د. نعمان المغربي (باحث في علوم الأديان المقارنة – تونس)
§ موضوع السورة:
تخليد ﴿الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾، يوم العاشر المُحَرَّميّ، الذي وُعِدت به «الشمس» المحمدية حتى يستمرّ بناء «سماء» الولاية الأحمديّة وتوسّعها: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾، (سورة الذاريات، 47)
§ مقولات السورة: 1. «السّماء»: الدورة الرسالية المحمدية. الظهور التاريخي المحمدي في تكاملاته.
2. «البُرْجُ»: الأمَدُ المحمدي الواحد في تبلوره المناسب لتطوّر العقل الإنساني.
«الأبراج» في «السّماء» المحمدية: إثني عشر، وتستمد سائل انفطامها وترابطها من النور الزهراوي.
3. «الفِرعونية»: هي المركز الإمبريالي في العالم بحقبة معينة. و«الفِرعونية» التي قاومها «البُرْج» الثالث (عليه السلام) هي الإمبريالية الأموية التي «سرقت» التحرير الإسلامي للعالم.
4. «الثمودية»: هي قوى البغي التابعة والخادمة لـ«الفِرعونية».
|
تمهيد: مُفترَض أن سورة البروج تغطي ﴿ ٱلنَّبَأ﴾ الكربلائي:
كلنا نعلم حديثيْ رسول الله(ص) في قيمة القرآن الكريم: «كِتَابُ الله، فِيهِ «نَبَأُ»[1] مَا كان قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ»، « من أراد العلم فليقرأ القرآن، فإن فيه علم الأوّلين والآخرين»[2].
وكنت أتساءل دائما: كيف يكون القرآن الكريم حاويا لخبر ما بعدنا، ولا يأتي على «نبإ» حاسم وفارق وتاريخي ذي حجم عظيم ملحميا ومأساويا، وإنسانيا ووجوديا مثل خبر كربلاء التي لا يناقش أحد في عظمته؟؟
وباعتبار أنني متأكد من ألوهية القرآن الكريم وصدق رسول الله(ص) عقلانيا، قمت بعملية استقرائية لكل السور، فوجدت أن هذا ﴿ٱلنَّبَإِ ٱلۡعَظِيمِ﴾، «النبأ» الحسيني ـــ الكربلائي، مُغَطًّى بالأقل في سورتين: سورة البروج وسورة القمر.
فكيف يمكن أن نثبت هذا المُفْتَرَض بقرائن كل آيات سورة البروج؟
***
- ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾: أقسم بالدورة الرسالية المحمدية، ذات «البروج» الإثني عشر عليهم السلام.
يحتوي «البُرْج» على منازل. و«البُرْج» الواحد، عليه السلام، ﴿يُبدئ﴾ أنوارَ «الشمس» المحمدية على مُكْثٍ…
- ﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾: أقسم بعَظَمة يوم كربلاء. فقد وعد به «السِّراج المنير»، الوهّاج، حتى يتم نور الإنسانية، ولو كره «الفراعنة» وأزلامهم « الثموديون». قال الإمام الحسن(ع) لأخيه الإمام الحسين(ع): « لا يوم كيومك يا أبا عبد الله»، لعظمته ملحميا و مأساويا و إنسانيا.
قال الامام الحسين (ع): « من لحق بي منكم استشهد معي، ومن تخلف لم يببلغ «الفتح»». و«الفتح» هو من ناحية فكّ الحصار عن دين محمد(ص) الذي كاد ينقرض[3] مثل أديان أخرى، ومن ناحية أخرى هو التأسيس للثورة الدائمة من أجل الإنسان و المستضعفين حتى «فتح» العالم على العدل والخير الكاملين مع الظهور المهدوي المبارك. تلك هي القيمة التاريخية لـ«اليوم الموعود» الكربلائي.
- ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾: أقسم بـ«شاهد» ذلك اليومِ، «البُرْجِ» الثالثِ في «البروج» الإثني عشر، سيدنا الحسين عليه السلام؛ و«المشهود»: هم صحابة الإمام(ع) في ذلك اليوم العظيم ﴿ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾.
