الجمعة , 29 نوفمبر 2024
أخبار عاجلة

تدبّر طالب التيسير في فضاء القرآن الكريم: تدبر في سورة الأحزاب

بقلم د. نعمان المغربي – مختص في علوم الأديان المقارنة، جامعة الزيتونة – تونس)

 

§       قَلْبُ السورة المفترَضُ:

﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ(الأحزاب، 72).

§       موضوع السورة:

تتناول سورةالأحزاب، الشريفة، حالة دولة النبي، صلى الله عليه وآله، وهي بصدد الانتقال من حالة «التأسيس» و«الدفاع»، إلى حالة «الانتشار في الأرض» (الآية27). وقد حدّدت السورة الكريمة العناصر الرئيسَة للسَّوْق «الانتشاريِّ» حتى يدخل المسلمون [﴿أَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا﴾ (الأحزاب،27)].

▪︎  محاور السورة:

1.    لا بُدّ مِنْ «مِيثاق» بين أطراف المسلمين لحفظ «الأمانة» (الآيات 7 و8 و….).

2.    مَعْقِدُ هذا الميثاق، حسب سورة الأحزاب، هو أولوية النبي، «أبي إحدى نسائكم»، بل «أبي سيدة النساء وأم أبيها»، وأولوية «أهل البيت»«المطهَّرين تطهيرًا» (الآيات 6 و33 و40 و46 و56).

3.    «نِعمتَان» سيقودان، بإشراف النبي، صلى الله عليه وآله، «وطء الأرض» انطلاقا من بلاد فارس والعراق، وبلاد الشام، هما: زَيد بن حارثة (الآية37) وسَلْمَان الفارسي، رضوان الله عليهما.

4.    لأمهات المؤمنين دور هام في السَّوْق «الانتشاري»، إذا تتبّعن المعايير المعروفة، فإحداهنّ (الأكثر التزاما بتلك المعايير، وهي السيدة خديجة (ع) موضوعيّا) سيكون منها أهل البيت عليهم السلام، وبعضهن سيشهدن على رسالة النبي، صلى الله عليه وآله، في حياته وفي حياة أهل الكساء عليهم السلام، علمًا نبويّا ومَوقفا سياسيا، وغير ذلك.

§       المقولات المركزيّة للسورة:

1-   الأمانة

2-   التقوى

3-    الأولوية على المؤمنين

4-    الميثاق

5-    الحزب: الجماعة الشديدة التضامن، الشديدة التألّب الآتي على الآخر من كل جانب.

6-    الأعرابية (راجع تدبرنا في الكيان السوري: محمد-الفتح-الحجرات).

7-    الأرض غير الموطوءة: الشام وإيران – شمال إفريقيا – القارة الأمريكية – كامل الأرض(4 بطون).

8-    أهل البيت.

         سياق السورة:

بهزيمة«الأحزاب» سنة 5هـ، كانت دولة النبي صلى الله عليه وآله بصدد الانتقال من حالة الدفاع إلى حالة «الانتشار في الأرض».

ولذلك جاءت سورة الأحزاب توثّق «ميثاقا» يحفظ «الأمانة» الإنسانية التي حملتها أمة النبي صلى الله عليه وآله، وتُرَاجِع أصل القوة:«أهل البيت» عليهم السلام، وزوجات النبي ﴿إِنِ اتَّقَيْتُنَّ، و«النعمتين» (سلمان الفارسي وزيد بن حارثة) اللّتين ستقودان البشارة النبوية في فتح بلاد فارس والبشارة النبوية في فتح بلاد الشام والروم [﴿وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا﴾ (الأحزاب،27)].

 

 

  • الأمانة الإنسانية والميثاق:

 

«عَرْضُ الأمانة» هو «إبداع حقيقة الهوية» عند الإنسان «لقوة استعداده واقتداره على حَمْلها، فانتحلها لنفسه بإضافتها إليه»[1].

«الأمانة»، بما هي مقولة قرآنية، هي الحَمْل الإنساني –حَصْرًا- «للعلم» (نقيضا لـ«الجهولية») و«للعَدْل» (نقيضا لـ«الظَّلُومية»)، و«للتوبة» (نَقِيضًا لـ«الركون» و«الركود» والتكرار، وتخلّقًا بـ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾).

هذا الاستعداد قابلٌ للحَمل مِن كل الإنسانية، ولكنها لتسرِّعها (﴿وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً﴾)، قد تُلْبِسُ «الأمانة» مَلابِس لا تُناسِبها فتكون ﴿ظَلُومًا، جَهُولاً﴾. وذلك بعدم توسُّلها في ذلك الحَمْل-بالأوْلَوية الإنسانية وُجودًا، وهي «السماء» أو «الأرض» أو «الجبل». و«السماء» هي المَبْنَى النّبَوي الواحد (السماء الآدَمية، السماء النوحية، السماء الإبراهيمية، السماء الموسوية، السماء المحمدية..).

و«الأرض»، هي الأولوية الوُجوديّة التي تسْبح حول « شَمْسِ»«السماء» النبوية الواحدة، في أمَد محدَّد مِن عُمُر تلك «السماء» النبوية[2]. وأمَّا «الجبال» فهي «أوتَادُ»«الأرض»، التي تُثَبِّتُ مُهمّات تلك «الأرض» التاريخية، مِن عُلماء وثُقَفَاء ومُرَبِّين للشعوب: «العلماء ورثة الأنبياء». ولذلك كان تعبير الآية القرآنية عن الأنفس الكمالية، الضرورية لنجاح حَمْل الأمانة، بالجمع: ﴿فَأَبَيْنَ﴾،﴿يَحْمِلْنَهَا﴾،﴿أَشْفَقْنَ﴾. تلك الأنفس الخاشعة، العظيمة الخوف من الله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾. وسنكون جَهولين، ظلومين لأنفسنا وللآخرين، إذا لم نَحْمل الأمانة بالائتمام بهؤلاء الكُمَّل المراعين لحق الأمانة.

سنكون «منافقين» لذواتنا إذا لم نأتمّ في جهلنا للأمانة بالسماء المحمدية، وبأرض الإمامة، وبجبال «العِلْم» و«العَدْل» و«التوبة»، أي بالذين هُمْ «أوْلَى مِن أنفسنا»، أي أنفسنا قبل أنفسنا.

تقول سورة الأحزاب إن ذلك «النفاق»في حَمْل الأمانة يؤدي إلى «الظلومية» و«الجهولية» وينتهي بتعذيب الإنسان لنفسه بنفسه:﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، لِّيُعَذِّبَ اللَّـهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ«الذين ظلموا بمنع ظهور نور استعدادهم بظلمة الهيئات البدنية والصفات النفسانية، ووضعوه في غير موضعه [=الظلم]، فجعلوا حقه»[3]. وكذلك، ﴿وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ﴾ الذين جَهلوا، لاحتجاجهم بالأنانية، والوقوف مع الغير بغلبة الرَّيْن وكثافة الحُجب الخُلُقية، فعظم ظُلمهم لانطفاء نورهم بالكلية وامتناع وفائهم بالأمانة الإلهية[4].

إنّ حَمل الأمانة لا يكون إلا بمعرفة حقّ الذين هُمْ ﴿أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ فتكون «التوبة» المساوقة لـ﴿كُلّ يَوْم هُوَ فِي شَأَءن: ﴿وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ﴾، الذين يتوبون عن الظلومية والجهولية «بالاجتناب عن الصفات النفسانية المانعة عن الأداء، وعدلوا بإبراز ما أخفوه من حق الله عند الوفاء، وعن الجهل بحقه إذ عرفوه وأدّوا أمانته الله بالفناء»[5]. وبذلك ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا﴾، أي ساترًا لنقائصهم «عن التزكية والتصفية والتجريد والمحو والطمس، بأدوار تجلياته»، ﴿رَحِيمًا﴾، أي راحمًا لهم «بالوجود الحقاني عند البقاء بأفعاله وصفاته وذاته»[6].

لقد مسح الله تعالى ظهر آدم عليه السلام بيده و«أخرج ذريّته منه كهيئة الذّرّ» و﴿وَأَشهَدَهُم عَلى أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم؟ قالوا: بَلى﴾ (الأعراف،172). فيد الله هي «العقل القدس، والروح الأول الذي هو روح العالم المسمّى يمين الرحمان. وآدم هو النفس الناطقة الكلية التي هي قلب العالم. ومَسْحُهُ ظَهْرَهُ تأثيرُ العقل فيها وتنويره إياها بنوره بالاتصال الروحاني. وإخراج ذريته منه إيجاد النفوس الشخصية الجزئية التي كانت فيها بالقوة، وإخراجها إلى الفعل»[7]. وعهد الله إليهم عندما قال: ﴿أَلَستُ بِرَبِّكُم﴾ هو «إبداع علم التوحيد في ذواتهم وميثاق ذلك العهد»، فإذا تجرّدوا من الغواشي «تبيّن لهم ذلك، وانكشف لهم أظهر شيء وأبينه»، فقد قالوا من قَبْلُ ﴿بَلَى﴾ وهو«قبولهم الذاتي»[8].

فالعهد هو «إبداع التوحيد فيهم في الأزل»، وأما العقد فهو «إحكام عزائم التكليف عليهم ليتأدّى بهم إلى الإيفاء بما عاهدوا عليه»، إذ أن كل عزيمة على أمر «توجب إخراج ما في الاستعداد بالقوة إلى الفعل».ف«العقد» هو «الميثاق» في صيغته التاريخية، أي في صيغة الرسالة «المهيمنة» الراهنة.

لقد أخذ الله تعالى ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ﴾ (الأحزاب،7)، وكان ﴿مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (الأحزاب،7)، وكان أساسًا، وأوّلاً ﴿مِنكَ﴾[9]أي من محمد صلى الله عليه وآله، لأنه خُلِق أنطولوجيًّا قبل آدم، وإِنْ خُلِق منه جسديّا، ومن أربعة نبيّين آخرين هم ﴿أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف،35): ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ،وَمِنكَ، وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (الأحزاب،7).

إن «حَمْل الأمانة» فعلا لا يكون إلا بالْتحامها بـ«ميثاق» السماء النبوية، أي بالاعتراف بالأولوية الوجودية لـ«الميثاق» النبوي على النفس الإنسانية الناطقة.

 

  • أولويّة محمد صلى الله عليه وآله من أنفس المسلمين:

 

لقد خلق الله تعالى العالم من أجل محمد صلى الله عليه وآله، فهو أكمل البشر وأكثرهم تعبيدًا نفسه لله: «لولا محمد ما خلقتُ»،«لولا محمد ما خلقتُ آدم»[10].

ولم يُقسم الله تعالى بحياة أي رسول، وأقسم بحياة محمد صلى الله عليه وآله: فـ﴿لَعَمْركَ﴾ (سورة الحجر،72)؛ وقد كان فعل نوح عليه السلام تحت عناية الله تعالى: ﴿وَاصنَعِ الفُلكَ بِأَعيُنِنا﴾ (هود،37)، وكانت تنشئة موسى عليه السلام كذلك: ﴿وَلِتُصنَعَ عَلى عَيني﴾ (طه،39)، لكنّ محمَّدًا صلى الله عليه وآله كان بكليته الشريفة الأجمل داخل هذه العناية ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ (الطور،48).

ولذلك كان من الطبيعي أن يكون ﴿مَكتوبًا عِندَهُم فِي التَّوراةِ وَالإِنجيلِ﴾ (الأعراف،157)، وأن يبشّر به كل نبي وكل وليّ، فهو أكمل إنسان إذ هو الإنسان عينه لا غيره. وكان من الطّبيعي أن يكون ذا ﴿خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم،4)، فلم يُبعث إلا ليعمل مسار التطور الأخلاقي للإنسان: «إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق».

وكأن من الطّبيعي أن يكون للجميع ﴿فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب،21)، فقد وجب «على كلّ مؤمن متابعة رسول الله صلى الله عليه وآله مطلقا حتى يتحقّق رجاؤه ويتمّ عمله لكونه الواسطة في وصولهم والوسيلة في سلوكهم للرابطة النَّفِيسَة بينه وبينهم بحكم الجنسية»[11]. ومتابعة الرسول الأكرم بدايةً تكون «في الأعمال والأخلاق والمجاهدة والمواساة بالنّفس والمال»، فإذا تجرّد وتزكّى تكون المتابعة في موارد القلب، أي «الصّدق والإخلاص، والتّسليم والتَّوَكُّل». ففي منازل النّفس «يحتظي ببركة متابعته بالمواهب والأحوال وتجليات الصفات، كما احتظى بالمكاسب والمقامات وتجليات الأفعال في مقام النفس، وكذا في مقام السر والروح حتى الفناء»[12].

