السبت , 23 نوفمبر 2024
أخبار عاجلة

المقالة الأولى: العرب بين نظرية المؤامرة وإرادة المقاومة

محمود كعوش* |

 (ج-2) متى تتعض الأمة من أحداث التاريخ؟

ما ضاع حقٌ وراءه مُطالبٌ، فكيف إذا كان المطالب مقاوماً وممانعاً!!

دللت تجارب معظم الأمم على أنه كان من شأن النكبات والنائبات والنازلات والنكسات والهزائم والكوارث والمصائب والصدمات التي ألمت بها وداهمتها في غفلة من أمرها ومن الزمن أن تستنهض الأحاسيس الوطنية والقومية والدينية مجتمعة أو منفردة عند أبنائها، وتدفعهم للبحث في مجريات الأحداث وتقصي بواعثها وأسبابها ودوافعها وإجراءِ عمليات نقدٍ ذاتيٍ ومراجعاتٍ لمكامن الضعف والقوة عندهم واستخلاص الدروس والعبر التي تمكنهم من إصلاح الحاضر وقياسه بالماضي تهيئةً لإعداد مستلزمات المستقبل.

كما دللت التجارب أيضاً على أن ما من شيء مما أشرت إليه كان يمكن أن يتحقق إن لم يتسنّ لأبناء هذه الأمة أو تلك أن يوفروا لأنفسهم زاداً كافياً من الوعي والإدراك والقدرة على استنباط وسائل المواجهة، وأن يختزنوا في دواخلهم قدراً وافياً من الإيمان والوطنية والكرامة والإباء والعزة والعزيمة والإرادة. أما إذا افتقروا إلى هذه مجتمعةً أو إلى بعضها واستمرأوا الرزوخ تحت وطأة التبعية والاستعباد وأعباء التخلف والجهل والفُرقة والاستكانة والاستسلام، فإن نكبةً أو نائبة أو نازلة أو نكسة أو هزيمة أو كارثة أو مصيبة أو صدمة واحدة تكفي لتمعن في قهرهم والتنكيل بهم دون أن تثور فيهم حمية أو نخوة أو يُستفزُ عندهم رد فعل إيجابي واحد يدفعهم إلى النظر في كيفية إصلاح أحوالهم وأحوال أمتهم.

لا شك أن التطرق لموضوع نكبة فلسطين “15 أيار/مايو 1948” يقودنا إلى الاعتراف بأن كلمة “نكبة” لا تكفي للإيفاء بالتعبير عن الكارثة التي حصلت في ذلك التاريخ، خاصةً عندما يُنظر إليها على خلفية الأحداث التي سبقتها والآثار والإفرازات والتداعيات السلبية التي ترتبت عليها والتي لم تزل تترتب عليها حتى الآن، أكان ذلك على الصعيد القومي أو الصعيد الوطني. إنما وفي مطلق الأحوال لا بد من الوقوف عند هذه “النكبة” القاسية والمريرة وربطها بما سبقها وتبعها لاستخلاص الدروس والعبر حفاظاً على الذاكرة العربية وسعياً وراء تخزينها في ذاكرة الأبناء والأحفاد.

عندما استهدف الغرب الاستعماري في القرن التاسع عشر العرب وفرض عليهم وصايتهم بمنطق القوة والبطش والإرهاب، كانت النهضة العربية في ذروة توهجها. وقتذاك تساءل أقطاب تلك النهضة من أمثال محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني عن سر تفوق الغرب على الأمة العربية واستعماره لها. ووقتذاك لم يكن الكيان الصهيوني اللقيط قد استُحدث في خاصرة الأمة العربية بعد. وفي حينه تداعى هؤلاء إلى نقدٍ ذاتيٍ ومراجعةٍ لمكامن الضعف والقوة عند الأمة لغرض النهوض بها من كبوتها واستعادة قوتها ومجدها الغابر. لكن الاستعمار الغربي بكل ما اتصف به من كُره للعرب وكل ما به من جبروتٍ وحقدٍ تحرك وفق استراتيجيته المعهودة القائمة على الاحتلال والتوسع ولم يمكنهم من ذلك. وما هو إلا وقت قصير جداً حتى أطلت الصهيونية العالمية بكل أخطارها على هذه الأمة حين أعلنت في مؤتمرها الأول الذي انعقد في مدينة “بازل” السويسرية عام 1897 انتقالها من الإطار الفكري النظري إلى الإطار التطبيقي العملي من خلال طرح مشروعها الاستيطاني التوسعي الذي جاء امتداداً للمشروع الاستعماري الغربي.

