الدبلوماسية الهادئة واللغة المحايدة الى حد الاستفزاز والتسلل الناعم الى دول العالم وقاراته، هي ما قد يلحظه المراقب للوهلة الاولى في السياسة الصينية، حيث تشكل السياسات الصينية بكل حمولتها الثقافية والاقتصادية والسياسية وحتى الامنية سياقا مختلفا عما نعرفه لدى الغرب الاستعماري الذي تقوم سياسته على التدخل العنيف والنفي الكامل لكل ما هو ليس غربياً او شبيها بالغرب. الصين تقدم نموذجاً آخر للعالم، يقوم على مبدأ المشاركة والمنفعة المتبادلة والمقايضة والتقاسم دون محاولة التحقير والاستبعاد أو الاستعباد أو تغيير الثقافات أو الأنظمة.
حتى لا تكون هذه المقالة المكثفة تبدو وكأنها تشيد بالصين وسياستها، فأنني استبق ذلك بالقول ان هناك كثيرا من أوجه النقد القاسي يوجه الى هذه السياسات داخليا او خارجيا. لكنني في هذه المقالة اريد ان اقول ان الصين –مثل كل قوة عالمية- لا بد لها في لحظة ما من التمدد وبسط النفوذ والخروج الى العالم، تماما مثل كل قوة تتصاعد وتكبر وتكتشف ان حدودها الطبيعية لا تكفيها، إما لتضخم رأس مالها أو طلباً لثروات جديدة أو طمعاً في مزيد من الحماية أو لوعي ورسالة تنشر. الامبراطوريات الكبرى لا بد لها من مغادرة حدودها بسبب فائض القوة أو فائض المال أو فائض الوعي. وهذا ما يجري في الصين التي زاوجت بين اشتراكية داخلية ورأسمالية خارجية بطريقة ربما لا يجيدها إلا الصينيون، فهي لم تصطدم بالبيروقراطية الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي المنهار ولم يلحق بها أعراض التكلس والتصلب، ولم تضطر أن تعالج ذلك في انتهاج سياسات غير مضمونة، فقد ظلت اشتراكية داخل حدودها، ولكنها تعاملت مع العالم بعقلٍ تجاري رأسمالي محترف، وبهذا استطاعت الصين أن تجعل من الدخل القومي والفردي رقما مدهشاً بين الأمم.
التجربة الصينية الناجحة أو المثيرة للعجب قد تكون بسبب الثقافة الشعبية القائمة على الطاعة والتراتبية وقد تكون بسبب حديدية الحزب الشيوعي الحاكم وقد تكون بسبب الخزان البشري والطبيعي في الأرض الصينية وقد تكون بسبب التاريخ والموقع الجغرافي والتجانس العرقي، وقد يكون كل ذلك أيضاً.
هذه التجربة الناجحة تخرج الآن إلى العالم عن طريق التجارة، يعني بناء طرق مواصلات طويلة معقدة ومتشابكة تتألف من آلف الكيلومترات من الأسفلت وعشرات الموانئ ومئات المطارات في قارات الدنيا. يجب أن نشير هنا أن التجارة بما تحمل من قيم وثقافات وتعاون واتفاقيات كانت من أهم وسائل الانتشار وبسط النفوذ الثقافي والروحي، فما الذي أوصل الثقافة العربية الإسلامية إلى مجاهل أفريقيا وإلى سواحل جنوب أسيا سوى التجار والمتصوفة.
وها هي الصين، تخرج إلى العالم مرة أخرى تجارً لا يرغبون في الاستعمار أو تغيير النظم ولا يصدرون الديموقراطية ولا أكاذيب الليبرالية الحديثة ولا طرائق الفنون الاباحية ولا سينما متحللة، ولا انحيازٍلاحتلالات او قمع بشر، أو ابتزاز أنظمة أو تخويفها أو حصارها، انما تنطلق الى العالم بلغة منخفضة تقوم كما اسلفنا على المشاركة والتعاون، ولان التاجر يريد ان يستثمر في اجواء هادئة ومستقرة، فإن الصين تجد ان من مصلحتها ان تساهم في حل النزاعات بالقدر الذي لا تتورط فيها، ولهذا فهي تستعمل لغة فيها حياد كثير، ولكن هذه الصورة الوردية ليست حقيقية ايضا فالصين تعرف انها لا تتاجر وحدها في العالم، ولا تستثمر فيه بدون منافسين، ولهذا، فإن هذه التوجه الناعم قد يقود الى تصرف خشن تماماً، ليسلأنها تريد ولكن لان منافسيها قد يجرونها الى ذلك.
ان الاتفاقيات التي تعقدها الصين في إيران ودول اسيوية كثيرة وكذلك في قلب افريقيا، ستعجل من لحظة الاشتباك مع قوى الغرب الاستعماري. ان الاتفاق الاخير مع إيران سيضع خارطة جديدة لإقليم عربي مختلف ينذر بصدمات اخرى، المشكلة هنا ان الصين لا يمكنها ان تربح كل الاطراف او ان تحيد كل الاحلاف. لا تستطيع الصين ان تعقد اتفاقا مع إيران ثم تعقد اخر مع اسرائيل، كما انها لا تستطيع ان تعقد اتفاقا مع اسرائيل، فيما هي تنافس الولايات المتحدة. فهل اتفاق الصين مع إيران سيدفع بعض الدول العربية إلى وقف تعاونها معها؟! وهل اتفاقها مع إيران سيضر بالعلاقات التكنولوجية مع اسرائيل؟
الصين بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين دولة عظمى تساندنا في الهيئات الدولية وتقف الى جانبنا وتغطينا دبلوماسيا، وكان اخر مآثرها ارسالها لقاحات لوباء كورونا المستشري في مجتمعنا.
ونحن في معرض المقارنة، نقول ان الصين رغم رغبتها الواضحة بتقليل احتكاكها بالمنافسين ورغم سياستها القائمة على التعاون والتنمية وتبادل المصالح الا انها ستجد نفسها عاجلا ام اجلا تغرق في مشاكل العالم أكثر فأكثر،فأعداؤها لا يملكون صبرها ولا حكمتها.
أخيرً، الصين صاعدة وقادمة، وهي تقدم تصورا ًعالمياً جديداً لا يقوم على الاستعمار وانما على الاستثمار، وعلى الشراكة لا الانتهاك، تقدم الصين رؤية اخرى غير تلك التي عرفناها منذ منتصف القرن العشرين. فهل تنجح الصين في ان تقود الالفية الثالثة بأقل ما يمكن من الحروب؟