«الشاهد»، هو الإمام الوريث للنبوة المحمدية: ﴿أَفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ [ هو محمد]، وَيَتلوهُ [= يَعْقُبُه] شاهِدٌ مِنهُ﴾ (سورة هود، الآية 17). «السَّلامُ عـَلَيـْكَ يا وارِثَ آدَمَ صـَفـُوةِ اللهِ. السَّلامُ عـَلَيْكَ يا وارِثَ نـوُحٍ نَبــِيِ اللهِ. السَّلامُ عـَلَيـْكَ يـا وارِثَ إبـراهيـمَ خـَليـلِ اللهِ. السَّلامُ عـَلَيـْكَ يا وارِثَ موســى كـَليِم اللهِ. السَّلامُ عـَلَيـْكَ يـا وارِثَ عـيـسى روُحِ الله. السَّلامُ عـَلَيْكَ يا وارِثَ مـُحـَمـّدٍ حـَبـيبِ اللهِ. السَّلامُ عـَلَيـْكَ يـا وارِثَ اَميرِ المُؤمِنينَ وَلَيِ اللهِ. السَّلامُ عـَلَيـْكَ يَا ابـنَ مـُحـَمـّدٍ المـُصـطـَفـى. السَّلامُ عـَلَيْكَ يَا ابـن عـلي المرتـضـى. السَّلامُ عَلَيْكَ يَا ابـن فاطـمة الزهراء. السَّلامُ عَلَيْكَ يَا ابـنَ خَديجَةَ الكُبـرى». فهذه «الشاهدية» إنما هي وراثة لكل قادة الدين والهدى منذ بدء البشرية، بعد أن كاد «الاستخفاف» الأموي والطاعة «الثمودية» للأمويين تطيح بالدين وقِيَمِه العدلية.
«الشهيد»، هو المعنى الأرَانيّ لـ«الشاهد»: ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ (سورة ق، الآية 21): «السائق» هو صاحب السَّوْق، الرسول الذي يُدبّر الدورة الرسالية، و«الشهيد» هو الذي يرِثُه مِنْ آلِهِ في القيمومة على المَوَالي ﴿وَإِنّي خِفتُ المَوالِيَ مِن وَرائي (…) فَهَب لي مِن لَدُنكَ وَلِيًّا﴾ (سورة مريم، الآية 5).
***
- ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾: فكّر سيدنا الحسين عليه السلام في حَفْر «أخدود» لكي يُدَافِع عن نفسه، وعن صحابته، وأهل بيْته (ومنهم «البُرْج» الرابع: زين العابدين(ع))، ووضعوا فيه النيران، لمزيد الإعداد الدفاعيِّ.
- سمح السَّوْقَ الدفاعي الحسيني لفئة قليلة أن تصمد ثلاثة أيام أمام جيش تابع للدولة بعدد مهول (نحو إثنين وسبعين قبالة ثلاثين ألف جندي أموي بالأقل). ومن جزئيات ذلك السَّوْق حفر الإمام الحسين(ع) وأصحابه «أخدودا» / خندقا يذكِّرنا في خندق رسول الله(ص) في معركة الأحزاب. وقد أضاف الإمام(ع) إلى الفكرة العسكرية المحمدية ـــــ السَّلمانية جزئية النار من أجل دعم دفاعاته. وهنا ظهر الإمام (ع) ذا عبقرية عسكرية مثل جده(ص) وأبيه وأخيه(ع). وثَّق الشيخ المفيد السَّوْقَ الدفاعي الحسيني، فكتب: « وأقبل القوم يجولون حول بيوت الحسين عليه السلام فيرون الخندق في ظهورهم والنار تضطرم في الحطب والقصب الذي كان ألقي فيه»[4] .
وقد نصبت العبقرية العسكرية الحسينية «الخيام في موضع بعيد عن رمي سهام العدو»[5]. وقد كانت الخيام على الشكل التالي: خيمة القيادة، خيمة الإسعاف، خيمة الماء والسقاية، خيمة الشهداء، خيمة المتاع والماء والعُدة، خيمة النظافة، خيمة الدفاع، خيمة السجّاد (ع)، خيمة الأنصار، خيمة بني هاشم، خيمة العيال[6].
