سأعود إلى الخيار النيتشي الحاسم: إمّا الإنسان الأعلى وإمّا الإنسان الأخير. في «هكذا تكلمّ زرادشت» يصبح الحبل الفاصل بين الإنسان والقرد قصيراً. ضرب «كوفيد19» النّمط الاجتماعي الحديث في هذيانه الاستهلاكي، رسم علامة تقتضي أن ندرك إشكالية الإنسان في سياق التّطور التّاريخي والاجتماعي كي ندرك أي معنى يقود إليه «كورونا» في إلحاحه المُميت والمستميت لتغيير عاداتنا. لا زال الإنسان يتجاهل ويقاوم ليعود إلى أزمته وما يسمّيه مكتسبات. ففي سياق الموجات السّالفة لم يكن في مقدور الحداثة أن تلجم هذا الهذيان، بل تمّ استغلاله إلى الحد الأقصى.. إنسان الموجات السالفة لم يكن حرّاً، لأنّه سقط في حبائل النّزعة الاستهلاكية التي تجاوزت فلسفة الإنتاج.
نتحدّث عن “الصّنمية” التي اكتسبتها البضاعة وغيرت المجرى والنمط التبادلي للأشياء وهو جوهر الرأسمالية فيما عالجه ماركس، نتحدّث عن هذا الاستهلاك التوتاليتاري -إن شئت للأشياء- والذي تجاوزها إلى القيم والأنماط في سوائل الحداثة والحياة والمفاهيم عند بومان (زيغمونت باومان عالم اجتماع بولندي). عن أيديولوجيا الاستهلاك الفائق عند بودريار (جان بودريار فيلسوف فرنسي). عن كل هذا الذي بات معلناً يدركه نقاد النمط المستبد داخل الحداثة والذي عادة ما أوجد الشرخ الكبير بين معنى الأشياء ومعنى استهلاكها.
لقد انفصل النمط الاستهلاكي عن مفهوم البضاعة والخدمات، لقد بات موجّهاً أساسياً في حياة النّوع، الاستهلاك يتجاوز الحاجيات الطبيعية وحتى تلك التي يفرضها الإلحاح السويّ والصّحة العامة، لقد بات شكلاً من الذّهان المزمن. لقد أعاد «كوفيد19» الأولوية للصحة والحذر والطبيعي والحاجي والتدبير، غير أنّ تجاهل الجائحة هو نابع هنا من الثقة التي لا زالت تسكن الأذهان من أنّ العقل الذي أنتج كل هذه التقنية وانتصر على الأوبئة لقادر على الانتصار على الفيروس التّاجي، إنه سلك على منحى العادة، لكنه يتجاهل الخطر البيئي الذي يتهدد الحياة على هذا الكوكب والذي يفوق في خطورته جائحة كورونا، فعند مقارنة «كوفيد19» بالمخاطر الناجمة عن استنزاف ذُهاني للبيئة سندرك بأنه فرصة تاريخية لتعديل سلوكنا الجماعي وأنماطنا في الاستهلاك.. ولكي نغير عاداتنا في الاستهلاك لا بدّ أن تتغير الموجة كلها ويتعدّل النّسق.
ستظلّ أزمة الحداثة هي نفسها أزمة سياسية كما ذهب ليو ستراوس، لأنّ السياسة هي الشيء الثّابت في هذه التّقلّبات، بل هي العنصر الأكبر في مقاومة موجاتها. فهي تتأثّر لا محالة بالتّحوّلات الكبيرة والعنيفة داخل الحداثة وأيضاً تؤثر بدورها في هذا التّطوّر. “فإنسان السياسة” في الموجات السالفة للحداثة هو “قيمة اختزالية للحيوانات العُليا”، بالفعل “كان يجب أن يظلّ حيواناً” كما هو التعريف الكلاسيكي، بينما القيد العقلي في التعريف لا يغيّر شيئاً سوى حذاقة كائن يعبّر عن “حيوانيته” بعقلانية هي بالأحرى ليست كل إمكانيات العقل بل نمط منه، وهو ما يطرح سؤالاً ملحّاً: من يفرض هذا الاختزال؟ إنّها الرغبة، شيء يمانع ويقارع سائر الإمكانيات العقلية التي تمنح العقل معنى التّعالي بالرغبة إلى حدود الإرادة بالمعنى الذي سيدركه شوبنهاور وهو أساسي في الموجة الرابعة إن كان لا بدّ من اعتبار «كوفيد19» فرصة تاريخية لاستعادة المعنى المنسي أو المساحات المستبعدة للعقل نفسه. “إنسان الموجة الرابعة” ولكي يتفادى مصير “الإنسان الأخير” عليه أن يستعيد لحظة شوبنهاور، أي الانتصار على الرغبة والوعي بها والتّسامي فيما هو مستدام.