ولا تكون هذه المتابعة صحيحة إلا إذا كان التصديق «في كل ما أخبر به، بحيث لا يَعْتَوِرُهُ الشك في شيء من أخباره، وإلا فترت العزيمة»[13]، وبُطلت أعمال المسلم. فالعاقل يعرف أن ما ينص عليه رسول الله تعالى إنما هو عن الله تعالى لا لهوًى، وهو لمصلحة الإنسان لا غير: ﴿استَجيبوا لِلَّـهِ وَلِلرَّسولِ إِذا دَعاكُم لِما يُحييكُم﴾ (الأنفال،24).

ولذلك، كان من الطبيعي أن يكون ﴿أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ (الأحزاب،6). لأنه الأكثر تجردا فيهم من المصلحة الخاصة، والأكثر معرفة بمصلحتهم الجوهرية والدائمة.

وما دام النبي (صلى الله عليه وآله) ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾، فينبغي أن لا يخاف من صعوبات طريق مشروعه الرسالي، فينبغي أن لا يخاف ﴿الكَافِرُونَ وَالمُنَافِقِينَوأن لا يخاف ويتقي إلا الله وحده: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّـهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (الأحزاب،1)، فهو عليم بمراحل هذا المشروع، حكيم في توجيهاته للرسول المهيمن على هذا المشروع وعبيدِ الله اللّذين ائتمنهم على مشروعه بعده.

وإذا كان المؤمنون مؤمنين فعلا، فعليهم أن يطيعوا النبي (ص)، ويجعلوه أوْلى بهم من أنفسهم، «لأنه مبدأ وُجوداتهم الحقيقية ومبدأ كمالاتهم ومنشأ الفيْضين: الأقدس الاستعدادي أوّلاً والمقدَّس الكمالي ثانيا، فهو الأب الحقيقي لهم»ولكلّ بني آدم عليه السلام، إذ هو أبو آدم عليه السلام أنطولوجيا.

فليس أمام الذي وَصَلَتْهُ الرسالةُ المحمدية الشريفة إلا طريقين: إمّا الإيمان بمن أقسم الله تعالى بوجوده الشريف﴿لَعَمرُكَ﴾ (الحجر،72)، ومن ثمة الإيمان بالله تعالى وبالإنسان ومستقبله العظيم، أو الكفر والنفاق. فلا تمكن الحياة بقلبين، قلب للحياة وقلب للموت، قلب للإيمان وقلب لمحاربة الله تعالى: ﴿مَّا جَعَلَ اللَّـهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ (الأحزاب،4).

  • أولويّة النبيّ تقتضتي أولويةَ«أرحامه» المقدَّسين:

 

لقد فَنِيَ رسول الله عليه وآله عن ذاته بالكلية، لا يفتأ يتّقي الله تعالى ويتّقي: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّـهَ﴾ (الأحزاب،1)، «بالفناء عن ذاتك بالكُلِّيّة دون بقاء الكلية»[14]، حتى صار ﴿عَبْدَه﴾الأكثر عبودية، فلم يصف أي ولي بأنه «عبده»[15]إلا هو، مع أن كل أوليائه كانوا عبيده الخاشعين المتَيَّين. فمن لا يطيعه إنما هو مخالف للعقل، ضالّ عن المعقولية: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّـهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا، أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا(الأحزاب،36). فقد فنى رسول الله تعالى «بذاته وصفاته في ذات الله وصفاته تعالى أُعطي صفات الحق بدل صفاته عند تحققه بالحق في مقام البقاء بالوجود الموهوب، وكان حكمه وإرادته تعالى كسائر صفاته»[16]، فما يقوله وما يفعله إنما هو منطق الهداية التامة ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(النجم،4). فيجب «الفناء في إرادته وترك الاختيار مع اختياره»[17] لأنه أكمل البشر يقينا وفعلاً، وإلا كان العصيان وتأخير سعادة البشرية وتطويل آماد عذابها.

وقد اختار رسول الله تعالى «أَرْحَامه»«المطهّرين تطهيرا» باعتبارهم أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم بعده، لأنّ الله تعالى اختارهم له ولهم ولسعادة البشرية. ولم يكن رسول الله تعالى هنا ﴿بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف،9)، فنحن نجد دائما لكل رسُول «آل» يربّيهم أحسن التربية ليُكْمِلوا مسار مشروعه الرسالي بعده:﴿إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران،33)، بل إن آل محمد (صلى الله عليه وآله) إنما هم الجزء الأخير من آل إبراهيم عليه السلام، بل إن محمدا (ص) هو «الإبْـ»-«رَاهيم»الأعظم على الإطلاق، لأنه أبو إبراهيم بن تارح أنطولوجيّا.

فأولوية النبي عليه السلام، تُؤدي ضرورة إلى أولوية مَنْ عيّنهم (أي عيّنهم الله الحكيم، تعالى) من أُوِلي أرحامه: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ (…)وَأُولُو الْأَرْحَامِ [كذلك] بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّـهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ(الأحزاب،6). فهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، لأنهم نَفْسُ رسول الله[18]، أي وُجوده وهو ميّت جسديًّا، واستمراره التاريخي حتى ﴿يَوْمَ الْفَتْحِ﴾ (السجدة،29)، وهو يوم الفتح «المطلق»، كما يرى محيي الدين بن عربي رضي الله عنه، أي «يوم القيامة الكبرى، بظهور المهدي»[19] عليه السلام، آخر أُولى أرحام النبي صلى الله عليه وآله، المطهَّرين تطهيرًا والمطهِّرين لنفوس البشر.

وتفضيل الله تعالى ورسوله الكريم لهؤلاء، أولي الأرحام المطهَّرين تطهيرًا هو في ﴿كِتَابِ اللَّـهِ﴾ (الأحزاب،6) بالعهد الأزلي، وهو في ﴿كِتَابِ اللَّـهِ﴾ التاريخي والقرآني، ب«عُقُودٍ» كثيرة في حياة النبي صلى الله عليه وآله، الجسدية (يوم الدار، يوم الغدير، يوم المباهَلة، الآيات القرآنية الكثيرة…)، ليؤكد مرارًا أن هؤلاء هم أولى بالمؤمنين والمهاجرين من أنفسهم، إذا كانوا مؤمنين فعلا ومهاجرين فعلاً، و«لم يُبْطلوا أعمالهم». لقد كان ذلك ﴿فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾ (الأحزاب،6)، أزليا، وتاريخيا، وقرآنيا، وفي طاعتهم تقديمُ «معروفٍ» للبشرية، مقابل «معروفِ» الائتمام و«المودّة» في هذه «القربى» المطهَّرة تطهيرا (مودة دينية، وسياسية، ومَعَاشية بالخُمُس): ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ (…)وَأُولُو الْأَرْحَامِبَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّـهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا(الأحزاب،6). فهم «أولياؤنا» الأنطولوجيون، وينبغي أن يكونوا كذلك بإرادتنا العاقلة.

فليس كل أُولِي أرحام النبي، صلى الله عليه وآله، أولى بالمؤمنين من أنفسهم ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ، وقد أكّد يوم الدار أولوية الإمام علي عليه السلام على بقية أولي الأرحام، ولكنّ بعض أولي أرحام المطهّرين تطهيرًا غدروا بهم وقتّلوهم وسمَّموهم وعذّبوهم وسجنوهم (بنو أمية وبنو العبّاس بن عبد المطلب)، وعصوا هذه الأولوية الشريفة المفروضة من الله الحكيم سبحانه وتعالى، موضوعيا- طبيعيا.

هؤلاء، أُولُو أرحام النبي الأكرم المطهَّرون، هم أهل «البيت» فقط، أهل بيت النبي، أي أهل «بيت الله» الذين أراد الله تعالى، إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم مطلقا. فإرادته لا مَردّ لها: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ﴾﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾(سورة يس،82). وطهارتهم الكاملة المتكاملة الأتم، إنما هي من طهارة النبي الأعظم، لأنهم «نفسه» وتجلياته التي لا تنتهي: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب،33). وقد أعلنت أم سلمة، رضي الله عنها، أن رأس أهل البيت هم عليّ وفاطمة والحسن والحسين،لمّا نزلت آية التطهير على النبي (ص) في بيت أم سلمة «فدعا فاطمةَ وحَسنًا وحُسينًا فجلَّلَهم بِكساءٍ وعليٌّ خلفَ ظَهرِهِ فجلَّلَهُ بِكساءٍ ثمَّ قالَ اللَّهمَّ هؤلاءِ أَهلُ بيتي فأذْهِب عنْهمُ الرِّجسَ وطَهِّرْهم تطْهيرًا»[20].

لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله، ﴿أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ (الأحزاب،40)، بل كان أبا واحدة من نسائهم، وأي واحدة. إنه أبو ﴿الكَوْثَر﴾ بتسمية القرآن، وهو أبُو ﴿نِسَاءَنَا﴾ (آل عمران،61)، إذ هي كل نساء المسلمين وحدها. فهو ﴿خَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ (الأحزاب،40) لأنه كان أبا أعظم النساء عليها السلام التي سمح وجودها الشريف بوجود امتداد النبي الأعظم بوساطة الإمام علي عليه السلام واستمرار رسالته العظيمة في أولي أرحامه المطهّرين تطهيرا، والمطهِّرين للبشرية. إنها من مصاديق «التسبيح بالذكر الكثير»(الأحزاب،35)، لأنها ﴿الكَوْثَر﴾ التي علّمها (رسول الله تعالى تسبيحة الذِّكْر الكوثري:« الله أكبر… سبحان الله… الحمد لله…»[21].

بحسب تسبيح المؤمنين «بتجليات الأفعال والصفات» تكون صلاة الله تعالى عليهم، وآخر تلك التجليات هي صلاتهم على رسولهم الأكرم وطاعتهم لله، إذ بصلاتهم اللفظية والقلبية والفعلية هذه، يُخرجهم الله تعالى من الظلمات إلى النور، يتماهون عمليا بالأسوة الحسنة ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ (الأحزاب،44) إذ أرسل لهم رسول كريم منهم كان ﴿رَحْمَةً﴾ من الرحيم الرحمان (الأنبياء،107)، فيقيهم الله تعالى الرّجس كما أذهب الرّجس عن مَحْبُوبِيهِمْ عليهم السلام. فلا تكون الصلاة على الرسول الأعظم إلا بالصلاة على كل وجوده الشريف، أي الصلاة عليه وعلى آله، فهم نَفْسه و«هيمنته»، على التاريخ الآدمي:﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ (المائدة،48).

لقد علّم رسول الله تعالى (صلى الله عليه وآله) الناس كيفية الصلاة عليه فقال: «قولوا: اللهم صلّ على محمد وآل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم، في العالمين إنك حميدٌ مجيدٌ»[22]، وإلا كانت «صلاة بتراء» أي لا صلاة: فبذلك تأتون كل حاجة من الله: ﴿إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (الأحزاب،56)، تتقدمها الصلاة على النبي. فالتسليم الأتمّ، أي التسليم تسليمًا على النبي، لا يكون إلا بالتسليم عليهم، سلامًا وتسليمًا قلبيّا وأفعاليًّا وكذلك لا تتم الصلوات اليومية إلا بالصلاة التامة على النبي وآله[23].

لقد كان النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، ﴿سِرَاجًا مُنِيرًا﴾ (الأحزاب،46)، ولا سراج بدون بروج: ﴿تَبَارَكَ الذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ[النبوية]بُرُوجًا[إثنيْ عَشر بُرجا]، وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا [محمديا]وَقَمَرًا مُنِيرًا [حَيْدريّا](الفرقان،61). وبروج السّراج النبوي هم أُولو أرحامه المطهَّرون تطهيرًا، أهل البيت، «مصابيح الدجى»، تلك البروج التي تدور حول السّراج، حول الشمس الساطعة، «الشاهدة»، «المهيمنة» على بقية التاريخ البشري، أي النبي «الرحمة للعالمين». وكان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ﴿قَمَرًا مُنِيرًا﴾ يستقي نوره من «السراج المنير» صلى الله عليه وآله.

وصلاة الله تعالى على النبي (صلى الله عليه وآله) إنما هي «بالإمداد والتأييدات والإفاضة للكمالات»[24]، والمصلى في الحقيقة هو «الله تعالى جمعا وتفصيلا، بواسطة وغير واسطة»[25].أما حقيقة صلاة المؤمنين الحقيقيين فهي «قبولهم لهدايته وكماله ومحبّتهم لذاته وصفاته، فإنها إمداد لهم منهم، وتكميل وتعميم للفيض، إذ لو لم يمكن قبولهم لكمالاته لما ظهرت ولم يوصف بالهداية والتكميل. فالإمداد أعم من أن يكون من فوق بالتأثير أومن تحت بالتأثر، وذلك كقبول المحبة»[26].