وكانت خيمة العقيلة زينب عليها السلام خلف خيمة الحسين عليه السلام، بينما كانت خيام شبان بني هاشم على جانبي خيام النساء والأطفال. «وقد كانت خيام الأصحاب معزولة عن خيام أهل البيت وبني هاشم. و ضربت مجمل الخيام على هيئة الهلال متقاربة غير متفرقة أو متباعدة، من أجل سهولة الدفاع عنها. وحفروا خلف الخيام خندقاً حتّى لا تهاجم من الخلف»[7].
وكان من الأخلاقية العسكرية الحسينية عدم مبادأة العدو، تماما كالأخلاقية العسكرية المحمدية ــــ العلوية ـــ الحسنية ـــ الحسينية: « و رام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، فمنعه الحسين (ع) من ذلك. فقال له: ” دعني حتى أرميه فإن الفاسق من عظماء الجبارين، وقد أمكن الله منه”. فقال له الحسين عليه السلام: “لا ترمه، فإني أكره أن أبدأهم”»[8] .
***
- ﴿النَّارِ ذَات الوَقُودِ﴾: هي في الحقيقة- فعلا- من نار جهنم التي سيصلونها: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ (سورة العنكبوت، الآية 54).
وقد كان استهزاء شمر بن ذي الجوشن بـ«الأخدود» الحسيني وناره مثيرا لاستعادة الإمام الحسين(ع) لدعاء سورة البروج عليه وعلى «جنود» الجيش الأموي الظالم ومقلديه: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾: «فنادى شمر بن ذي الجوشن ــــ عليه اللعنة ــــ بأعلى صوته: يا حسين، أتعجلتَ النارَ قبل يوم القيامة؟ فقال الحسين عليه السلام: “من هذا؟ كأنه شمر بن ذي الجوشن ” فقالوا له: “نعم”، فقال له: “أنت أولى بها صليا!”». وبذلك كان الإمام الحسين (ع) يستدعي القرآن الكريم: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحۡشُرَنَّهُمۡ وَٱلشَّيَٰطِينَ ثُمَّ لَنُحۡضِرَنَّهُمۡ حَوۡلَ جَهَنَّمَ جِثِيّٗا (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمۡ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحۡمَٰنِ عِتِيّٗا (69) ثُمَّ لَنَحۡنُ أَعۡلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمۡ أَوۡلَىٰ بِهَا صِلِيّٗا﴾. (سورة مريم) [9].
***
- ﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ،وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾: «قَعَد» للحرب أي «هيأ لها أقرانها». فالاستعداد الأموي بالتحالف مع «ثمودية» المسلمين لقتل الإمام الحسين(ع) وقيمه لم يكن صدفة أو فجأة، بل كان مخططا له منذ عقود طويلة. جاء في الدعاء المأثور«فــَلَعَنَ اللهُ اُمـةً أَسرجَت، و َاَلجمـَتْ، وَتـَهَيَأت، و تنـقـبـت لِقـِتالِك». ولفظة «الإسراج» هي بالتغيير اللفظي اليوناني: «إستراتيجيا»، إذ دخلت إلى اللغة اليونانية بواسطة التأثير العربي ــ السُّرياني.
كان «الفراعنة» الأمويون وحلفاؤهم «الثموديون» يعلمون علم اليقين أنهم يقاتلون أعظم الناس في العالم آنئذ: الإمام الحسين وزين العابدين وأهلُهُمَا وصحابتهما (عليهم السلام جميعا)، وأنّ الحق معهم لا مع الطاغية. ومنهم عمر بن سعد بن أبي وقاص الذي باع دينه بوهم السلطة والمال والأثاث والرِّيّ، فخسرهما جميعا.
