة مهمشة على جميع الاصعدة وبين النخب الحاكمة سواء من الجموريين او الديمقراطيين. فالديمقراطيين ليسوا بافضل حال من الجموريين في هذا المجال فالمرشح الديمقراطي وغيره من المسؤولبين الديمقراطيين الكبار قاموا ياستغلال الذي يحدث لمهاجمة ترامب وتجيير الاحداث لصندوق الانتخابات الرئاسية القادمة فقط وليس لتبنى مطالب الجماهير المنتفضة.
رابعا: اصطفاف الاعلام الرسمي من واشنطن بوست الى نيويرك تايمز الى وول ستريت جورنال وغيرها الى جانب النظام والتركيبة السياسية والنخب الحاكمة. فهي ايضا لم تتخذ جانب المطالب المحقة للحركات الاحتجاجية لا بل وفي الكثير من الاحيان حاولت تصوير أعمال الشغب وتحطيم المحلات التجارية وسرقة محتوياتها وهي في مجملها اعمال مجموعات الجريمة المنظمة وهي كثيرة الانتشار. نقول وسائل الاعلام ركزت على هذه المناظر وبثتها ولم تشير الى غالبية التحركات السلمية. هذا الى جانب توجيه الانتقادات الى ترامب وسياسته في التعامل مع الاحداث مصورة على ان القضية تكمن في الرئيس ترامب وليس في النظام السياسي الذي اوصله الى سدة الحكم وبالتالي وكأنها تحث المواطن الامريكي ان يقوم بعدم التصويت لترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة بل التصويت لصالح الديمقراطيين وعفى الله عما مضى. وهذا بالطبع دفاعا عن المنظومة القائمة والتي هي اصل المشكلة.
خامسا: ان العريضة الموقعة من 88 من كبار المسؤولين الامريكيين السابقين ومن ضمنهم اربع وزراء دفاع الذي اشاد بها البعض تضمنت فقط توجيه الانتقاد الى ترامب في تعامله مع الاحتجاجات وربما قصرا على استدعاء قوات من الجيش الامريكي للتعامل مع الاحتجاجات وقمع المحتجين. بمعنى انها لم تتعامل او تتبنى مطالب المحتجين أو الاشارة الى ضرورة التغيير في النظم الحاكمة وهي بالتالي لم يتعدى دورها عن الدفاع عن المنظومة القئمة.
سادسا: إن عملية التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي لمعظم من شاركوا في هذه الاحتجاجات والنظام السياسي القائم على تبادل السلطة بين الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي لا تبشر بالمستقبل الذي تريده هذه الجماهير المنتفضة لانه ببساطة هذه الجماهير ليس لها من يمثلها في الحكم ضمن النظام القائم الذي لا يسمح اصلا بتواجد اي حزب لتمثيلها ضمن المنظومة القائمة. وللاسف نقولها إن غياب إطر سياسية تستطيع تبني قضايا المهمشين والمحرومين في أمريكا وهم بالتاكيد كثرة ستبقى الامور على ما عليها. وهذه ليست نظرة تشاؤمية كما يريد للبعض ان يعتقد ولكنها الحقيقة الان كما هي على ارض الواقع هذا مع الاشارة والتاكيد على ان عملية التغيير الحقيقي تاتي نتيجة تراكمات نضالية على ممر السنوات. وبالتاكيد أن هذه التحركات الجماهيرية الواسعة ما هي الا خطوة على الطريق الطويل لتحقيق المطالب العادلة والمحقة لها الذي بدأته التحركات الذي قادها مارتن لوثر كينج واغتيل من أجلها عام 1968. وما نستخلصه هنا هو ان التوقيع على تحرير “العبيد” من قبل الرئيس الامريكي ابراهام لينكولن عام 1862 الذي تم إغتياله عام 1865 او التوقيع على نيل الحقوق المدنية لذوي البشرة السوداء في الولايات المتحدة عام 1964 ليست كافية على الاطلاق لتحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على العنصرية بكافة اشكالها في المجتمع ومؤسسات الدولة.