أن تسليم المؤمنين له تسليما، فهي قوة الاعتقاد في الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) وصحة متابعة هذا الرسول الأعظم، والفناء في إرادته الأخلاقية العقلانية إذ يعرفونه «بريئا من النقص والآفة في تكميل نفوسهم والتأثير فيها»[27]، فيقبلون قضاءه طوْعًا واقتناعًا وحبًّا وثقةً تامة. و﴿وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ (الأحزاب،71)،«بالتحلية والاتصاف بالصفات الإلهية»[28].

إن وجود زوج للرسول ذات«قول معروف»(الأحزاب،32)، «قارّة في بيتها»،«غير متبرّجة»أمام الآخرين، «مقيمة للصلاة»، «موتية للزكاة»،«مطيعة لله ورسوله»،«ذاكرة ما يُتلى في بيتها من الآيات والحكمة»(الأحزاب،34)، «قانتة لله ورسوله»(الأحزاب،135)، هو الوجود الضروري من أجل إيجاد «أهل بيت النبي». فإيجاد «البيت الزوجي الأطهر» هو شرط وجود «أهل البيت» الذين طهّرهم الله تطهيرًا. فبيت الزوج هو شرط وجود«بيت»النبي (صلى الله عليه وآله) وبيت الله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب،33).

ولم يتوفّر هذا، بعد امتحان حوالي إحدى عشر امرأة، إلا في زوج واحدة هي «خديجة الطاهرة» عليها السلام. ومن عِلل هذا التعدد في زواج النبي صلى الله عليه وآله، أن يتأكد الجميع من جدارة خديجة عليها السلام، فتفضيلها لم يكن محاباة وحَميّةً جاهلية وشهوة شخصية، وأطْهَرِيَّتُهَا كانت ستؤدي ضرورة إلى أَطْهَرِيَّةِ أولي الأرحام الذين تولّدوا عنها وكوثريتِهِمْ. فلاحَّق لأي واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وآله في الغِيرة منها أو عدم طاعة أهل البيت عليهم السلام المتولدين عنها، إذا كانت عاقلة رشيدة، ذات «معروف» (أي ذات معقولٍ).

لكن إذا لم تستطع زوج النبي تحقيق الأطهرية لتوليد أهل البيت عليهم السلام، وعلى رأسهم كوثرهم، فبالأقل عليها أن تكون «تقيّة» موفرةً الحد الأدنى من تلك الشروط الثمانية في زوج النبي: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ (الأحزاب،32).فمن لا تستطيع ذلك، من حقها المطالبة بتسريحها ولا ذنب عليها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ (الأحزاب،28).

وقد نجحت أم سلمة، رضي الله عنها، في توفير الدرجة الأكبر في تلك الشروط، وسهّل لها الله تعالى أن تكون كما فرض على زوج النبي أن «تُطْعِم» المؤمنين والمسلمين طعام عِلْم الرسول (صلى الله عليه وآله)، وقالت قولا معروفا، وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر، وقاومت الفتنة، وأقامت الوحدة، ولم تركن إلى الجاهلية الأولى.

فالآية 33 من سورة الأحزاب آية متكاملة، وليس فيها قطعة بين جزء أول ينتهي بـ﴿وأَطعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ وجزء ثان. بل هي آية منسجمة،  إذ أن الجزء الأول هو شرط الجزء الثاني، فلا وجود لأهل البيت المطهرين دون والدة/أمّ طاهرة تخرج من امتحان بين مجموعة من النساء.

«أهل البيت» هم العترة المصطفاة، المنحدرة والمتواترة من رسول رسالة عالمية معينة («اب-راهيم»=أب رحيم لفلكه التاريخي).

فالنبي محمد يصرح باسم الله تعالى:﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ ٱلرُّسُلِ(سورة الأحقاف،الآية 9). إنهم بفضل تربية«الأب الرحيم»لهم، سواء مباشرة،أو بالإرث النقلي التواتري. وهم يحملون القدرة على الإنعام الفيضي على العالم والبشر، وخاصة للطالبين منهم﴿ اهدنا الصراط المستقيم.  صراط الذين أنعمت عليهم﴾،﴿ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّۦنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَ ۚ﴾(سورة النساء، الآية 69).

تلك القدرة على«الإنعام»الفيضي العالمي،، تعود إلى تراكم﴿ رَحْمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيْكُمْ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ ۚ (سورة هود، الآية 73). فيكونون«بشرى»العالمفي دورة رسالية معينة:﴿ولقد جاءت رسلنا إبراهيم[كل إبراهيم من الآباء الرحيمين] بالبشرى.قالوا:﴿سلاما(هود، 69)،أي طوبوهم ليكونوا « سلاما»لكل العالم:«يملأ الأرض عدلاوقسطا، كما ملئت ظلما وجورا»، ﴿أدخلوا في السلم كافة(سورة البقرة، الآية 208). إن الله تعالى بهم﴿حميد مجيد﴾(سورة هود، الآية  73)، فهو«حميد»لأنهم أحمد خلقه، ولا قيمة لما خلق إن لم يخلقهم ويزين بهم خليقته. وهو «مجيد»، لأنه بهم وعبرهم، يتقدس إسمه في العالم ويتعمم ملكوته[29].

إنهم ﴿لشيء عجيب﴾ (سورةهود، 72 )، كما جاء على  لسان والدة أهل بيت الإبراهيم بن تارح، فهم الذين يجعلون العالم عجيبا مُعْجِبًا لأنهم ﴿من أمر الله (هود،73)، تتنزل عليهم الملائكة والروح ﴿من كل أمر (سورة القدر، الآية 4)،كل سنة حتى مطلع الفجر الإنساني،  فجر العدل والقسط «يطآن» كامل الأرض التي لم يطأها العدل والقسط من قبل. وذلك هو المصداق النهائي ل﴿وأرضا لم تطئوها (الأحزاب، الآية27)، ولو كره«المشركون»  و«الأعراب».

لقد أخذ الله تعالى الميثاق ﴿مِنَ النَّبِيِّين﴾ عمومًا ﴿وَمِنْكَ﴾، تمييزًا له لأنه أوّلهم خَلْقًا وخُلُقًا، «لتقدمه عليهم في الرتبة والشرف»[30]، فينبغي أن يكون للمسلمين ﴿أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾، بالإطلاق لأنها كلّ يوم في شأن من الله تعالى في نظر المؤمن الصادق، وهو يقتدي كل يوم بشأن من شؤون رسول الله، صلى الله عليه وآله. فإذا كُنتَ مِنَ النبيِّ ﴿اتَّقِ اللَّـهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ (الأحزاب،1)، فالله لا يريد لنا إلا مصلحتنا: ﴿إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (الأحزاب،1).

إن الإنسان الحقيقي ليس له قلبان، وإلا فهو مريضٌ أو مُنافق، تتجاذبه نزعتان: ﴿مَّا جَعَلَ اللَّـهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِالباطني (الأحزاب، 4). فينبغي أن يكون لنا قلبٌ واحد، دون مَرَض، أي دون انشطاره إلى قلبيْن، قلبٌ مع الإيمان وآخر مع الشرك.

فبتوحيد القلب على الله تعالى، وعلى تجليه الأتم، عبده رسول الله، صلى الله عليه وآله:﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ﴾ (آل عمران،31). وهناك، فليجعل هذا القلب النوراني، الذي يرى بالله تعالى، دون غشاوة، أَوْلوية رسول الله، صلى الله عليه وآله، خارجيا، ليصبح هو الأولى داخليا، أي في سره وباطنه: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ (الأحزاب،6).

لقد أثبت رسول الله، صلى الله عليه وآله، دائما أنه يستحق هذه الأولوية، وأنه لا يخون الإنسان، وأنه معصوم عن المحاباة والظلم والحقد، وأنه الأنفع والأنجع والأكفأ، وأنه يعرف كيف يكون الأفضل في صُنع الآخرين، فصنع بتربية هي الأفضل في التاريخ البشري، سيدنا الإمام علي (ع) وسيدتنا فاطمة الزهراء، وسيدينا الإمامين الحسن والحسين (ع)، وكذلك سيدنا زيدًا، رضوان الله عليه، وسيدنا جعفرًا الطيار، رضوان الله عليه.

ولذلك، فإن رسول الله (ص)، إذ يدعونا لتقديم الإمام عليًّا والسيدة فاطمة والحسنين، والتسعة من وُلد الحسين، عليهم السلام، فذلك لمصلحة الإنسان، ولمصلحة المسلمين، ليفوزوا في هذا العالم على الشرّ بسرعة وبنجاعة ويعجّلوا بإتمام نور الله تعالى على كل الأرض.

فينبغي لرسول الله «الأسوة الأحسن»، أن يكون رؤوفًا رحيما بنا، فلا يتركنا دون أسوة بعده، بل يجب عليه أن يستنسخ لنا من نفسه، نُسخًا هي الأفضل في التاريخ. بل إن كان هو الإنسان الأكمل فعلا، يجب عليه أن يكون هو الأقدر على صُنع كمالات مِنه. وإذا كان، فعلاً، يعزّ عليه أن نبقى دون أسوة بعد وفاته، عليه أن يجتهد ليلا نهارًا قبل وفاته أن يترك لنا من كيانه الجميل جمالات وكمالات، وإلا فسيكون أنانيا وقصير نظر، ولا تهمه البشرية بعده، ولا يهمه من سيأتي بعده بقرون. وإذا كان فعلاً أسوة حسنة، عليه أن يقدّم لنا مِنْ نفسه الأزكى ما ينبغي أن نكون عليه. وليس أقرب لذلك منطقيا، من ابن له، أو حفيد، أو قريبٍ رحميّا، يهيمن عليه منذ اللحظة الأولى من ولادته، بالإيحاء النفسي، وعدم  ترك الموجّهات التربوية من الأغيار تقترب منه، وعرض عبقريته عليه كل لحظة، وعرض ذوقه وعِرْفانه وعبوديته للكبير المتعالي وسَوْقه التاريخي والأمَدِيّ عليه كل لحظة، فبذلك سيكرّم اللهُ وَجْهَهُ، ذلكَ القريبَ الرحِمِيَّ، من أصنام البشر وأوهامهم وإخلاديتهم وضعفهم وركونهم وعدوانيتهم وظلوميتهم وجهوليتهم.

ولذلك ينبغي أن يكون أولو الأرحام الذين هيمن عليهم رسول الله، صلى الله عليه وآله، تربويًّا ونفسيا، فأصبحوا نَفْسه التي بين جنبيه، وتماهوا به حتى أصبحوا هو، وتفانوا فيه حتى أهلكوا أنفسهم في مبادئه التي جذبهم إليها بإيحائه النفسي، أولى ببعض أرحامه الآخرين (كالعبّاس والعباسيّين، والأمويين والتيميين والعدويين، والمخزوميين، والقرشيين عمومًا، وأرحامه الآدميين عمومًا): ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ (الأحزاب، 6)، فحسب، فلا يمكن أن يكُنَّ عقليا وموضوعيا أوْلى علينا من أنفسنا، لأنهن وُلدن خارج الهيمنة التربوية، النبوية، وبعضهن عشن طويلا في ظل تربية جاهلية. فلا ينبغي لنا أن نُطيع السيدة عائشة بأن نجعلها إمامتنا يوم الجمل.

فهي مَجازُ أمّ،بل وَهْم أم،إذ أن الأمّ ينبغي أن تكون رفيقة بأبنائها، لا تزرع الأحقاد والتنازع بينهم، ولا تؤلبهم على إمام زمانهم الذي عيّنه العقلُ المحض، أي رسولُ الله، صلى الله عليه وآله. بل ينبغي أن يكون الأوْلى، مع رسول الله (ص) وبعده، أي إذا غاب عنا مكانيا أو زمانيا، فيذهب إلى الحدود الشمالية للجزيرة العربية أو يُغَيِّبُهُ الثرى عنّا، أولي الأرحام. ولكن ليس كلهم، بل ﴿بَعْضُهُمْ﴾، الذين هَيمن عليهم منذ لحظة الولادة، وهم أهل الكساء الأربعة، ومَنْ هَيْمن عليه سيدُنَا الحسين عليه السلام (الإمام: زَيْن العابدين عليه السلام)، ومن هيمن عليه السّجّاد (الباقر عليه السلام)، ومن هيمن عليه الباقر (الصادق عليه السلام)، ومن هيمن عليه الصادق (موسى الكاظم عليه السلام)، ومن هيمن عليه الكاظم (الرضا عليه السلام)؛ ومن هيمن عليه الرضا (محمد الجوّاد عليه السلام)، ومن هيمن عليه الجوّاد (علي الهادي عليه السلام). ومَن هيمن عليه الحسن العسكري (محمد المهدي عليه السلام). فلا حق لذوي أرحامهم في اغتصاب الولاية السياسية والدينية منهم: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ(الأحزاب، 6)، لأن الأمر ليس قرابة ومحاباة، بل هو توريث تربوي وعرفانيّ أكمل، وهو ﴿فِي كِتَابِ اللَّـهِ(الأحزاب، 6)، أي في حُكمه المكتوب، الموضوعي، العليم الحكيم، المريد الخيرَ للإنسان، لا غيره. فالهيمنة التربوية والروحية تكون على الابن أكثر من غيره، بحكم الرابطة النفسية الفطرية.

وهؤلاء ﴿أُلُو الأَرْحَامِالأكمل في البشر، هم أوْلى من كل المهاجرين والأنصار بالولاية، وإلا فالعذاب التاريخي والأخروي سيلحق بهؤلاء المهاجرين والأنصار و«تحبط أعمالهم»: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا﴾ (الأحزاب، 6). فهؤلاء الأولياء الكُمَّل ينبغي أن يقوم المهاجرون والأنصار تجاههم بمعروف ﴿الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى، 23). وهذه المودة/التسليم لهم، «مَعْروفة»، أي مقبولة ومأمور بها عقلا.

فلقد كان التسليم للنبي (ص) وأهل بيته مسطورًا من قَبْلِ أن يُخلق الإنسان، وقد أخذه على النبيين كلهم وأمرهم بتبليغه أتباعهم: ﴿كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا، وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا(الأحزاب، 6 و7)، وذلك لابتلاء المسلمين في أهل البيت عليهم السلام: ﴿لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا(الأحزاب، 8).

وقد أثبت الله تعالى، حسّيّا، أمام المسلمين أن النبي (ص) أحق بالولاية على البشر، وأن الإمام عليا كذلك (وهو من ﴿نِعْمَةَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ(الأحزاب، 9)، في معركة الأحزاب، وخاصة بتفوقه الساحق على أعظم فرسان العرب، عمرو بن عَبْد ودّ. وهناك «برز الإيمان كله [عليّ]، إلى الشرك كله [ابن عَبْد ودّ]، شهادة مَنْ هو ﴿ذُو مِرَّة فَاسْتَوى، أيْ بشهادة أقل الناس إطلاقًا.

إنهم «مطهّرون تطهيرًا»(الآية 33)، بشهادة من الإله، سبحانه وتعالى. فبهم إذن يستمر رسول الله (ص) «الأسوة الأحْسَن»(الآية 21)، أي «الأسوة الأطْهَر». والصلاة لله تعالى لا تكون إلا بالصلاة على محمد، الإنسان الأطهر، والصلاة عليه لا تكون إلا بالتسليم لآل محمد بالأوْلوية، أي بالتسليم للنبي محمد بالأولوية علينا أوْلوية حيّة، مجسَّمة، على مرّ التاريخ، بِرَحِمٍ مِنْه، حي، وهو ﴿رَؤُوفٌ رَحِيمٌ(التوبة، 117). صلى الله عليه وآله المطهّرين! فالآية تقول: ﴿إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ﴾ (الأحزاب، 56)، ولكن ذلك لا يكفي، بل يجب أن نسلّم تسليما بأوْلويته علينا إلى يوم القيامة، بأن نجعله حيًّا دائما في رَحِمِه الحي، المطهّر تطهيرًا.

فالله تعالى الذي أراد رسول الله (ص) نبيا خاتما، ثم يُمِيته ميتة ظاهرية، ينبغي أن يجعله حيًّا في شخص رَحِمِهِ المطهّر تطهيرًا، رَحْمَةً من الرحمان الرحيم بنا، حتى تبقى أمامنا «أسوة محمدية حسنة» في كل أمَدٍ تاريخي، مشتقة من الرحيمية المحمدية: ﴿بِالمُؤمِنينَ رَءوفٌ رَحيمٌ(التوبة، 128).

فالله، الحي الذي لا يموت، لا يُمكن أن يجعل الإنسان الأكمل، المؤتمن على الزمان الذي استدار نحو إتمام النور ليظهره على الدين كله، أن يُحْرِم الإنسان من رسول الله (ص)، دون أن يترك نُسخًا كاملة منه. حاشا لأكرم الكرماء، سبحانه وتعالى، أن يكون ضنينا برحمته، أي بأعظم رحماته، سيدنا محمد، صلى الله عليه وآله. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله «الرحمة للعالمين» من «الأوّلين» و«الآخرين» ضرورة للبشر، فينبغي أن لا يموت، وإذا مات مِيتَةً ظاهرية، فينبغي أن يكون حَيًّا في أشخاص هم يصنعه بيديه التربويتين الكاملتيْن، خاصة وأن وفاته لم تقترن بإظهار الدين كله على العالم كله: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ(الفتح، 28). فينبغي أن يؤدّي ذلك، إمَّا هُوَ أو إنسانٌ مِنْهُ، أي إنسان هو «نَفْس» رسولِ الله (ص)، أي كل إمام معصوم «سُطِّر» في ﴿الكِتَابِ(الأحزاب، 6 و7).

ومِنْ هنا، كانت الصلاة على الآل، هي الصلاة على الكلّ النبوي الشريف. فالآل الكرام، عليهم السلام، هو العبقرية المحمدية متكثّرة، كوثرية، قادرة على التوالد، وعلى مساوقة الزمان البشري الثاني، الزمان المستدير كهيئته يوم خلق الله تعالى آدم عليه السلام. فالكيان المحمدي الشريف، لا يكون إلا بتكامل أجيال الإنسان الجديد متساوقة مع حركة «البروج»[31] الإثني عشر عليهم السلام في الفضاء السماوي المحمدي المتوسّع باستمرار، المكتسح كل يوم للفضاءات التي استحوذ عليها شياطين الإنس والجن أثناء الزمان البشري الأوّل. فالصلاة على محمد (ص) دون الصلاة على الآل، ليست صلاةً عليه، لأنها «بتراء»، كما قال صلى الله عليه وآله، أي هي نفاقٌ وبَتْرٌ رمزي/وَهْمي لهذا الإنسان الأكمل. فهو لن يكون كاملا إلا إذا كان متكثرا عبر كل الزمان البشري الثاني، أي قادرًا على رحمة الإنسان دائما بواسطة إمام الأمد. وصاحب الصلاة «البتراء». هو مِن «الأبْتَرين» أنطولوجيًّا وأخلاقيّا، أي ليس بإنسان بما هو إنسان، إذ يَنْشَأُ واعيًا أو غير واعٍ سيد الوجود: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾.

فبالصلاة البتراء، نحن مع الشانئين لرسول الله صلى الله عليه وآله، الذين توهّموا أنه «أبتر» ليس له آل: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ.  فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ(الكوثر). فلقد أعطاه الله سيدتنا فاطمة الكَوْثَرَ، عليها السلام، وهي أعطته كَوْثَرَ الزمان البشري الثاني[32]، مع سيدنا الإمام علي عليه السلام، وهذا الكوثر هو الأئمة من وُلده: «لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء، فتصلون عليّ ولا تُصلون على أهلي (…) قولوا: (اللهم صلّ على محمد وآل محمد)»[33].

وهؤلاء الأئمة هم «الإثنى عشر خليفة»[34]، فليس هناك غيرهم إثنى عشر، وواعون أنهم من سلسلة واحدة، ولم يدَّع أحد ذلك من العالمين غيرهم: ﴿إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ لبضعاته ونفسه عليه السلام (الأحزاب، 56). فاللّهم صلّ على محمد وآل محمد، نجومك في الليل الأليل، أرْحَام الإنسان الأكمل، صلى الله عليه وآله، الذين جعلتهم أَوْلَى علينا من أنفسنا. واجعل قلبنا موحّدا لك، حتى يكون مطيعًا لهم وحدهم. وأطْرِدْ كل قلب يريد أن يستوي في جوفنا بجانب ذلك القلب. وأطْرِدْ كل مريض قلب أُشْرِبْنَاهُ في تربيتنا لمّا قال لنا: ﴿هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾ (الأحزاب، 18)، فَلَبَّيْنَا جهلاً يا مولانا، لا ظلمًا. فبرحمتك، التي وسعت كل شيء، أي بأكملِ خلقك، صلى الله عليه وآله عليهم السلام، سلِّمْنا تسليما إليهم وعَبِّدنا إليك يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين! فلا عبودية لك بدون تسليمٍ للأعدلين الأعلمين، للمضادّين للمظلومية والجهولية.

 

4-خديجة المدثِّرة/المزَمّلة/الْمُغْنِيَة/مولِّدَة أَهْلِ البيت:

 

«اللّباس» عِرْفانيا هو الشريعة «تستر قبائح أوصافكم وفواحش أفعالكم»[35] وأما «الرّيش» فهو الجمال الذي «يبعدكم عن شبه الأنعام المهملة ويزينكم بالأخلاق الحسنة». وأمّا «لباس التقوى»، فهو درجة أرقى من اللباس والريش، إذ هو «صفة الورع والحذر من صفة النفس»[36]. قال الله تعالى: ﴿يا بَني آدَمَ قَد أَنزَلنا عَلَيكُم لِباسًا يُواري سَوآتِكُم وَريشًا وَلِباسُ التَّقوى ذلِكَ خَيرٌ ذلِكَ مِن آياتِ اللَّـهِ﴾ (الأعراف،26). وأن يكون من آيات الله، أي من أنوار صفاته، إذ الاجتناب عن صفات النفس لا يحصل ولا يتيسّر إلا بظهور تجليات صفات الحق[37]. وكل هذه الإنزالات الإلهية اللباسة ﴿لَعَلَّهُم يَذَّكَّرونَ(الأعراف،26)، أي التذكر عند «ظهور تجليات لباسكم الأصلي أو الحق الذي كنتم تسكنون فيه بهداية أنوار الصفات»[38].

وكل هذه اللباسات تدرج بنا في الزينة الإنسانية، فينبغي التمسّك بها وترقيتها: ﴿خُذوا زينَتَكُم عِندَ كُلِّ مَسجِدٍ﴾ (الأعراف،31)، أي عند كل مقام لباسي. «فزينة المقام الأول من السجود هي الإخلاص في العمل، وزينة المقام الثاني هي التوكل ومراعاة شرائطه، وزينة المقام الثالث هي القيام بحق الرضا، وزينة المقام الرابع هي التمكن في التحقق بالحقيقة الحقّيّة ومراعاة حقوق الاستقامة وشرائطها»[39]. وقد كان لباس خديجة أرقى من ذلك إذ كان «الدّثار»«الزِّمال»، أي السِّنَاد الأنطولوجي، الضروري لمقام النبوة في أرقى أطوارها من أجل العروج.

ومن كمال الإنسان أن يسكن لجنسه الآخر، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ (الروم،21). فقد خلق لكم «من النفوس أزواجًا للأرواح»« لتركنوا وتميلوا نحوها بالمودة والتأثير والتأثر»، وجعل بين الجانبين الطاهريْن (وكذلك، بل أكثر بين الجانبين المطهَّرَين تطهيرا كخديجة عليها السلام والنبي صلى الله عليه وآله) «المودةَ والرحمةَ، فتودّ النفس نور الروح وتأثيره بالقبول والتأثر»، فـ«تتصفّى، فيرحمها الله بولد القلب في مشيمة الاستعداد برًّا بها، فتهتدي ببركته وتتخلق بأخلاقه فتُفْلح، وتود الروح النفس بالتأثير فيها وإفاضة النور عليها، فيرحمه الله بالولد المبارك برًّا، عطوفا، فيرتقي ببركته ويَظهر به كماله»[40]. فكان أن ظهر كمال النبي (ص) وقابليته لسدرة المنتهى بدثار خديجة الوجوديّ. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله يردد دائما عن خديجة:« لقد رزقت حبها»[41]

فكانت خديجة هي «النَّفْس»، وكان محمد صلى الله عليه وآله هو «الروح»، فزاد هدايةً إذ لبسها وأصبحت لباسه، بل دِثَارَه وزِمَاله، وسكنت إليه هذه النفس الجميلة فأفاض النور عليها. وكانت نتيجة هذه الملابَسة العظمى، بل هذا «التداثر» و«التزامل»، أن أصبحت روح محمد صلى الله عليه وآله قابلة لأن يصبح نبيا رسولا منذرا، مُكَبِّرًا، مرتّلا القرآن الكريم ترتيلا، إذ رقّاه هذا الحب البشري العظيم ليكون التمرين الضروري للحب الإلهي الأعظم. ومن الناحية الأخرى كان هذا «التدثّر» الأعظم، وسيطا «للتّغشي» الأعظم، فحَمَلَت خديجة الكبرى «حِمْلا خفيفا» هو حملها «بالكوثر» عليها الصلاة والسلام (الفاطمة لشيعتها عن المعاصي والنيران، ونحو الخيرات والسعادات الأبدية) وإيلادها لأهل «البيت». فبيت خديجة الأطهرُ تطهيرا هو الذي أَوْلَدَ بيتَ الله الأكمل، على كائناته النورانية أكمل الصلاة والسلام.

﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(المدثر،1 و2 و3). فدثارُها الوجوديّ هو الحاثُّ الضروري لمُنذِريّته وتكبيريَّته المترقّية مِن مقام إلى مقام.

﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا(المزمل،1 و2). فقيامه (ص) لا يكون إلا بمعيّة تزميلها لإمامته عليها.

فلولا «دثار» خديجة عليها السلام، ما كان «المدَّثِّر»في سدرة المنتهى.

ولولا روح محمد صلى الله عليه وآله، ما كانت قدرة خديجة على نَسْج هذا الدثار. وقد كانت «الطائفة» الوحيدة التي تطوف حول رسول الله صلى الله عليه وآله الداعمة له في الصلاة والدعوة (خديجة بنت خويلد): ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ. وَاللَّـهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ (المزمل،20). وتلك «الطائفة» حول الكعبة المحمدية، لم يكن معها، سوى الفتى علي (ع): ﴿مِنَ الذِينَ مَعَكَ﴾.

ولولا زِمال خديجة عليها السلام، ما كان تعاظم محمد صلى الله عليه وآله على حب الله تعالى حتى الاختلاء به كل الليل إلا قليلا. ولولا حب محمد صلى الله عليه وآله لنَفْسَ خديجة عليها السلام، ما كانت قدرتها على نسج خيوط هذا الزمال. فلولا أن حُبّبت إليه من دُنيانا هذه النفس الجميلة، ما كان ليجد حسرًا لقرّة العين الصلاتية.قال روزبهان البقلي الشيرازي: «نحن نتعلم الحب الإلهي في كتاب الحب البشري». قال رسول الله (ص): «لقد رزقني الله حبها»(رواه مسلم).

ولولا دثار خديجة وزِمالها، ما كان «كساء» فاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم السلام. فذاكم اللباس من ذلكم[42].

 

5- أمُّ المؤمنين حقًّا هي والدة أهل البيت ومُطْعِمَة جَوْعى العدْلية والعلمية/والبقية أمهات للمؤمنين بالمجاز:

 

لم يتزوّج رسول الله، صلى الله عليه وآله، نساءه إعجابًا بحسنهن (الآية 52)، فقد ربّاه الله تعالى. وإنّما هو تزوّجهن:

  • إمّا لإنبات الكوثر (عليهم السلام)، وهنا حالة سيدتنا خديجة، عليها السلام، إحدى أكمل النساء في التاريخ البشري، بل هي الأكمل بعد سيدتنا فاطمة عليها السلام.
  • وإمّا لإيجاد مُعلِّماتٍ ممتازات ونقل علم النبي وسنته، صلى الله عليه وآله. وهنا حالة سيدتنا أم سلمة، رضوان الله عليها، وهي أفضل نساء النبي (ص) موضوعيا بعد السيدة خديجة، سلام الله عليها.
  • وإمّا تَوَقِّيًا لخطر امرأة، أو لخطر أبيها أو قبيلتها، أو امتصاصا لأكثر ما يمكن من خطر تلك المرأة، أو ذلك الأب، أو تلك القبيلة.
  • أو تودّدًا لأهلها، فالتصاهر يجعل النفوس المعادية أقرب لسماع الحق والإنصاف والإسلام.
  • أو إنقاذًا لتلك المرأة المسلمة من مَخاطر الترمّل أو المَهْجَر أو الطلاق (بعد تنصّر الزوج، كما في حالة أم حبيبة)،أو التيتّم، فلا يمكن للرسول الرحيم، صلى الله عليه وآله، أن يرى نساءًا أسلمن لدعوته تتهدَّدهن مَخاطر بسبب متابعته على دينه، ثم لا يجد لهن حلولا، كأن تكون بالزواج منه، صلى الله عليه وآله.

فكل زَوَاجات النبي الأكرم، حققت أغراضها التاريخية. وكيف لا يكون ذلك وهو أذكى البشر وأبعدهم نظرا؟!

أما سيدتنا خديجة، عليها السلام، فقد كانت هي الأكثر امتثالية لمعايير الزوجة الأفضل للنبي الأفضل. فلم يتزوَّجْ غيرها، على الحقيقة الأنطولوجية. فقد توفّر فيها:

  • «التقوى» (الآية 32).
  • «القول المعروف» (الآية 32)، فكانت المهوّنة بكلامها على رسول الله الأكمل، المصائِبَ والمعضلات، إذ «آمَنَتْ بِي إذْ كفر بِي الناسُ»[43] وواسته بأجمل الكلمات والأفعال الصادقة.
  • «إقامة الصلاة» (الآية 33)، فكانت من المصلّين الأوائل (النبي الأكرم (ص)، والإمام علي(ع) وأبو طالب (ع) وفاطمة بنت أسد، وزيد بن حارثة، رضوان الله عليهما)[44]. ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ (المزمل، 20).
  • «إيتاء الزكاة» (الأحزاب، 33): وهل هناك إنسان على الأرض آتى الزكاة مثل خديجة عليها السلام: «واستني بمالها إذ حرمني الناس»[45]؟! وقد شهد الله تعالى لها إذ قال: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ (الضحى، 8)، بخديجة المدبِّرة، المقاوِلة الحكيمة.

وإنني، والله أعتقد، أن مالَها لم يَنْتهِ إلى الآن. لم ينفذ لأنه زكيّ، مُزكٍ.

  • «طاعة الله ورسوله» (الآية 33)، وهل نحن في حاجة إلى إثبات وجود شمس خديجة «القانِتة»؟ والله، إنني لأخجل من أن أقول إن الشمس أكبر الكواكب، لأنني بذلك لن آتي بجديد.
  • «عدم التبرّج» (الآية 33): التبرّج هو استغلال رأس المال الاجتماعي للتكبّر والاستغناء، وزرع الفتنة. وقد أتتها الثروة من عدة مَصَارف عالمية (جدة، غزة، دمشق)، ثم جاء ذكر زواجها من أعظم الرجال. على الإطلاق. فلم تستثمره لتجد زعامة قبَلية أو منطقية، أو فتنة بين المسلمين أو منافسة لوحها العظيم على وَهْم قيادة.
  • «ذِكْرُ ما يُتلى في البيُوت من الآيات والحِكمة» (الآية …): وهل كان يمكن أن يكون هذا الذكر لولا «تزميل» خديجة، عليها السلام، و«تدثيرها»«للمُتزَمِّل»/«المتدثِّر» من الله بطبعه؟! ولكنّ الله أراد أن يُكَرِّم سيدتنا، فجعل كيانه الظاهري لا يمكنه أن يكون إلا بتكريم سيدتنا إذ تُلقي بعطفها التزميلي/التدثيري الملكوتي عليه. ومازال هذا التدثير/التزميل، الخديجي العظيم، سرًّا لم يحاول اكتناهه أهل العلم من المسلمين، وفي ذلك عدم تكريم لمن عانتْ كل شيء مع رسول الله (ص)، من أجل البشرية المعذبة. فلا يمكن لسيدتنا خديجة، عليها السلام، أن تُدثّر الكاملَ وتزمّله إذا لم تكن هي نفسها متدثرة متزمّلة بصفات الكمال والجمال. ولذلك كان رسول الله (ص). فبقي يَبْكيها دائما يذكرها دائما، فيُكْرم صديقاتِها كل أسبوع، ولم يُنسه عدد نسائه الكبير دثارها وزِمالها وفضلها على الإسلام؛ ولم يجعله الفتح الأكبر (فتح مكة) ينساها، كما يحدث لكل الفاتحين في التاريخ، فكان أول ما يفعل بعد تيقنه من استتباب الأمن زيارته لقبرها الشريف بالحجون. وهل هناك ما أعظم، من انحناء العظيم على قبر الكريم؟!!
  • إن اندغام هذا الرجل العظيم، ولا عظيم غيره في البشر، بهذه المرأة الكريمة، ولا كريم غيرها في البشر، هو الذي صنع﴿المَدَّثِّر﴾، فلم يكن «متدثرا» بل كان الاندغام الملكوتي «مُدَّثِّرًا». وكذلك في صفته «مُزَّمِّلا» لا «مُتزمِّلا». فالخديج، هو الوليد السريع التكوين، فلقد كانت نبيهة، سريعة الاستجابة للولادة النبوية على يد والد البشر، ملكوتيا، سيّدِنا محمد، صلى الله عليه وآله، فهو أبو آدم نفسه. فاندغامُ النبوة بالخَدْج الأنطولوجي/الأخلاقي، هو الذي صنع «الكوثر» و«المطهَّرِين»، أي «الأرحام المطهّرة».
  • «القرار في البيت الزّوجي» (الآية 33): هو التشبث بمعايير العائلة الصالحة، بل الأصلح، كما أرادت همة سيدة النساء (بعد سيدتنا فاطمة، عليها السلام). فكانت عائلتها ﴿فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾ (المرسلات، 21). وذلك الحرص هو الذي وفّر مناخًا ملائمًا، لتأمل سيد البشر، حتى يرتقي من غار حراء إلى سدرة المنتهى[46]، فلم توفر له الطعام توصله إلى غار الأنوار فحسب، بل كذلك التشجيع والدّفع وإعلانها له أنها تكفيه كل شيء وكلَّ مسؤولية في غيابه. وساعدته على إحاطة سيدِ الكونين بعده، الإمام علي، عليه السلام، بكل صنوف الرعاية والعطف، فهي أمُّهُ بعد أّمّه.

لقد قرّت خديجة في بيت الخَدْج العِرْفاني [﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ (الأحزاب، 33)]، أي اتسعت الخديجة لكل بيتها، فلم تدخر جهدًا ولا زَمَنًا عنه، كما طلب منها الله تعالى[47]. ولذلك أعطاها الله تعالى ﴿الكَوْثَرَ﴾، دون غيرها من النساء، ﴿عَطاءً غَيرَ مَجذوذٍ﴾ (هود، 108). ذلك لأن أكرم الكرماء، سبحانه وتعالى، لا يمكنه أن يكون إلا أكرم من أكرم البشر، سيدتنا خديجة عليها السلام، فيعطيها، دون غيرها ﴿الكَوْثَرَ﴾. فالصلاة عليها يوم وُلدت ويوم ماتت شهيدة في شِعْب أبي طالب، عليه السلام!

فزوجة النبي (ص) التي تتوفّر فيها كل المعايير من الآية 29 إلى الآية 23 من سورة الأحزاب بامتياز وحقيقة، هي التي سيضع الله تعالى، في كيانها الملكوتي، امتداد أكمل البشر، صلى الله عليه وآله، ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ[كلهم]نَذِيرًا(الفرقان، 1) في أشخاصٍ رَحِمِيّة، مِنه، صلى الله عليه وآله، أي هي التي ستكون «أمّا للمؤمنين»، فِعلاً لا مجازًا، إذ ستكون أمّا لآبائهم الملكوتيّين. فالمطهِّرة الأقنتُ فيهن سيجعلها الله تعالى مطهّرة تطهيرًا لتلِد المطهَّرين تطهيرًا، عليهم السلام: ﴿وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ (…) وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ (…) إِنِ اتَّقَيْتُنَّ (…) وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، الجاهلية القاعدية التي تتأسس عليها كل جاهليات النِّحْلاَتِ البَشرية.

فلا بد من القطع مع تلك الجاهلية لدخول زمان النور المحمدي/الرحمة من الله تعالى)، ﴿وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ ﴾. فإذا نجحت الواحدة منكن في ذلك الامتحان الديني لكي يختار واحدة منكن لولادة أهل البيت، أبعدتْ ﴿الرِّجْسَ﴾ عنها وعن رحمها الذي سيتّسع لأهل البيت عليهم السلام.

فالرحم المطهَّر تطهيرًا هو الذي يُنتِجُ مُلكيا وملكوتيًّا المطهَّرين تطهيرًا وأشباحهم: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله﴾ بتوفيره هذا الرحم الطاهر فالمُطَهَّر تطهيرا، أي توفير زوجة النبي (ص) بتلك المعايير المثالية، أن يوفِّركم يا ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب، 33). ولذلك كانت صفتها الغالبة، عليها السلام:«خديجة الطاهرة»، لأنها هي الوحيدة التي تطابقت بأعلى درجات التطابق مع شروط انبثاق أهل البيت الطاهرين المطهّرين. ولذلك كانت الزوجة الوحيدة لرسول الله أنطولوجيّا، على الانطلاق، ولم يتزوّج غيرها.

  • أما سيدتنا أم سلمة، عليها السلام، فلم تكن صاحبة ذلك الرّحِم، وإنما كانت بَعْدَهُ درجة، فدثّرت أهل الكساء وزمّلتهم، أمَّا رؤومًا، فكانت فاطمة عليها السلام ابْنَتَها، وكان الحسن والحسين ابنيها، وهي التي حملت عِلْم النبيِّ ﴿مِنَ الآيَاتِ وَالحِكْمَةِ﴾، ولذلك جاءت الآية بعد آية التطهير التي توَّجَتْ خديجة، عليها السلام، آية لأم سلمة عليها السلام، (ومن كانت مثلها من النساء المسلمات؟!): ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّـهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾ (الأحزاب، 34). وكانت الآية الموالية متوجة لها إذ أنها فكانت ﴿امْرَأَةً مُوهِنَةً إِنْ وهبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ﴾، لأنها وهبَتْ نفسها لأوْلويته، فكان أن النبي ﴿أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْكِحهَا خَالِصَةً لَكَ﴾ (الأحزاب،50)، فكانت من المُخْلَصين، الذين أتوْا الله ﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء،89). تمَامًا كمارية المصرية التي وهبت نفسها لأكمل الناس، وهي مازالت في مصر.

فأنزل الله تعالى مستجيبًا لأم سلمة (ولغيرها من «الخالصات»)، وهو المجيب لكل كادح: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ (…) وَالذَّاكِرِينَ اللَّـهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّـهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الأحزاب، 35).فالآية تؤكد أن الله تعالى لا يميّز الناس بجنسهم (ذكورًا وإناثًا) بل بقيمة العمل الصالح، ولا تفاوت إلا به. ومن ناحية أخرى، كانت الآيتان 34 و35 تجعلان أم سلمة، هِند، العامِلة المجتهدة المُجِدّة، الصابرة في المَنْفى الحبشي والمَهْجر اليثربي، المحتسبة لَمَّا توفي زوجها الشهيد التي لم تُغْرها العصبية المخزومية عن طاعت الله ورسوله، طاعة الله ورسوله، التي عوّضها الله زَوْجَهَا الفاضلَ بأفضل البشر، صلى الله عليه وآله، ثم جعلها «إلى خَيْر»، هكذا بالمطلق (بالتنكير) لأنه خيرٌ كثيرٌ وكان عطاء ربك ﴿عَطاءً غَيرَ مَجذوذٍ﴾ (هود، 108).

كما حملت عليها السلام، كل آلام النبي (ص)، التي جمعها في قارورة التربة الحمراء، التربة الكربلائية، عليها السلام، وتجرّعت غصص تلك القارورة لمَّا فارت دمًا أحمر عبيطا، فعرفت أن آخر فرصة لتوبة الأكثرية الإسلامية قد قُتِلت بوأد من سمّتْهُ «ابْنَهَا»[48].

ولم تتبرّج بترّج العصبيات الجاهلية، ووقفت مع الحق، لما أقصى إمام الحق عن الولاية السياسية، رغم أن جلّ قومها المخزوميين كانوا مع الباطل.

ولم تتبرّج تبرُّجَ العصبيات الجاهلية، ووقفت مع الحق، لما رأت التَّيْمِيَّة تناصب الحقَّ العِدَاءَ بإعلانها التمرد على إمام الحق، عليه السلام، وتؤلب الناس عليه، ظلما وعدوانا. وقد راسلتها أم سلمة، وهي تستعد للتبرّج في البصرة متمردة على إمام زمانها: «يا عائشة إنك سُدَّة بين رسول الله، صلى الله عليه وآله، وبين أمته، وحجابك مضروب على حُرْمته، قد جمع القرآنُ ذَيْلَكِ فلا تندحيه (…) الله من وراء هذه الأمة! (…) بل قد نهاك عن الفُرْطة في البلاد (…) وغدًا تَرِدِين على رسول الله (…)»[49]. وقالت: «إنك لتعرفين منزلة علي بن أبي طالب، عليه السلام، عند رسول الله، صلى الله عليه وآله، أفأذكِّرُكِ؟!»، فذكّرتها في معاتبته إياها لمَّا قالت عائشة رأيًا قبيحا في الإمام، عليه السلام، وقال لها: «اِرْجَعِي وراءك، والله لا يَبْغَضُهُ أحدٌ (…) إلا وهو خارج عن الإيمان!»[50].

لم تَقِرَّ أُمُّ سلمة في بيت أمِّ سَلَمَة الملكوتي الراقي فحسب [﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾] بل قرّت بقلبٍ متوحّد مُسَلِّم تسليمًا لبيت النبي، صلى الله عليه وآله، وعاشت بحب أهل البيت الذين طهّرهُمْ الله تطهيرًا. فلم تُصلّ على محمد وآله، بلسانها فحسب، بل بممارستها النضالية وتجرّعها لكل آلامهم ولكل مصائبهم. إنها أم الحسن والحسين، بعد وفاة أمهما، عليها السلام! إنها أم كربلاء! إنها أُمّ القارورة المحمدية الحمراء! وإنها أمّنا حقا، أمّنا الرؤوم، العطوف، التي تعرف حقنا ومصلحتنا، لم تخنّا، ولم تدّخر نصيحة، ووقفت إلى جانب الإنسان، إلى جانب المستقبل البشري الأجمل! وقدّمت لأهل بيتنا، عليهم السلام، ابْنيْنِ كانا خادميْن لمُثُلِهِم…

إنها أم للمؤمنين حقا لأنها لم تتسبّبْ في فتن وحروب بينهم، ولم تَقْتل الألوف المؤلفة منهم، بل حارَبَتْ بضراوة حتى يحافظوا على حَيَواتِهِمْ ويحْفظوا دماءهم. وهل الأم تحب ابنها وتفديه بحياتها أمْ تقتله؟!!

فسلام عليك يا سيدتنا هندًا، يوم وُلدت، ويوم هاجرت إلى الحبشة مرتين، ويوم هاجرت إلى المدينة، ويوم صبرت على استشهاد أبي سلمة وسلام عليك، يا أمنا هندا، يوم وقفت مع رسول الله، صلى الله عليه وآله، ضد المتظاهرات على الله ورسوله من نسائه!

وسلام عليك يا أمنا هندا، يوم أوقفت الفتنة، يوم صلح الحديبية، وأشرت بذكائك إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله، بأن يذبح هَدْيه ليذبح فتنة مرضى القلوب!

وسلام عليك يا أمنا هندا، يوم حملت في قلبك مصائب سيدتنا فاطمة، عليها السلام، وسيدنا عليا عليه السلام.

وسلام عليك يوم حاولت إيقاف الفتنة على سيدنا علي (ع)، ويوم حاولت دعوة أهل المدينة لمناصرة إمام الحق، الحسن!

وسلام عليك يا أم المؤمنين، يا أم القارورة النبوية الكربلائية!

يا أم الأحرار! يا مدثِّرة المطهَّرِين ومُزَمِّلتهم حين هتك أهل السلطة الاستبدادية هتكوا الحرمات وحرّموا عليهم الدّثار!

السلام عليك يا أم المؤمنين الحنون، التي دَعوْتِهم لما يُحْييهم لا لما يَقْتل الألوف المؤلفة منهم، بل الملايين إلى يوم الظهور!

 

6-أحزاب الشِّرك العربي واليهوديّ أمام خندق الإيمان:

 

«الحزب» هو المَقوليّة القرآنية هو «الجماعة المتألِّبة». والتألّب هو «الإتيان من كل جانب» نتيجة «الانسياق والانضمام» المتسارعان داخل «الأصل» التحازُبيّ الواحد. وقد يكون التحازُب متألّها، وقد يكون متشيطنا[51].

في معركة الأحزاب تحزّب جلّ العرب مع جل اليهود ضد رسول الله، صلى الله عليه وآله والمسلمين، ظلما وعدوانا، وكأن أكبر تجمع عسكري في تاريخ العرب. لقد اتصل اليهود بقريش (وزعيمهم أبو سفيان) وغطفان (ومنهم كان ميلاد الشمرين ذي الجَوْشن)، واتفقوا على مهاجمة المدينة. لكن أنباء المؤامرة وصلت رسول الله، صلى الله عليه وآله، فشاور الأصحاب في أسلوب المواجهة، فكان أفضل اقتراحٍ الاقتراح العبقري لسيدنا سلمان، رضوان الله عليه. فكان حفر الخندق، وكان على رأس الحافرين سيدنا محمد صلى الله عليه وآله.

إن سورة الأحزاب، باعتبارها وثيقة تاريخية، تؤكد أن لحظة ما قَبْل حفر الخندق، وربما حتى ما بعده عندما طالت أيام الحصار، كانت لحظة «زلزال» لأكثرية المسلمين المطلقة: ﴿إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ (الأحزاب،10)، وأصبح الإيمان بالله تعالى وبرسوله، صلى الله عليه وآله، بين البقاء والزوال: ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّـهِ الظُّنُونَا[52]. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا(الأحزاب،10 و11).

لقد ظهر من بين المسلمين، إلى جانب المنافقين، ﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ (الأحزاب،12). فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يبشرهم أثناء حفر الخندق بـ «الانتشار في الأرض»، وهم يقولون سِرًّا: ﴿مَّا وَعَدَنَا اللَّـهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ (الأحزاب،12).

وبلغ الأمر بمرض القلوب أن يستأذنوا النبي للرجوع عن المرابطة ﴿يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾ أي غير حصينة، ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ (الأحزاب،13). والله تعالى يفضحهم بأنهم قريبا جدا سيشاركون في المؤامرة ضد أهل البيت، ضد السَّوْق الأنجع لاستمرار الإسلام وتعاظمه ودولته: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا﴾ (الأحزاب،14). وهم «معوّقون» (مثبّطون) لكم، وسيكون كذلك، إذ يقولون: «وَددتُ لو أن بيننا وبين فارس بحار من نار»، «وددت لو أن  بيننا وبين الروم بحار من نار»، ويحاولون توجيه السَّوْق النبوي/الإلهي في « وطء الأرض»،«من توسّط العالم»، كما نصّت سورة العاديات، وكما نصّ رسول الله، صلى الله عليه وآله، عندما بشّر بفتح بلاد الشام وفتح العراق وإيران عندما انقدحت صخرة الخندق وقد ضربها بمعوله الشريف، فاقترح على المسلمين قَتْل العرب الذي رفضوا خلافتهم (بنو يَرْبوع مثلا) معتبرين ذلك «جهادًا»، وعندما اقترحوا عليهم «فتح» إفريقيا الشرقية عِوض «توسط العالم».

وقد فضحت السورة الكريمة مَرْضى القلوب، في تبيانهم أنهم يريدون السلطة مكان ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله، وأهل بيته المعصومين، عليهم السلام إذ يقولون لإخوانهم المسلمين: ﴿هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾ (الأحزاب،18). وهم جبناء في القتال، بل لا يأتون المرابَطة على الخندق (خندق معركة الأحزاب وخندق حرب الإسلام مع الظلم الكفْريّ عموما) إلا قليلا، ليشغلوك أثناء مطالبتهم بالسلطة: ﴿هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾،«مَنْ يُنازعُنَا سُلطان محمد؟!»[53]، فالمسألة عندهم سرقة «سُلطان»، وحاشا رسول الله، صلى الله عليه وآله، أن يكون سلطانًا، بل هو العبْد الأصلح خدَم الناس بولايته السياسية.

فهؤلاء المرضى ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾ (الأحزاب،19) بالمشاركة القتالية والمرابَطية والمالية، ﴿فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ (الأحزاب،19). فلم يكونوا يتوقعون من الهجرة إلا الإثراء المالي و«الأمْر» السياسي (﴿هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ﴾ (آل عمران،104). فلم يكن بعض الأنصار يتوقعون من هجرة الرسول صلى الله عليه وآله، أن تأتيهم بابتلاءات كمعركة الأحزاب. ولم يكن بعض المهاجرين يريدُ من الهجرة سوى «أمر» و«مكانة» لأنهم مِن بُطون مهمَّشة في قريش.

والسورة الكريمة توجّه الإمام عليًّا، كيف سيتصرّف إزاء رغبة مَرْضى القلوب في تحويل المسار الإسلامي ل«وطء الأرض»، كما أراد الله تعالى، وكما تقتضي الواقعية التاريخية، وذلك بإسكاتهم بالغنيمة المالية والسياسية، فبذلك سيسيطر عليه السلامعلى خُوَافهم من الساسانيين والهرقليين، كما سيطر رسول الله، صلى الله عليه وآله، من خُوَافهم من الأحزاب العربية/اليهودية: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ﴾ إذ سيتكفل الإمام، عليه السلام، وأنصاره بأمر «الانتشار في الأرض»، وأقنعهم أنه لا يُريد سلطانا سياسيا عليهم فلم يعودوا يخافون منه (﴿سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَة جِدَادٍ﴾ يطلبون الغنيمة المالية والسياسية ﴿أشحة عَلَى الخَيْرِ. أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ حقا ﴿فَأُحِيط الله أَعْمَالهُمْ﴾،فلم تستمر أطروحتهم في النظام السياسي والتصور الديني، بل ماتت بموتهم، ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرًا﴾ (الأحزاب،19).

لقد أشرب مرضى القلوب هؤلاء عجل الأحزاب العربية/اليهودية، فمازال الخُوَاف من الأحزاب في قلوبهم، وإذا أتوا مرة ثانية وعرضوا التحالف مع هؤلاء المرضى، متخلّين عن سَوْقهم السابق في معاداة كل المسلمين دون استثناء، فسيسقطون في فخّهم، بوساطة من المنافقين[54]، وهنالك سيصبحون «أعرابا» بالمفهوم القرآني (سورة الحجرات، الآية 14)، أي العرب الرافضين للمدينة المحمّدية، أي للمدينة كما يريد رسول الله، صلى الله عليه وآله: ﴿يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ﴾ مدعين الإسلام ﴿يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ﴾، متحالفين مع أعداء الأمس، من قريش وكعب أحبارٍ، ووهبٍ بن منبّهٍ، وهَوَازن (قبيلة الشِّمْر بن ذي الجوشن) ﴿يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ﴾، أي متجسسين على أهل البيت، عليهم السلام وحجم أنصارهم ومدى رُكنهم الاجتماعي.

ولكنّ المؤمنين الحقيقيين لما رأوا الأحزاب، بقوا على مَبادئهم ومتيقنين من بنوءات «الانتشار في الأرض» النبوية/الخندقية: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَـذَا مَا وَعَدَنَا اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا﴾، بالله تعالى ورسوله،﴿وَتَسْلِيمًا﴾بإمامة أصحاب الكساء ووُلْدِهِمْ المعصومين، عليهم السلام.

والله يهدّد المرضى من مغبّة عدم طلبهم الشفاء، من النتائج الوخيمة عليهم، لأنّ ما يمكن أن يغعلوه لن يضرّهم وحدهم بل سيضرّ الإنسانية، فيتحمّلون أوزارًا تاريخية على أوزارهم: ﴿ئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾، فأنت قسيم الجنة والنار وسَنَأْمُرُك بلعنهم وعدم الشفاعة لهم يوم القيامة، ﴿ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الأحزاب،60).

فطاعة بعض المسلمين للسادة والكبراء الذين كانوا محاربين للرسول (ص) ستؤدي بهم إلى ﴿ضَعفيَنْمِنَالعَذَاب﴾،(الأحزاب، الآية 68)، لأنّ ما قاموا به أدّى إلى تعطيل حركة التاريخ وتعطيل ما أنجزه الرسول من انتصارات عليهم إذ سيولّونهم على الشام، يأخذون السلطان شيئا فشيئا.

فسلطان هؤلاء المرضى على مدينتك بَعدَك محدودٌ جدًّا جدًّا، ولن تستمر أطروحتهم في النظام السياسي إذ ستنقرض بموتهم، وإذا دُفنوا بجوار قبرك، فلن يدوم الأمر إلا بضع ساعات، لأنّ الإمام عليا، عليه السلام، سيُخرجهم من القبر ويرمي بهم ليلا في النار في نار قبرٍ آخر، لأنه وريثك، فهو قسيمٌ للجنة والنار أيضا: (في نار قبرٍ آخر)﴿ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الأحزاب،60).فهم لن يلبثوا بجوار قبرك إلا قليلا، إذ سيُقتلون واحدًا واحدًا شرّ قِتلة في الدنيا، قبل قتلات الآخرة، كما حدث لمن انقلبوا على الإمام هارون، أخي موسى عليه السلام: ﴿مَلْعُونِين﴾، تُطردُ أطروحاتهم بسهولة في مزابل التاريخ، ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾، في كل حِمَوات سلطانهم الوقتي ﴿وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا. سُنَّةَ اللَّـهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلً(الأحزاب،61، 62).

فينبغي أن يكون التعامل مع أحزاب الجزيرة العربية بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وآله، الظاهرية، كما كان التعامل الرساليفي معركة الخندق، من أجل إتمام نور الله تعالى على كل العالم في أسرع وقت، من حيث استمداد أولوية النبي على أنفسنا(الأحزاب ،الآية 6 )، وأولوية أرحامه الذين منه (الأحزاب، الآية6). فقد شهدت المعركة بأهمية سيدنا الإمام علي، عليه السلام، الذي كان «الإيمان كله»أمام «شرك الجزيرة العربية كله»، بشهادة الأمين المأمون، الصادق الذي لا يُحابى، صلى الله عليه وآله[55]، وأولوية أهل البيت المطهرين تطهيرًا (الآية 33).

وينبغي أن نقدم بعدهم زيدًا وسَلمانًا، وأمثالهما في نقديهما لأهل البيت الكِرَام، عليهم السلام، «لنفوز فوزًا عظيما» (الآية 71) وتحقق الانتصارات التاريخية بسرعة، وبدون آثار جانبية/سلبية. فإذا أخلَلْنا بالنظام الذي طلبته منا سورة الأحزاب، (والقرآن الكريم)، فإننا سنكون «ظلومين، جهولين» (الآية 72). فمن الواضح لكل ذي عقل، وذي عَدْل (الظلومية والجهولية) أن الانتصار على الأحزاب كان بفضل رسول الله (ص) واستماتة الإمام إذ انتصر على بطل أبطال العرب عمرو بن عَبْدِ وِدٍّ، فانهارت الاستعدادات الهجومية للأحزاب. كما أثبت سيدنا سَلْمان، رضوان الله عليه أنه قادر على تنفيذ نبوءات رسول الله (ص)، من أجل «الانتشار في الأرض»﴿وَأَرْضًا لَّمْ تَطَـُٔوهَا (الأحزاب،  الآية 27)، إذ كان لرأيه في حَفر الخندق الدور الضخم جدّا في الانتصار. وفوق ذلك كله أثبت رسول الله، صلى الله عليه وآله، أنه أعظم العبقريات العسكرية، بل هو العبقرية العسكرية، بعمله الاستخباري الفعّال الذي أدّى إلى إيقاع الخلاف والتنازع بين الأحزاب[56]،وخاصة بإثباته أمام الجميع أنه صُنْعُ أعظمِ و«أَطْهَرِ» إنسان بعده، وقد أصبح بطل العرب، لا عمرو بن عبدودّ، فليس تقديمه له محاباة، وإنما لجدارته بالتقديم. فالرائد لا يخون أهله.

 

7- النعمتان في التمهيد لوطء الأرض عدلا وقسطا:

 

إن قابلية﴿الذين أنعمت عليهم(من رسول وأهل بيت دورته الرسالية) على الإنعام الفيضي تتبدى في قدرتهم_بإذن الله تعالى -على تفجير النِّعماتِ الإنسانية، التي تكون أعوانا لهم وأسْواتٍ للأمم التي بعثوا من أجلها.

ففي معركة الأحزاب-الخندق كان الإمام علي هو النعمة المحمدية العظمى. وكان أيضا إلى جانبه نعمتان، دونه، ولكن في مقامين عرفانيين عظيمين، هما:

_سلمان الفارسي صاحب فكرة الخندق العبقرية التي كان من الممكن  أن ينطق بها أذكى العالمين(صلى الله عليه وآله)، ولكن الله يريد أن يطلعنا على القدرة الفيضية لرسول العالمين جميعا ، والذي أصبح «سلمان منا أهل البيت»لأنه تماهى بهم وعشقهم، وفني  في خدمة مسعاهم الرسالي التاريخي حتى توفي واليا بأمرهم على المدائن، العاصمة الإيرانية- العراقية . إنه أحد«أدعياء»رسول الله«سلمان منا أهل البيت! ».

_ زيد بن حارثة الذي كان«منا أهل البيت»أيضا  لأنه سليل تربية والد أهل البيت وسليل تربية والدة أهل البيت(خديجة بنت خويلد) وسليل تربية علي بن أبي طالب (الوالد الثاني لأهل البيت) إذ عاشا معا في الدار نفسها ، دار السيدة خديجة ، بل وفي غار حراء أحيانا. لقد أفاضت«النعمة» المحمدية على«أول»ابن له : زيد بن حارثة، فكان إحدى نعماته الأرقى في العالم الإنساني:﴿وإِذْ تَقُولُ لِلَّذِىٓ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ(سورة الأحزاب،  الآية 37)، «بالنعمة الخاصة الرحيمية التي هي المعرفة والمحبة والهداية الحقانية الذاتية من النبيين والشهداء والصديقين والأولياء». وقد كان سلمان وزيد من هؤلاء الأولياء والصالحين، «الذين شاهدوه أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، فغابوا في شهودهم طلعة وجهه الباقي عن وجود الظل الفاني». وكانوا بذلك بعيدين عن ﴿المغضوب عليهم﴾ الذين وقفوا مع الظواهر،واحتجبوا بالنعمة الرحمانية والنعيم الجسماني والذوق الحسي عن الحقائق الروحانية والنعيم القلبي، والذوق العقلي». وكانوا بعيدين عن﴿الضالين﴾ الذين وقفوا مع الأوهام والتأويل المحرفة للكلم الرسالي عن موضعه. فلقد كان زيد بن حارثة، رضوان الله عليه، يأخذ القول المحمدي: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ﴾(سورة الحشر، الآية 7). ولذلك تكونت لديه قابلية النعمة الإلهية_المحمدية:﴿وإِذْ تَقُولُ لِلَّذِىٓ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾(سورة الأحزاب،  الآية 37). فَحُقّ له أن يكون من﴿ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ﴾ (سورة الأحزاب،الآية 39). ولقد اصطفاه رسول الله، صلى الله عليه و آله لكي يحاول أن يجعل أذكى قريباته (زينب بنت جحش) قابلة للنعمة المحمدية، وكان ذلك شرفا له: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِىٓ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّه﴾(سورة الأحزاب،  الآية 37 ). فلقد علمه بقوله الإلهي كيف يكون زوجا تقيا ، صالحا، فالزواج إن لم يجعل المؤمن سعيدا، يجعله مجاهدا،﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (سورة النساء ، الآية 95)،﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا(الأحزاب،  الآية 36 ).

فلما نجح«النعمة الزيدية»في امتحان المجاهدة الزواجية ، حُقّ له أن ينال السعادة الزواحية مع سيدتنا أم أيمن،  رضوان الله عليها.

لقد كان الإمام علي (ع)، والنعمتان (سلمان وزيد)﴿جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا (الأحزاب، الآية 9 ). كان هم المؤمنون حقا (ومعهم آخرون)،  وكانوا ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (الأحزاب، الآية23). هذا بينما كان جل المؤمنين آنئذ على ضفة المرض :﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (الأحزاب،  الآية 11)، ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (الأحزاب،الآية 10 ).

كان سلمان وزيد جنديين محمديين من﴿جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا (الأحزاب، الآية 9)، لأنكم (في أكثريتهم المطلقة) كنتم﴿وَإِذْ زَاغَتِ ٱلْأَبْصَٰرُ(الأحزاب ، الآية 10)، وعندما يزوغ البصر لا يمكن له أن يرى مقامات الأولياء والشهداء والصالحين،  فضلا عن مقامات الصديقين (كمقام الصديق الأكبر:علي عليه السلام). وقد كان زيد«دعيا»لرسول اللهأي«المتبنى»، أي منتسب إلى«أب»لا إلى والد .

ويكفيه فخرا أن الله تعالى  في كلامه العظيم (القرآن الكريم) سماه، أي نسبه إلى قرآنه (=«زيد القرآن هو زيد بن حارثة، لا زيد غيره» ). و«الدعي»هو أحد المنتسبين إلى«الحلف»[57]، وقد كان سيدنا زيد أحد حلفاء الحكيم الأعظم (محمد صلى الله عليه و آله) الصادقين. و«الدعوة في الطعام، والدعوة في النسب»[58] ولقد دعي سيدنا زيد(رض) إلى«طعام الأبرار»،(سورة الإنسان، الآية8) من محمد وآل محمد (علي، خديجة، فاطمة) فلبي، ولذلك استحق الدعوة في النسب ، فكان«زيد منا أهل البيت»، تماما كسيدنا سلمان:﴿وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا(الكهف، الآية 69). جعلنا الله تعالى من«أدعياء» أهل البيت!!

جاء في الحديث الشريف:«خلق شيعتنا من طينتنا»( الكليني، الكافي/الصدوق ، الأمالي..) وهذه الطينة ليست الطينة المادية المفروضة علينا ، والتي لا نستطيع أن  نفتخر بها وإلا كنا كإبليس﴿أنا ﴾، وإنما الطينة التي نختارها ب«وطر» و«همة» و«إرادة »إنها الطينة الملكوتية-الوجودية لمحمد وأهلبيته الوسيعة وسع الرحمة الإلهية الذين يتخذون من يريد«دعيا»لهامثل النعمتين: سلمان وزيد.

وقد كانت علاقة زيد بزوجته الأولى (زينب بنت جحش) علاقة«وطرية». و«الوطر»هو«كل حاجة كان لصاحبها فيها همة»[59]. و«الهمة»هي النية المريدة، العازمة على الشيء[60].فلقد كان زيد بن حارثة، رضوان الله عليه ، جنديا مطيعا لرسول الله، صلى الله عليه و آله،  فكل أمر يأمر به، يتفهمه زيد جيدا، ثم يحمله بـ «همة». فلقد كان زواجه ببنت جحش ، بأمر من الله تعالى،  وكان زواج النبي بما أمر من الله تعالى أيضا.﴿فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا(الأحزاب، 37 ). وحاشا لنبي الله تعالى ولجنديه، المؤمن، زيد، أن  يكون ذا شهوة غير وطرية، أي خارج المسعى الرسالي المحمدي.

لقد قاد سيدنا زيد بن حارثة مسعى النبي محمد (ص)  لوطء الأرض السورية (والتي تحتلها بيزنطة عموما) بعد إعلان قيصر هرقل مسعاه لاستئصال الإسلام ودولته. فكانت قيادته معركة مؤتة، خارج حدود الدولة المحمدية شمالا.

أما سيدنا سلمان فقد قاد مسعى النبي (ص) لوطء الأرض الإيرانية ، بعد إعلان الكسرى يزدجرد الثالث مسعاه لاستئصال الإسلام ودولته. فكانت قيادته للاسقاط الناعم للدولة الساسانية[61].

ولكن النعمتين هما مجرد عنوانين لأقطاب/جبالالوطء المهدوي لكل الأرض عدلا وقسطا وعلما وإيمانا، ظهورا لمضمون الإنسان الخليفة، حامل الأمانة.

 

        خلاصة:

  • تؤكد سورة الأحزاب أن «الأمانة»التي تقبَّلها الإنسان بعهْدِهِ التكويني-الظَّهْرِيّ، لَنْ يَحْمِلَهَا إِلاَّ إذا كان «عَدْلِيًّا» دائما في علاقته بنفسه وبالآخرين («الظَّلُومية»)، ومترقّيا في مراتب «العلمية»(«الجَهُولية»).
  • لكنَّ هذا الاستعداد للترقي لن يكون مضمونًا إلاّ إذا تماهَى المؤمنون بمَنْ «أوْلَى مِنْ أنفسهم» (الأحزاب، الآية 6)، الذين تترقى فيهم/تتوفر فيهم أرقى مراتب «العَدْلية» و«العِلمية» والتي تترقى هي نفسها فيهم باستمرارٍ كادح). فمِن العَدْل والعلمية الإقرار لمن هو أعْدَل وأَعْلَم بالأولوية على أنفسنا.
  • هؤلاء «الأولى من أنفسنا» في معرفتهم بمصالحنا الحقيقية هم النبي محمد (ص) وأهل بيته الذين نصلّي عليهم في التشهد كلّ صلاة. وفي الحقيقة، فإن لكل «سماء» نيويّة (=دَوْرة رسالية – تاريخية)«إبْـ»«رَاهِيمٌ»(= «أبٌ رَحيمٌ»)، ولكل إبراهيم أهلُ بيته الأوْلى مِن أنْفس العالَمين في عصر تلك الدّورة الرسالية. وذلك مِنْ ﴿أَمرِ اللَّـهِ(هود، 73) المُعْجِب، الرائع، لأنهم ﴿رَحمَتُ اللَّـهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيكُم أَهلَ البَيتِ. إِنَّهُ حَميدٌ مَجيدٌ(هود، 73). فهناك في كل دورة رسالية أهل بيت، همْ رَحْمَةٌ وبَرَكَاتٌ على كل العالَمين في عصرها، يفيضون عليهم ما آتاهم الله مِن «رَحْمة» و«بركاتٍ»، فهم أكرم الأكرمين في عصرهم، مِنْ لَدُنْ أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين إطلاقًا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَلكي يَحْمَده الناس على أكبر نِعمِه (= محمد وآله) ممجِّدين محمَّدًا أبَدَ الدهر.
  • إنَّ تماهي العالَمين الأتمِّ بالرحمة للعالمين (محمد (ص)) وبـ«بركاتِه» الدائمة المنبثقة مِنه (= أهل بيته) هو الذين سيجعل أرضا غير الأرض، أرْضًا «لم تُوطأْ» بَعْدُ، أي أرضا «سَتُوطَأُ» قِسْطًا وعَدلية وعلمية في تطوّر لا ينتهي: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّـهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا(الأحزاب، 27).

وبذلك ستنهي حَرْب حِزب محمد وآل محمد على كل أحزاب الكُفْرِ بأمانة الإنسان العَدْلية-العلمية وبمَمْ هُمْ أَوْلى به مِنْ نفْسِه بعصْر تطوّر «القلب السليم» وعصْر «إشراق» الأرض بنور ربّها: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(الزمر، 69). هنالك لا ظلومية ولا جهولية، بل إشراق على إشراقٍ لنور العلمية والعَدْلية، بل إشراق لحقيقة الإنسان، خليفة الله تعالى في الأرض، «بميثاق» كل النبيين والشهداء ﴿وَمِنكَ(الأحزاب، 7) يا مَنْ خَلق الله تعالى العالمين لأنه خَلقَك، يا أكمل الوَجود!!

«اللهم صل على محمد وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم». إنك ﴿حَمِيدٌ مَجِيدٌ!!

 

مـن شـعـر الإمــام الــشــافــعــي فـي آل الــنــبـي صــلى الـلّـه عـليـه و آلــه و ســلم

 

 

حبّ آل بيت رسول الله

 

يـا آلَ بـيْـتِ رســولِ الـلّــه حُـبُّــكـمُ فــرضٌ مـن الــلّــه فـي الـقــرآنِ أنــزلَــهُ
يـكـفـيـكُـمُ مِـنْ عَـظـيـمِ الـفـخـرِ أنـكــمُ مَـنْ لـم يُصــلِّ عـلـيـكـم لا صَــلاةُ لَــهُ

 

آل الــنــبــيّ ذريــعــتـي

 

آل الــنًّــبــيِّ ذَريــعــتــــي  و هُـــمُ إلــــيـــه وَسِـــــيــــلـــتـــي
أرجــو بــأن أُعـــطَــــآ غــداً بــيــدي الـيـمـيـنِ صَــــحــيــفَـتـي

 

*************************************************

*ترسيمة مواقع النجوم في سورة الأحزاب

[1] ابن عربي (محيي الدين)، التفسير، دار الكتب العلمية، بيروت،2001 ج2، ص151.

[2]راجع: «تدبر في سورة المجادلة».

[3] و 5 ابن عربي، م. س، ص151 أيضا.

[4]ابن عربي، م.س.

[5]ابن عربي، م.س.

[6] ابن عربي، م.س.

[7] ابن عربي، م. س، ج1، ص43 و44.

[8] ابن عربي، م. س، ج1، ص44.

[9]﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ(الأحزاب،7).

[10] ورد الحديث النبوي في المستدرك للحاكم. قال الحاكم: «صحيح الإسناد».

[11] ابن عربي، م. س، ج2، ص145.

[12] ابن عربي، م. س، ج2، ص145.

[13] ابن عربي، م. س، ج2، ص145، أيضا.

[14] م. س، ص143.

[15]﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّـهَ﴾(الإسراء، 1).

[16] ابن عربي، م. س، ص147.

[17] ابن عربي، م. س، ص147.

[18] في حادثة المباهَلة ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ﴾(آل عمران،61).

[19] ابن عربي، م. س، ص142.

[20] الترمذي، الصحيح (صحّحه الألباني).

[21] أنظر مثلا : السيوطي ، مسند فاطمة.

[22] رواه البخاري وأبو داود والألباني.

[23] أنظر مثلا : صحيح مسلم.

[24] و4 و5 و6 ابن عربي، م. س، ص150.

[25]

[26]

[27]

[28] م. س، ص151.

[29] راجع«تدبر في سورة آل عمران».

[30] ابن عربي، م. س، المجلد الأوّل، ص255

[31] راجع تدبرنا في سورة البروج وسورة الشمس.

[32] راجع تدبرنا في سورة الكوثر.

[33] البخاري، الصحيح، ج4، دار ابن كثير، بيروت 2002، ص118. وكذلك سنن النسائي والدر المنثور للسيوطي…

[34] رواه البخاري ومسلم.

[35] و2، ابن عربي، م. س، ج1، ص255.

[36]

[37] م. س، الصفحة نفسها.

[38] م. س، ص256.

[39] م. س، ص257.

[40] م. س، ج2، ص132.

[41]رواه مسلم والبخاري…

[42] راجع: المغربي (نعمان)، «مِن الحُجون إلى القصر القصبي وحدائقه الغنّاء: حديث حجّي إلى أمي الكبرى خديجة بنت خويلد»، المحور العربي، بالإنترنيت.

[43] راجع تاريخ الطبري وسيرة ابن هشام.

[44] انظر شهادة عفيف الكندي.

[45] راجع تاريخ الطبري وسيرة ابن هشام أيضا.

[46] راجع تدبرنا في الكيان السوري: طه – النجم.

[47] … وَمَنْ أَدْرَاك أن الله تعالى لم يُكْرِمْها بآيات شروط زوجة النبي (ص) قبل نزولها لكل الناس (أو على الأقل بمحتواها الضِّمْنيّ)؟؟! إنه، تعالى، الكريم الأكرم، ولي كل كريم مثل خديجة الكريمة!!

[48] … انظر حديث الكساء (رواه مُسْلم، وغيره).

[49] الحسني (أمينة أَمِزْيان)، أم سلمة أم المؤمنين، وزراء الأوقاف، المملكة المغربية، 1998، ج1، ص372 و373.

[50] م. س، ص377.

[51] … راجع العنصر الثاني في«تدبر سورة المجادَلة».

[52]﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّـهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا: أنواع كثيرة من الظنون، وشك ضخم!!

[53] الطبري، م. س، ص306.

[54] توسط لهم المنافقون فقرّبوا لهم قبيلة «أسلم» التي أتمّت انقلابهم. ثم تحالفوا مع قريش (بنو أمية في الشام)، وكعب الأحبار (الوحيد الذي يُسْمح له بالتدريس في مسجد النبي، صلىاللهعليهوآله).

[55]«لقد برز الإيمان كله إلى الشرك كله»، رواهُ ابن أبي حديد في شرح نهج البلاغة والجاحظ في العثمانيةو القندوزي الحنفيفي ينابيع المودة والطبري وابن كثير…

[56] جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، السيرة والتاريخ: عَرْض تحليلي لحياة النبي الأعظم (ص) وسيرته، بيروت، 2000م، ص84.

[57]ابن منظور، لسان العرب،  المجلد 14، ص261.

[58]ابن منظور، لسان العرب،  المجلد 14، ص261ايضا.

[59] م.س. المجلد 12،ص622.

[60]ابن منظور، لسان العرب، المجلد 5,،285.

[61]راجع«تدبر في سورة العاديات».

 

 

ترسيمة مواقع النجوم في سورة الأحزاب

شاهد أيضاً

تدبّر في سورة القمر: سورة «القمر» الذي إسمه الحسين وأختِه ذاتِ «الرّيح الصرصر»…بقلم د. نعمان المغربي

تمهيد: مُفترَض أن سورة القمر تغطي ﴿ ٱلنَّبَأ﴾ الكربلائي:   كلنا نعلم حديثيْ رسول الله(ص) …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024