«لقد دعا الحسين(ع) براحلته، فركبها ونادى بأعلى صوته: وجلهم يسمعون – فقال: ” أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحق لكم علي وحتى أعذر إليكم، فإن أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فأجمعوا رأيكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون، إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين! فقال له شمر بن ذي الجوشن”: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول”. فقال له حبيب بن مظاهر: “والله إني لأراك تعبد الله على سبعين حرفا، وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك”. ثم قال لهم الحسين عليه السلام: ” فإن كنتم في شك من هذا، أفتشكون أني ابن بنت نبيكم! فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة؟! ” . فأخذوا لا يكلمونه. فنادى: “(يا شبث بن ربعي، يا حجار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار وأخضر الجناب، وإنما تقدم على جند لك مجند؟! ” فقال له قيس بن الأشعث:” ما ندري ما تقول، ولكن انزل على حكم بني عمك، فإنهم لن يروك إلا ما تحب”. فقال له الحسين(ع): ” لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد “. ثم نادى: ” يا عباد الله، إني عذت بربي وربكم أن ترجمون، أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب “».
|
***
- ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾: إنهم ناقمون عليهم لأنهم يريدون «دولة كريمة (=عزيزة)، تُعِزُّ الإسلام وأهله»، لأنها تنبني على الكتاب الإلهي الحكيم، العادل، «وتذل بها النفاق وأهْله(من الأمويين «الفراعنة» و«ثمود» التابعة لهم)»؛ ولأنها «حميدة» لأنها تنتسب إلى حِكمة الأحْمَد في العالمين(ص)، جد « البرج» الثالث (ع).
لخص الإمام الحسين(ع) هجرته بقوله: « إني لم أخرج أشرا ولا بطرا، ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله). أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي». وقال أيضا: «إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارا في دنياكم».
***
- ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّـهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾: وما قيمة مُلكِ أيِّ يزيدٍ، ذلك المُلْك المجازي غير الحقيقي، وهو مخلوق لله تعالى، صاحب المُلْك الحقيقي، والشهيد على الأعمال القبيحة لأي فرعون وأيّ ثمود مدعم له؟
- ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾: لقد عَذّبوا أطهر مَنْ في الأرض آنئذ 3 أيام بلياليها، تجويعا وتعطيشا، وكَسْرًا للأعضاء (الأيدي، والأصابع، والسيقان، والأعين)، وتقتيلاً فظيعًا وتمثيلا(مِنْ أسفل الجسد إلى أعلاه، وتهشيمًا للرؤوس…)… ثم بَعْد ذلك في رحلة الأسر إلى دمشق فعواصم الوطن الإسلامي آنئذ، وترويعًا للأطفال والنساء، وغَصْبًا للحلي والمَتَاع، وجَلْدًا ووضعًا للأغلال على طريق المشي حُفَاةً إلى دمشق، عاصمة الإجرام آنئذ (قبل أن تبدأ تحريرها السيدة الزّينب بإقامتها الدائمة هناك[10])…
كان بإمكانهم أن يتوبوا لأن الإمام وَعَظَهُمْ، ووَصَلَ مضمونُ رسالته إليهم، ولكنّهم أصَرّوا على تجاهل الحقيقة الواضحة، تماما كما حدث مع سيدنا نوح(ع) إذ وَرِثَه «الشاهدُ»، «البرجُ»، الإمامُ الحسينُ(ع): ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10)﴾ (سورة نوح).
***
- ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾. يقول الإمام الحسين(ع): «… فَإنّي لا أعْلَمُ أصْحاباً أوْفَى وَلا خَيْراً مِنْ أصْحابي، وَلا أهْلَ بَيْتٍ أبَرَّ ولا أوْصَلَ مِنْ أهْلِ بَيْتِي. فَجَزاكُمْ اللهُ عَنِّي خَيْراً». ولذلك يحق لهم أن يقولوا كالإمام علي (ع): «فزت ورب الكعبة!».
***
- ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾: في الانتقام الناجز، مِنْ كل مَنْ حرموا البشرية مِن ﴿نَاقَة﴾ محمد (ص) [11]، من الذين قَتَلوا بوحشية أصحاب ﴿اليَوْمِ المَوْعُودِ﴾، وأبرزهم: الوليّ الأنيق: الحسين(ع). لم يقتل ﴿نَاقَة﴾ صالح (ع) إلا رهط قليل، ولكن الانتقام الإلهي كان لجميع ثمود لأنها رضيت بذلك. ولذلك كان الانتقام الإلهي لتعذيب الأمويين ﴿نَاقَة﴾ محمد(ص) و أصحابهم تعثر الحضارة الإسلامية و التحطيم المغولي والصليبي والإمبريالي ــــ الغربي.
***
_ ﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ﴾: بدأ اللهُ تعالى الإسلامَ بمؤسِّسه : محمد(ص)، وهو يعيده بالحسين (ع). فهو قادرٌ على إعادة تأسيس الأمة المحمدية بعد صيرورتها «ثمودا» تحكمها «الفراعنة» الأمويون. وتلك «الإعادة» بواسطة الاستشهاد الحسيني: «حسين مني، وأنا مِن حسين». فكما كان الحسين نابعًا من الرسالة المحمدية، فإن استشهاد الحسين(ع) هو الذي جعل لـ«السماء» النبوية المحمدية تُصبح أكثر أرانيّة و«أناقة»؛ وقابليّةً للبقاء، وأبعدَ نهائيا عن التحريف[12]. فالإسلام محمدي المبدإ، فاطمي ــ علوي الصمود، حَسني ـــ حُسيني الخلود.
- ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾: الغُفران هو المَلْأُ، إذ يملأ الأرض عَدْلا ووِدًّا بين الناس، بعد أن امتلأت ظلما وأحقادًا.
- ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ﴾:»العرش» هو النظام السياسي. والنظام السياسي «المجيد» هو «الدولة الكريمة» التي سيقيمها البُرج الثاني عشر (ع) باسم «السماء» النبوية المحمدية: « اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»، تتجسد فيها: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾.
- ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾: التفعيل كان بثورة الحسين، استمرارًا للمشروع المحمدي العظيم. ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾.
***
- ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ:فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ؟﴾: تَخْلُصُ السورة الكريمة إلى التعميم الاستعباري. فـ«نبأ» «البرج» الثالث(ع) هو ﴿حَدِيثُ﴾ أيِّ «نبإٍ»، دائمُ الحداثة والتجدّد. فلو لم يكن «نبأ» كربلاء «حديثا» دائما، لانتهى الأمر بانتقام المجاهد الكبير المختار الثقفي(رض) من جميع قتلة الحسين(ع) وأصحابه و«فاتني»(= معذبي) أهلِ بيته.
قال الإمام الصادق(ع): «إِنَّ لِقَتْلِ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) [بما هو قيم ومشروع إنساني «نَبَئِيٌّ»] حَرَارَةً فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَبْرُدُ أَبَداً»، «كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء»… قال روح الله الموسوي(رض): « كلَّ ما لَدَيْنا إنما هو من محرَّمٍ وعاشوراء».
وقد جاء في الزيارة: « اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا ثارَ اللهِ وَابْنَ ثارِهِ. اَلسَّلامُ عَلَيْكَ اَيُّهَا الْوِتْرُ الْمَوْتُور. اَلسَّلامُ عَلَيْكَ اَيُّهَا الاِمامُ الْهادِي، الزَّكيُّ. وَعَلى اَرْواح حَلَّتْ بِفَنائِكَ، وَاَقامَتْ فِي جَوارِكَ، وَوَفَدَتْ مَعَ زُوّارِكَ. اَلسَّلامُ عَلَيْكَ مِنّي ما بَقيتُ، وَبَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ!». فهو ثأرٌ دائم على الظلم الاجتماعي، والإمبريالية(=«الفرعونية»). فالحسين(ع) سيبقى «الحديث»، الجديد، المتجدد، الدائم، الذي يقضّ مضاجع «التجنيد» الإمبريالي و«الثمودي» ـ الكمبرادوري، إلى يوم الظهور المهدوي.
***
لقد استطاعت «فرعونية» الأمويين بـ«استخفافَهم» المسلمين، مستثمرين التنصيب ـ التيمي ـ العدوي لهم ولاّةً دائمين دون محاسبة و دون خراج لمركز الخلافة، ليتراكم «التجنّد» الأموي «كنزا»[13] ضد مشروع «الشاهد» الحسيني، العَدَالي. فأصبح المسلمون «ثمودا» لـ«الفرعونية» الأموية: فعلماء الدين والمثقفون «ثموديون»، إما يبايعون اليزيد المعاصر لهم، أو ينصحون حسين عصرهم بالخنوع أو الهروب، وعامة الناس هم عبارة عن «شِمْر» ينفذ بعمى بصيرةٍ أوامر «الفرعون» أو الأمير «الثمودي»، ليتشاركوا جميعا في قتل «الناقة» المحمدية الداعية إلى إعادة الدين وإلى حرية الدنيا. فلا يمكن لـ«الفرعونية» أن تنجح دون تحالف «الثمودية» معها. و «الثمودية» هي «قلة الماء»، أي ضعف الانتماء إلى الإسلام حقيقة، فهو انتماء سطحي أو نفاقي .
كان المشروع الحسيني ضد «التجنيد» الشيطاني المتحالف، بين «الفرعونية» عموما، (و« الفرعونية» الأموية حيني)، وبين «ثمودية» المسلمين المعاصرين والأخلاف.
***
_ ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ﴾: وضح لهم الإمام الحسين(ع) نسبه وأصله، ومشروعه، فعرفوه جيدا، ولكنهم «جحدوه». هنالك دعا الإمام الحسين(ع) ربه، كما فعل سيدنا نوح(ع) عندما تأكد من«كفر» قومه بعد أن رأوا الحقيقة جيدا:﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوۡتُ قَوۡمِي لَيۡلٗا وَنَهَارٗا (5) فَلَمۡ يَزِدۡهُمۡ دُعَآءِيٓ إِلَّا فِرَارٗا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوۡتُهُمۡ لِتَغۡفِرَ لَهُمۡ، جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ، وَٱسۡتَغۡشَوۡاْ ثِيَابَهُمۡ، وَأَصَرُّواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ ٱسۡتِكۡبَارٗا( …)قَالَ نُوحٞ: رَّبِّ إِنَّهُمۡ عَصَوۡنِي، وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمۡ يَزِدۡهُ مَالُهُۥ وَوَلَدُهُۥٓ إِلَّا خَسَارٗا﴾. فلقد خَيّرتْ الأمة الإسلامية «المُتَثَمِّدة» اتباع «المال»/«الكنز» الإمبريالي الأموي والعصبية الأموية.
«لما صبّحت الخيلُ الحسينَ(ع)، رفع يديه وقال: “اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة. وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من هم يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك رغبة مني إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته، وأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة” »[14].
***
- ﴿وَاللَّـهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ،بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾: «الشمس» المحمدية و«أبراجها»، هما «القرآنُ العملي»، القرآن مطبّقا: ﴿قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾، مُمَجَّد لدى الإنسانية، إلى يوم ظهور الإمام المهدي(ع)، بل إلى يوم القيامة، بل إلى الأبد. وأفعالهم التاريخية، الحافظة للدين الإلهي وللإنسانية، تبقى دائما في سجل إلهي ذهبي: ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾. كانت وكذلك أفعال المقتدين بهم وأنصارهم.
كان معاوية ويزيد يريدان تحطيم الإسلام، وتمزيق القرآن الكريم وإخراج المسلمين من الإسلام، ولكن بهذا اليومِ ﴿الْمَوْعُودِ﴾ كانت معجزة الإسلام: « الإسلام محمدي الوجود، علوي الصمود، حَسَنِي-حسيني البقاء».
﴿وَاللَّـهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ﴾: كان «البرج» الثالث(ع) وأهل بيته وأنصاره يستمدون شجاعتهم الإنسانية من رؤيتهم لله تعالى وهو يحيط بعظمة فعلهم التاريخي. قال الإمام الحسين(ع): «هَوَّنَ عَلَيَّ مَا نَزَلَ بِي أَنَّهُ بِعَيْنِ الله». وقالت السيدة زينب(ع): « لم أر إلا جميلا». فهذا اليوم الموعود إنما هو لاستعادة الدين المحمدي الذي كاد يندثر، وللحرية الإنسانية التي أسسها النبي(ص) ليقضي عليها «الفراعنة» الأمويون وفريقهم «الثمودي» المتحالف معهم.