لقد أوصلت الموجات السالفة للحداثة الإنسان إلى حافة اللاّمعنى، والآني، والذّهان الاستهلاكي، لا شيء بات قادراً على التّأنّي، حتى الزمن فقد محتواه في دورة الاستهلاك. إن إنسان الموجات السالفة ظلّ يهيّئ الطريق -الذي لا رجعة فيه- نحو انحلال ماهوي كارثي تجاوز معناه ليضع الكوكب برمته أمام مصير مجهول. لقد أصبح نشازاً غريباً عن النّظام الكوني ومهدداً للسلامة البيئية. وحتى الآن هو يخطئ حقيقة المشكلة والتي لن تكون هي الحداثة التي هي منعطف عام في تاريخ البشرية، بل النّقاش حول الأنماط والموجات. وستظل المغالطة هي السلاح الأساسي في هذه المعركة التّاريخية، وهي لن تغير شيئاً من واقع الأشياء، فحتى التّاريخ بات تدويناً زائفاً لما تمليه الرغبة، ولا زال تاريخ الحداثة نفسه يتطلّب تجديد النّظر لأنّه لم يُكتب بعد، وما نقد أنماط وموجات الحداثة إلاّ إعلاناً عن هذه الحاجة الماسة.
لا زال الإنسان، وهو على أعتاب الموجة الرابعة للحداثة، لم يُفطم بعد من أساطير الموجات السالفة، الثّقة القصوى فيما يمكن للعلم أن يجلبه للكوكب، حبل النجاة الذي يمكن أن يوفّره النمط الاقتصادي الذي لم يعد قادراً على توفير الوفرة التي شكّلت جوهر النظام الرأسمالي، وحتى في ظلّ الاهتزاز السياسي والجيوسياسي الكاسح للعالم، وحرائق وحروب الكوكب، لا زال يعلّق مخرج الأزمة على وجود اللّقاح، وهو كذلك لقاح سيوفر إمكانية للتعايش مع الوباء إلى حين. لا أحد يحدد هذا الحين، ولكن وجود وباء مزمن في حياتنا الجماعية هو علامة على أنّ المطلوب أن لا نخطئ مهما قاومت خلايانا واستنزفت في معارك غامضة من هذا النّوع. إنّ التهديد اليوم لم يعد يصيب الأشياء بالنذرة ولا القيم بالانهيار فحسب، بل تعدى ذلك لوضع مصير خليتنا “البشرية- الحيوانية” في خطر.
يفرض التعايش مع الوباء أن نمنح مسافات جديدة بين البشر، وهذه المسافات لا تقتصر على المسافة المكانية بل هذا تدريب جماعي يعطينا صورة عن الموجة الرابعة التي تعني المسافة بين العقل والرغبة، وما يمكن أن يمنح للعقل فرصة أن يتأمّل من بعيد، فهذا زمان المفارقة لا المعانقة، زمان المسافات التي تعطي للاجتماع طابعاً حذراً وتعيد تنظيم المكان بصورة تقطع مع نمط التّزاحم والاحتشاد وفقدان الرؤية من مسافات أبعد. المسافة هنا فرصة لإعادة اكتشاف الشخصانية والدخول في عصر الامتداد الذي تؤمّنه المسافات.
سيقاوم إنسان الموجات السالفة لأنّه يعيش تحت وقع صدمة إحدى أهم الموجات المصيرية للحداثة، سيقاوم كرضيع يحتجّ على مرارة الفطام، لكنه سيتعوّد على الوضع الجديد الذي لا محيص عنه، ليبدأ رحلة تغيير العادات، فلا زالت قراءتنا لجائحة كورونا قراءة غير تاريخية، ولا زلنا ننظر إليه “كوباء دوري عرفت البشرية نظائر منه وليس هناك من جديد سوى ما يتمتع به من بنية معدّلة فائقة”، هذه القراءة التي تحشرنا وتختزل مأساتنا في دور العلم في اكتشاف اللقاح على أهمية ما يمكن للعلم أن يفعله وتلك وظيفته، هي لا شكّ قراءة ساذجة وغير تاريخية ولا تستحضر أزمة البشر وتموجات الحداثة وبأنّ الجائحة لا تستهدف الإنسان فقط بل تستهدف نمطاً في الحياة وموجة في الحداثة. يحتاج الإنسان اليوم أن يعيد اكتشاف ما فقد قيمته ومعناه في الموجات السالفة، مثل الزمن، المكان، القيم، العقل، الإنتاج، الاستهلاك، الكينونة، الاجتماع، الجدوى من الأشياء.. من العيش.. من التفكير.
