لاتزال حكومة بنيامين نتنياهو تواجه معضلة تقديم موعد الانتخابات وحل الحكومة بسبب استقالة وزير الدفاع افيغدور ليبرمان وخروج حزبه (إسرائيل بيتنا) من الائتلاف الحكومي، ما قلّص قاعدة الحكومة من 120 عضو كنيست إلى 60 عضواً، وهذا لا يعني التوجه مباشرة إلى انتخابات مبكرة أو انفراط عقد الإئتلاف الحكومي.
وما إن أعلن وقف إطلاق النار حتى بدأت ردود الفعل الرافضة للتهدئة بين المستوطنين، وحينها قدّم ليبرمان استقالته كوزير للحرب شعر بأنه لم يخسر هذه الجولة مع المقاومة فحسب بل شعر بأن لا قيمة اعتبارية له بالحكومة، وأن نتنياهو متسلط ومتفرد بالقرار لذلك كانت غايته التحريض والتغيير في منسوب تأييد الجمهور الإسرائيلي للأحزاب الصهيونية الفاعلة ورفع التأييد لـ(اسرائيل بيتنا) لدى الناخب الإسرائيلي الذي يتوقع حدوث انتخابات قريبة للكنيست. ولاسيما أن ليبرمان يرفض منطق التهدئة ويفضل الخيار العسكري في حسم الأمور مع المقاومة في غزة ويعدّ ذلك بمنزلة شعار لحملته الانتخابية.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن العلاقات الوطيدة التي أسسها ليبرمان مع كبار ضباط الجيش الصهيوني من خلال جولاته وزياراته الميدانية لمختلف مواقع وأماكن الجيش وحرصه دوماً على الظهور كوزير دفاع ميداني أكثر من سابقيه ليس لديها تأثير عسكري من جراء استقالته لأنها استقالة محدودة حسب وصفه ولاسيما أن ثمة أجواء ملبدة بالغيوم منذ أشهر بينه وبين رئيس الأركان غادي آيزنكوت، وفي المقابل ثمة ملاحظة انسجام واضح في الرؤية بين نتنياهو وقيادة الجيش الصهيوني تصل إلى مستوى التطابق بالملفات الاستراتيجية المهمة، وبناء عليه، يبقى التأثير المتوقع على الجيش الصهيوني مرتبطاً بتوجهات ورؤية وزير الأمن الجديد.
ويرى مراقبون أن استقالة ليبرمان هي خطوة سياسية تهدف إلى وضع مصير الحكومة الإسرائيلية أمام استحقاق الانتخابات المبكرة وخلط الأوراق في المشهد الإسرائيلي، إضافة إلى أنها بمثابة دق ناقوس الخطر على مستوى الوعي الجمعي الإسرائيلي بالمعنى السلبي لأنها تأكيد ضمني من أعلى المستويات السياسية والعسكرية الإسرائيلية بأن المقاومة الفلسطينية انتصرت وفرضت منطق مواجهة جديداً في الميدان، الأمر الذي لن يبقي هذا المنطق أسير قطاع غزة فحسب بل سينتقل ويتطور عبر محور المقاومة.
وعلى ما يبدو فإن ليبرمان يريد كسر احتكار نتنياهو لقيادة المشهد الإسرائيلي طوال السنوات العشر الماضية والسعي لإعادة الجنرالات لحكم «إسرائيل» والذي كان آخرهم السفاح شارون، لذلك يستند ليبرمان على المؤسسة العسكرية والأمنية في صراعه ضد نتنياهو ويتبنى الخطاب الصهيوني التقليدي والأكثر عنصرية وإرهاباً، كما أنه يحاول استثمار لوائح الاتهام القضائية بحق نتنياهو والمرتبطة بالفساد والخضوع الكامل لتوجهات إدارة ترامب.
ومن نافل القول إن المشهد الحزبي الإسرائيلي طالما ربط عدوانه على غزة بمواعيد انتخابية للكنيست أكثر مما يرتبط بضرورات عسكرية أو أمنية إسرائيلية، فخلال العقد المنصرم شنت «إسرائيل» ثلاث حروب عدوانية إبّان الاستعداد والتحضير للمواسم الانتخابية للكنيست إضافة إلى شنها غارات واعتداءات متكررة تقتل وتدمر من حين لآخر من دون أن تخضع غزة. فلا تتوافر نيات إسرائيلية بإعادة احتلال القطاع لأنها ستدفع الثمن باهظاً يزيد من أعبائها، حيث شنت حكومة أولمرت آنذاك عدواناً دامياً في عام 2008حمل اسم (الرصاص المسكوب) قبل أن تنطلق الانتخابات المبكرة بشهرين، وعندما وضعت الحرب أوزارها كان ذلك قبل موعد الانتخابات بثلاثة أسابيع، ليحصد اليمين الإسرائيلي القومي والديني نتائجها، ويظهر نتنياهو إلى واجهة الحكم بعد طول انقطاع، وبدأ العدوان الثاني (عمود السحاب) في عام 2012 قبل أن يحين موعد الانتخابات بثلاثة أشهر، وحينها تربع حزب الليكود على صدارة قائمة الأحزاب السياسية في الكنيست، مع حضور واضح لليمين التقليدي واليمين المتطرف والديني، وبعد نحو سنتين شنّ نتنياهو عدواناً ثالثاً ومبكراً في عام 2014 تحت اسم (الجرف الصامد) تلته انتخابات مبكرة عززت من موقع «الليكود» بالائتلاف الحاكم وتمتينه بحزام يميني ديني تطرفي من مختلف الكتل الحزبية. وكان يلاحظ بعد كل عدوان مدى التشابه بالمضمون من حيث المواجهات العسكرية والمناكفات الحزبية السياسية، والدخول في مرحلة مخاض انتخابي تسفر في نهاية المطاف عن استمرار حزب «الليكود» قائداً للمشهد السياسي الصهيوني.