خلاصة:
قمنا بعملية استقرائية تامة لكل آيات سورة البروج المباركة، فوجدناها كلها متماثلة مع أعيان يوم كربلاء. وبذلك صح مُفْتَرَضُنا فيها. . أقسم الله تعالى بـ«سماء» الدورة الرسالية المحمدية، ذات «البروج» الإثني عشر عليهم السلام. وأقسم بعَظَمة يوم كربلاء. فقد وعد به «السِّراجَ المنيرَ»، الوهّاج (ص)، حتى يتم نور الإنسانية، ولو كره «الفراعنة» وأزلامهم «الثموديون». _ كما أقسم بـ«شاهد» ذلك اليومِ، «البُرْجِ» الثالثِ في «البروج» الإثني عشر، سيدنا الحسين عليه السلام؛ و«المشهود»: هم صحابة الإمام(ع) في ذلك اليوم ﴿بأيام الله﴾. _ لقد دعا الله تعالى على أصحاب «الأخدود»، الذين حَفر سيدنا الحسين عليه السلام ضدهم ذلك «الأخدود» لكي يُدَافِع عن نفسه، وعن صحابته، وأهل بيْته (ومنهم «البُرْج» الرابع: زين العابدين(ع))، ووضع فيه النيران، لمزيد الإعداد الدفاعيِّ. _ إن الله تعالى ﴿ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ﴾ الإسلامَ بمؤسِّسه : محمد(ص)، وهو يعيده بالحسين (ع). فهو قادرٌ على إعادة تأسيس الأمة المحمدية بواسطة الاستشهاد الحسيني: «حسين مني، وأنا مِن حسين »، وهو السبب الأعظم لظهور ﴿العرش المجيد﴾. .. إن الحسينية هي ثقافة مقاومة لـ«التجند» «الفرعوني» (= الإمبريالي) و« الثمودي» المساند له. وهي دعوة لعز الدين وتحرير الدنيا من «تثمّد» الإسلام وأهله. |
***********************************************
[1] في تدبرنا في سورة النبأ تبينا أن «النبأ» هو الحدث أو الفرد أو الجماعة بما هو فعل حاسم وفارق وقطيعيّ، صانع للمستقبل المتوسط والبعيد.
[2] رواهما أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه (29421) الترمذي في سننه (2967) والمروذي في قيام الليل (213) و الدارمي في سننه (3284) والبزار (752) والبيهقي في شعب الإيمان (1883) ، وذكره الزمخشري في تفسيره.
[3] استدللنا على ذلك في:المغربي (نعمان)، «المَساق الحسيني»، مجلة العقيدة، نوفمبر 2019.
[4] الشيخ المفيد، الإرشاد، مؤسسة الأعلمي، بيروت 2008، ج 3، ص 96.
[5] القرشي(باقر شريف)، حياة الإمام الحسين(ع)، ردمك، 1975، ج 3، ص 93.
[6] الطعمة(سلمان هادي)، تراث كربلاء، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات،1983، ص112.
[7] القرشي(باقر شريف)، م. م ، الصفحة نفسها.
[8] البحراني(عبد الله)، العوالم، الإمام الحسين(ع)، ردمك، ص245.
[9] « مَرْــ يَم»، هي بلغة سوريا العربية القديمة: سيدة النساء. وهذا المقطع الأخير بالسورة(من الآية 59 إلى الآية الأخيرة ) يحتمل أن يعني «اليوم الموعود» لابن سيدة نساء العالمين(ع) ﴿ وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ خَيۡرٞ مَّقَامٗا وَأَحۡسَنُ نَدِيّٗا (73) وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَحۡسَنُ أَثَٰثٗا وَرِءۡيٗا﴾.
[10] « الزّينب»: «شجر حسن المنظر، طيب الرائحة» (ابن منظور).
[11] انظر تفهمنا لـ« الثمودية » في تدبرنا لسورتي الإسراء والشمس.
[12] راجع: المغربي (نعمان)، «المَساق الحسيني»، مجلة العقيدة، نوفمبر 2019.
[13] انظر مقولة «الكنز» في تدبرنا بسورة التوبة. ولقد كان سيدنا أبو ذر (رض) من مقاومي بدايات «الكنز» الأموي.
[14] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج. 92، ص. 202 .