سندرك اليوم أنّ موجات الحداثة هي حالة الحداثة نفسها في إنقاذ نفسها، هي انعتاق للإنسان من حالة الانقلاب والمسخ، هي دينامية حيث لا يمكن للإنسان أن يطمئن ما دامت الحداثة لم تحقق التسوية والعدالة، ولم تقض على ثنائية “السادة والعبيد”، فالرأسمالية وأنماطها نفسها هي استمرار للنظام العبودي بكيفية أخرى. سيلفظ الوجود مسخ الموجات السالفة، سيشعر إنسانها أنّه لم يعد بإمكانه التكيف مع وضعه الجديد وليس أمامه سوى التغيير.
في عرض قيّم لألكسندر بيليت: (وحوش الحداثة.. المسخ عند المئة)، نقف على مقدمات وبذور «مسخ» فرانز كافكا كما في فيلم «فرانكشتاين» لماري شيلي، المسألة تفوق كونها نظرة سوداوية لكافكا، بل هو استشعار مبكّر للكارثة مع أن كافكا وشيلي كانا راديكاليين سياسياً في زمانهما وموطنهما، إلا أن كافكا كان يكتب انعكاس الرؤية من مرآة خلفية لديها أكثر من مئة عام في التجربة الاجتماعية الحديثة. وعلى الرغم من أن المذبحة المصنّعة والسلعية عرضاً من الحرب العالمية الأولى يمكن لها أن تغدو السبب وراء شحوب شيلي، إلا أن القدرة التكنولوجية لغاز الخردل، ودبابات “مارك خمسة”، والأسلاك الشائكة، كانت جميعها محبوكة بقدر كبير في زمن كافكا ومكانه.
كتبت ماري شيلي روايتها تلك عام 1818، أي وعيها المتقدم بما آلت إليه وضعية الحداثة وأزمة النظرة الاختزالية للإنسان. فلا زال الإنذار بمآلات الموجات المستنفذة للحداثة يتتالى، وهذا تراكم لا غرو سينتهي بتعزيز الحاجة إلى فكّ الارتباط بالموجة السابقة، وإن كان أمر مبارحة الموجات هو تاريخي وشديد التعقيد وليس أمراً متاحاً بسهولة.
يتطلب الوعي بهذه الأزمة ثورة في الفنّ والآداب، أي في الشعر والرواية والتشكيل والمسرح والسينما.. لا يكفي المقاربة التقنية، فالمفاهيم تنتج الموقف والرؤية لكن نحن بحاجة إلى مثال كافكا للتعبير عن المسخ الذي أنتجته موجات تركت الكثير من الإهمالات، لكن «المسخ» في الأطراف يعكس السذاجة ويثير الشّفقة.
يصعب هضم هذه الحقيقة، وسوف يعاند الكائن الذي ينتظر اللّقاح -وليس غير اللقاح- ليعود إلى سالف عوائد الموجات السالفة للحداثة، ولكن عبثاً، فالتغيير قادم، وحتى تلك اللحظة ستظلّ بقايا الموجات السالفة، وهذا أمر يجب النظر إليه في المراكز لا الأطراف، إنّ الأطراف مهما بدت ذات قابلية للتكيّف مع التحولات التاريخية، فهي مستهلكة وتابعة لما يقوم به المركز، إنّ المفاهيم الكبرى للحداثة لا يمكن اختبارها في الأطراف، كالاستهلاك ونمط الإنتاج، وما بعد الحداثة وغيرها من الظواهر التي لها معنى في المركز غير ما نعيشه في الأطراف التي ليس لها قرار في التحولات الحداثية الجديدة، ولكنها جزء من حداثة تكاملت فيها الأدوار خلال الحقبة الرأسمالية بين المراكز والأطراف. وهذا يعني أن الموجة الرابعة ستكون هي اللحظة التي سيتصالح فيها العقل مع الطبيعة، وتتقلّص الفجوة بين المركز والهامش على قاعدة تصالح الإمكان المحلي والإمكان الحداثي، ما يجعل الموجة الرابعة هي المصهر لكل الإمكانات البشرية وعبقرية التنوع والتركيب الخلاّق، وهي لحظة تتطلب الإنصات لكل أشكال النقد الجريء والشجاع.