وحسب الأجندة السياسية، فالانتخابات الإسرائيلية ستجري في 26 من آذار/مارس القادم، ويفضل «الليكود» وأتباعه الذين يسيطرون على الحياة السياسية منذ عشر سنوات أن يقوم بأهم خطوات الحملة الترويجية لهم بممارسة أساليب الاعتداء على غزة لأن الجمهور الإسرائيلي ما زال يفضل التيار اليميني، وقد يكون نتنياهو القائد المفضل لديهم. ولكن ثمة شبه إجماع بين المراقبين على أن المستوى الحزبي الصهيوني يعاني فقدان القيادات الحقيقية.
ولضمان عدم الذهاب إلى انتخابات مبكرة يسعى نتنياهو للتحالف مع حزب العمل، وهو بنظره الأفضل للائتلاف في الوقت الحالي، وذلك لاستكمال مشاريعه الاحتلالية والتوسعية العدوانية، وربما يثير التحالف مع حزب العمل توجهات ليبرمان والطاقم العسكري من جهة، وفريق نتنياهو من جهة أخرى، ورغم تولي نتنياهو حقيبة الدفاع وكبح جماح السير نحو الانتخابات المبكرة إلا أنه من المرجح عدم قدرته على إطالة عمر حكومته لأنه من البديهي أن تطالب الكتل الانتخابية بتحصيل نفوذ ومكاسب سياسية مقابل اشتراكها بالائتلاف الحكومي وخصوصاً حزب العمل الذي يعدّ نفسه المؤسس الفعلي للكيان الصهيوني أو حزب «البيت اليهودي» الذي طلب من نتنياهو أن يتولى رئيسه نفتالي بينت حقيبة وزارة الدفاع بدلاً من ليبرمان ومن المرجح أن ينفذ تهديداته بالانسحاب من التوليفة الحكومية في حال عدم استجابة نتنياهو لهم وتالياً ستفتح شهية الأحزاب الأخرى إذا قبل نتنياهو بشروط أحدهم عن الآخر، الأمر الذي سيؤجج الصراع الحزبي وينتهي بإجراء انتخابات قبل موعدها، وهذا ما يريده ليبرمان وفريقه، وربما يحاول نتنياهو طرح شروط جديدة للتهدئة مع قطاع غزة وفي حال فشلها سوف يلجأ إلى خلط الأوراق من خلال عدوان جديد، وربما فتح جبهة مواجهة أخرى أشار إليها من خلال خطابه مساء الأحد (18/11/2018) حيث قال: (إسرائيل قد تلجأ لحرب قريبة)، ووصفته صحيفة (يديعوت أحرونوت) بأنه خطاب انتخابات لا يتجاوز استعطاف الناخبين الذين تفاجؤوا بموقف نتنياهو من الاشتباك الأخير مع المقاومة الفلسطينية في غزة وقبوله وقف إطلاق النار، وتساءلت الصحيفة ذاتها ساخرة من نتنياهو بأنه «بات يتبوأ ثلاثة مناصب: رئيس الوزراء، وزير الخارجية ووزير الأمن، وكيف يُمكنه في ظل هذه الظروف تأدية واجباته؟، علماً أن شبح تقديم لوائح اتّهام ضدّه ما زال ماثلاً وبقوّة»، وفي السياق ذاته كتب محلّل الشؤون العسكرية في الصحيفة عينها، أليكس فيشمان، «كلما تأجل موعد الانتخابات، فإن احتمال نشوب حرب بين «إسرائيل» والمقاومة الفلسطينية أو اللبنانية يصبح كبيراً جداً».
في الواقع، لا رغبة حقيقية لدى نتنياهو في التوجه المبكر للانتخابات ولاسيما بدوافع أمنية فرضتها المقاومة الفلسطينية بالمواجهة الأخيرة، ويكمن الاختلاف بينه وبين ليبرمان ليس على المبدأ بل في أسلوب معالجة تهديدات المقاومة، وهذا ما يفسر قرار نتنياهو بوقف القتال والموافقة على التهدئة وذلك لإمكانية تهيئة الأجواء أمام عقد اتفاقيات مرحلية للسيطرة على بعض قوى المقاومة وإقحامها في تسوية سياسية تدريجية وجلبها إلى مائدة المفاوضات بشكل مباشر أو عبر وسطاء إقليميين ودوليين أخذوا على عاتقهم تقديم خدمات للاحتلال. وما يعدّ الأكثر أهمية لنتنياهو في هذه الأجواء هو ضمانة الفوز ليضمن بذلك استمرار خطته في المنطقة التي تتطابق مع توجهات الإدارة الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية.