بقلم د. مصباح الشيباني |
“وإذا أردْنا أن نُهلك قريةً أمرْنا مُترفيها ففَسقُوا فيها فحقّ عليها القوْل فدمّرناها تدْمِيرا”(الإسراء، 16).
ما أحوجنا اليوم، إلى عصا أبي ذر الغفاري التي أزعجت الطّغاة والمرفّهين، كم نحن في حاجة إلى عصاه لمواجهة أسافل القوم الذين أصبحوا بين يوم وليلة أصحاب اليد الطّولى والأوامر النّهاية، وعصاه في قول الحقيقة ولو كانت مرّة، ولنميّز بين الذّين زادت أموالهم دون وجه حق عن الذّين زادت فضائلهم في البلاد بلا حساب )الشّهداء والجرحى والفقراء..).
تعدّ تونس من أبرز المحميّات الفرنسيّة التي عٌلفت على نظام الاستغلال ونهب الثروات والتبعيّة الاقتصادية والثقافيّة على حساب تنمية شعبها وعلى دماء شهدائها وفقرائها. وزادت هذه الوضعيّة الاحتلاليّة أكثر خطورة و”نعومة” بعد 2011 تحوّل النّاس إلى مجرد بيانات إحصائية انتخابيّة عند “ساسة القدر” و”سعداء الحظ” وشيوخ الأبّهة دون الاهتمام بالحد الأدنى بحياتهم المعيشية المهترئة في عصر أصبحوا فيه ضحية “الجرعة الزّائدة من العقل” )مارقن هاريس)، فهُتكت فيه القيم الإنسانية بشكل لا يوصف، وباتت التّفسيرات لأسباب التخلّف ومآسي البشرية تتلبّس كثيرًا من الأقنعة حتى أنّ كثيراً من دعاة “الثقافة الفرنكفونية” التي تفتقد إلى “الرّوْحَنة الإنسانية” يلقون بتبعة مظالم الشّعب وينعتون شبابه بالتخلّف نتيجة إفراطهم في الرّوح الوطنية والتمسّك بهويتهم الثقافية وحماية أنفسهم من البزْنسة اللاّأخلاقيّة بأجسادهم البيولوجية وذواتهم الثقافية وحالاتهم النّفسية، التي أصبحت الأشدّ رِجسًا من عهد الجاهليّة، كلّ ذلك من أجل “فَرْنسة” هؤلاء الشّباب المقهورين والمهمّشين الذين عجزوا عن تطويعهم منذ قرن ونصف القرن من الاحتلال بالحديد والنار، أو عبر “كلاب حراستهم” المحلّيين الذّين جمعوا بين “التّثمير والإمارة” بحسب عبارة العلاّمة ابن خلدون. ومن يعتقد أنّ لوبيات الفساد والإفساد قادرون على مواجهة المارد الشعبي دون إسناد معنوي ومادي ولوجستي من المستعمرين فهو مخطئ.
أصبح المجتمع يعيش في ظل “العبودية المقنّعة” ويسيّره “نظام التّفاهة”، وهي أخطر أشكال العبوديّة الحديثة والأشدّ قذارة من تلك العبوديّة التي عاشها الإنسان في بداية ظهور نظام العبوديّة القديم. ففي ظل العبودية المقنّعة تنتشر كلّ أشكال الأغلفة الّغويّة والقانونيّة والأخلاقيّة والإعلاميّة ليخفي بها “سادة البلاد” أهدافهم الحقيقيّة، وتتسلّل بها قيمهم في التفسّخ الأخلاقي وتدمير القيم لتعزيز سياساتهم اللاهوتية في الطّاعة الهادئة، والمخادعة والدّهاء السّياسيين للتفرقة بين كتل “الجماهير المجهولة” والمتناثرة، فتحوّلت تونس إلى أكبر سوق لهندسة المؤامرات على غرار “بالبازار الفلسفي الأثِيني” الذي كانت تتناقل فيه المعلومات الخاطئة وتنتشر فيه كلّ أشكال الخرافات والأساطير المسلّية، وتصبغ فيه المفاهيم الزّائفة، فباتت “عفاريت المافيا” تتغذّى بمآسي الشّعب التّونسي وعذاباته المعيشيّة وانهياراته النّفسيّة، ويتفنّن فيها المجرمون باصطياد غنائمهم وأفْلَمة جرائمهم الماديّة والرّوحيّة للذّات الإنسانيّة بكلّ وقاحة وتبجّح، طالما أنّ القوانين لم تعد لهم رادعة.
من المؤلم أنّنا بتنا نعيش في واقع انقطعت فيه الارتباط بين مقدّمات ثورة “الشّعب يريد” ونتائجها، فأصبحت بلادنا مستباحة من الشرق والغرب، وارتفع فيها منسوب الفساد والثقافة المافيوزيّة والنّفاق السّياسي والدّيني دون خجل أو حياء ممّن أطرشونا بالوعود الكاذبة والأوهام الباطلة، فتحقّقت أهدافهم )التيّار الإسلاموي الارهابي) في تمزيق أحشاء الأمّة بـ” ألُوف من الضّحايا وأنهارِ من الدّماء”) أنظر بشير رفعت، أحد زعماء الإخوان في مصر، من كتابه “مأساة العربي المسلم5519). ودخلنا في حقول ألغام شديدة الخطورة في الوهن العقلي، تنوّعت فيها أرضيات الصّراع وأدواتها وتوالدت فيها الفتن اللّسانيّة والبلبليّة في المآلات بشكل لم يعد يطاق، حتى أنّ “الخمر ما عادت تُسكر أحدًا”)محمد الجيزاوي)، ولكنّ “الأرض للطّوفان مشتاقة… لعلّها من درنِ تغْسِلُ “.