وعندما أمعن الصهاينة في عدوانهم على الفلسطينيين وأرضهم المقدسة تحت غطاءٍ سياسيٍ تمثل بوعد بلفور المشؤوم، الصادر في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917، والقرار الدولي 181، الصادر في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، وغطاءٍ عسكريٍ تمثّل بالانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية التي استوردها ذلك الانتداب من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بشطريها الغربي والشرقي وبعض البلدان العربية والإسلامية وأعلنت قيام الكيان الصهيوني في 14 أيار/أبريل 1948 على حساب فلسطين وتشريد شعبها، كانت الأمة العربية تشهد بروز تياراتٍ أيديولوجيةٍ وحزبيةٍ ومنظماتٍ ثوريةٍ كثيرة. كما كانت تشهد ظهور شخصياتٍ فكريةٍ عربيةٍ بارزة. ويومها تساءل أقطاب تلك الأيديولوجيات والأحزاب والمفكرون العرب عن سر تفوق التحالف الغربي – الصهيوني على الأمة العربية وقدرة الصهاينة على احتلال فلسطين وتشريد شعبها. وتداعى هؤلاء إلى إجراء نقدٍ ذاتيٍ جديدٍ ومراجعةٍ جديدةٍ لمكامن الضعف والقوة عند الأمة العربية لغرض النهوض بها واستعادة قوتها ومجدها الغابر.

وعندما أمعن الكيان الصهيوني مدعماً بجسر جوي عسكري أمريكي في عدوانه السافر على العرب في الخامس من حزيران/يونيو 1967 وتمكن بعد شن حربٍ عدوانية خاطفةٍ وصاعقةٍ لم تستغرق أكثر من ستة أيام من احتلال كامل التراب الفلسطيني وسيناء المصرية والجولان السورية وبعض المواقع الاستراتيجية في خليج العقبة الأردني، كانت الأمة تشهد مداً قومياً بلغ من الذروة ما بلغه، وبلغت معه الآمال عند العرب مبلغاً لم تبلغه من قبل، بفعل التغيرات السياسية التي حدثت في العديد من الدول العربية، والتي أحدثت بدورها إنجازاتٍ ومكاسب كبيرةً سواء على صعيد انتزاع الحقوق من الدول المستعمرة أو رد الاعتداءات التي قامت بها تلك الدول، وذلك بفعل وجود قياداتٍ عربيةٍ تاريخيةٍ من أمثال الراحل الكبير جمال عبد الناصر وبفعل تصاعد الثورة الفلسطينية التي لم يكن قد مضى على انطلاقتها أكثر من عامين.

ومع حدوث تلك “النكسة” القاسية والأليمة التي مُنيت بها الأمة العربية وخلفت ما خلفت من آثارٍ سلبيةٍ في نفوس أبنائها المتطلعين آنذاك إلى التحرر والوحدة والعدالة، تساءل السياسيون والمفكرون والمثقفون العرب عن سر استمرار تفوق التحالف الغربي ـ الصهيوني على الأمة الذي أدى إلى تلك “النكسة”. ويومها تداعى هؤلاء كالعادة إلى إجراء نقدٍ ذاتيٍ ومراجعة جديدةٍ لمكامن الضعف والقوة فيها لغرض استكشاف العلل والأسباب واستخلاص النتائج والعبر وتنبيه الرأي العام العربي إليها للنهوض بها واستعادة قوتها ومجدها الغابر!!

حتى النصر الذي حققه العرب على الكيان الصهيوني في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 بفضل الجيش المصري الذي تمكن من تحطيم خط “بارليف” والعبور إلى شبه جزيرة سيناء، وبفضل الجيش السوري الذي تمكن من اجتياز الحدود وتهديد العمق الصهيوني، وبفضل جيش التحرير الفلسطيني الذي ولد بعد معركة الكرامة “21 آذار/مارس 1968” التي كسر فيها المقاومون الفلسطينيون والجيش الأردني “أسطورة الجيش الذي لا يُقهر”، حوله الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات إلى هزيمة من خلال تفريغه من مضامينه القومية والوطنية واستثماره سياسياً وتطويعه لخدمة “اتفاقيات كامب دافيد” اللعينة، دون أن يُعير انتباهاً يذكر للجبهة السورية والحاضر والمستقبل العربيين. وحتى ذلك النصر الذي حوله السادات إلى هزيمة وجد من يتساءل حوله ويُنَّظر له ويتداعى للنقد الذاتي والمراجعة من أجله، بذات الطرق السابقة المألوفة، ودون أي مردود إيجابي.

وتوالت “كَرَّةُ السَبْحة”، فمن احتلالٍ لجنوب لبنان عام 1978 إلى اجتياحٍ للبنان بما فيه عاصمته بيروت عام 1982 إلى غزوٍ واحتلالٍ للعراق بما فيه عاصمته بغداد عام 2003 إلى عدوان فاشي آخر على لبنان عام 2006 إلى عدوان متواصل الحلقات على قطاع غزة إلى مسلسل مستمر للقتل الفردي والجماعي في الضفة الغربية بما في ذلك مدينة القدس المباركة.

عاصمتان عربيتان، هما بغداد وبيروت، سقطتا ولا حياة لمن تنادي، وقبلهما سقطت زهرة المدائن. ومن نكبةٍ إلى نائبة إلى نازلة إلى نكسة إلى هزيمة إلى كارثة إلى مصيبة إلى صدمة عبر عنها الخريف العربي الذي اجتاح عدداً من البلدان العربية مع مطلع عام 2011 حاملاً معه تسمية “الربيع العربي” زوراً وبهتاناً، قادماً من واشنطن وتل أبيب وبعض العواصم المحسوبة على الوطن العربي بالاسم لا الفعل، ولم يزل أقطاب النهضة والتيارات الأيديولوجية والحزبية وأقطاب السياسة والفكر والثقافة العرب يتساءلون حول سر تفوق التحالف الغربي – الصهيوني على الأمة العربية، ويجرون النقد الذاتي والمراجعة لمكامن الضعف والقوة عند الأمة لغرض النهوض بها واستعادة قوتها ومجدها الغابر، دون طائل أو جدوى!!

لكن، طالما توفرت إرادة المقاومة في العديد من البلدان العربية مثل ما هو قائم في فلسطين ولبنان وسورية والعراق، وطالما أن نهج المقاومة باقٍ على ممانعته وعناده وإصراره، وطالما أن الشعب العربي يحتفظ بإرادته ويتمسك بكرامته وثابت على مواقفه المبدئية بما فيها موقفه الداعم لهذه المقاومة بلا تحفظ وبلا حدود، وطالما أنه يصر على التصدي لسياسة التركيع والتهجين وفرض الاستسلام التي يحاول التحالف الأمريكي – الصهيوني فرضها عليه، سيبقى الأمل بهذه الأمة العظيمة قائماً ومستمراً.

وعليه فإن الأمة العربية لا تحتاج إلا لمتسائلٍ أو متداعٍ أو مراجعٍ عربي صادق وفاعل يسعى للنهوض بها ويعمل من أجل استعادة حقوقها الضائعة وإعادة أمجادها الغابرة، وهو ما لن يتأتى إلا عن طريق المطالبة المترافقة مع التزام نهج الممانعة وممارسة المقاومة بشتى أنواعها، باعتبارها الخيار الوحيد للتحرير.

وصدق من قال “ما ضاع حقٌ وراءه مُطالبٌ”. فكيف إذا كان هذا المطالب مقاوماً!!

 * كاتب وباحث فلسطيني مقيم بالدنمارك

kawashmahmoud@yahoo.co.uk

شاهد أيضاً

في ذكرى 5 حزيران….يجب اسقاط كامب ديفيد…بقلم ميلاد عمر المزوغي

ربما جاءت حرب حزيران 1967على حين غرة بالنسبة للنظام الرسمي العربي, فكانت الهزيمة, لكن ما …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024