خصائص روح محمد التي بين جنبيْه وآثارها على عالَم العَدْل والعطاء القادم |
المقولات المركزية: § ﴿أَعْطَيْنَاكَ﴾: العطيّة الإلهيّة هي الإفاضة ذات المَدَى المحمدي، أي مدى الهيمنة المحمدية الدنيوية ومدى الرحمة المحمدية الأخروية. فهي ليست عطية خاصة أو فردية أو محدودة: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّـهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾. § ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾: الصّلاة لربّ الكوثر، لربّ روح النبي (ص)، هي التسبيحة الزهراوية التي يسْتسلم لها المريدُ المحمّديُّ كلّيًّا، مستغرقًا في الكونيّة الفاطمية. § «الأَبْتَرية»: هي نقيض العطيّة «الكوثرية». هي نقيض الملْءِ والإفاضة. هي نقيض ملْء الأرض عدْلا وقسطا. هي الانقطاع عن الوجود. هي الانقطاع عن الإنسانية. § «الكوثرية»: هي العشق الذي يفيض على الوجود ومنه. هي تجسد العطية الإلهية. هي اليد الفاطمية تملأ الأرض الفدكية/المِلّة، بواسطة أهل البيت (ع)، والوِلادة التاريخيّة لمُصْحفها (الدّليل الفاطمي التاريخي). |
موضوع السّورة الكريمة: تُدْلفنا السّورة الكريمة إلى جمالية الكون الفاطمي، بما هو العطية الإلهية الأعظم للرحمة العالمية (ص)، أي للعالَمين: كوثريةً وصلاةً/صِلَةً دائمة مع الله تعالى ومخلوقاته، عَبْر المهدوية المعيدة لخلق الكون الفاطمي: وزارةً للمَعاش العَدَالي وتسبيحَةً للعطيّة المحمدية العظمى. |
ديباجة
«أرى نفسي قاصرا عن ذكر اسمها»
– روح الله الموسوي عن الزهراء (ع)
«ما تَخْرِمُ مِشْيَتُهامِشية رسول الله (ص)»
– ابن طَيْفُور، بلاغات النساء
ــــــــ * ــــــــ
- أنطولوجيا الفاطمةِ: أُمُّ أبيها وأمُّ الكوثَريِّينَ:
﴿إِنَّا﴾: ضمير الإله سبحانه وتعالى، هنا هو ضمير «نحن»، ضمير المتكلم الجمع، إشارة لعظمة الفعل الآتي القُصْوى.
﴿أَعْطَيْنَاكَ﴾: العطية تكون مباشرة، أماإلهيةًفتكون بالواسطة، كامرأة تَلد مثلا:﴿لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا﴾،(مريم، 19). وقد كان الإعطاء بضمير النحنُ لعظمة المُعطى الكُبرى/القُصوى.
لله، سبحانه وتعالى، عطيات عديدة لحبيبه الأعظم، أكرم مخلوقاته وأجلها وأجملها، إذ أعطاه «الإيواء» على يد عبد المطلب، فأبي طالب (عمران) وفاطمة بنت أسد، وأعطاه «الإغناء» بواسطة خديجة عليها السلام، وأعطاه «الإهتداء» للنبوة والقرآن الكريم، على يد جبريل عليه السلام ولكنه ادخر له ما أعظم: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ[بضمير المفرد] رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ (الضحى، 5). فلقد أعطاه مقام «الإيواء»، بواسطة عبد المطلب وأبي طالب عليه السلام، وأعطاه مقام الهداية للنبوة بواسطة جبريل، وعطية الإغناء بواسطة خديجة عليها السلام.
ولكنْ هناك ما أعظم من تلك العطيات. فأهم عطية جاءته بعد النبوة هي «الكوثر»، هي فاطمة الزهراء و«السر المستودع فيها»[1]. وهي عطية عظمى، لأنها لم تأت بواسطة بل مباشرة، فهي وليدة الإسراء والمعراج، وليدة ثمار الجنة المحمدية، وليدة ليلة اختلاء الحبيب بالحبيب العبد المصطفى،وهو ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ﴾، بعد أن وقف جبريل ولم يواصل الرحلة معه الرسول المصطفى، لأنه لو واصل قيد أنملة لاحترق، و«مرج» الله تعالى صفيه يتقدم وحده نحو المنتهى الكمالي الإنساني، أي ﴿سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ﴾. وهناك، كان ما كان، ومما كان إعطاء الحبيب أعظم المخلوقات وأجملها (مع الإمام علي عليه السلام بعد الرسول المصطفى)، فسقاه إياها مباشرة، لنكون «مهجة المصطفى»و«روحه التي بين جنبيه»[2]لِتجلى سجيته الملكوتية. فهي «ما تَخْرِمُمِشْيَتُهامِشْيَةَ أبيها»[3]، لا مِشْيَتَهُالمادية فحسب، بل أيضًامِشْيَتَهُ في الحياة والتاريخ أيضا، فمِشْيَتُها الوجودية والاجتماعية – التاريخية مطابقة للمِشية المحمدية.
فإذا كان محمدٌ في الحديث القُدُسي غائيةَ العالَم: «يا محمد لولاك ما خلقْتُ»[4]، فإن فاطمة/الكوثر هي علة استمرار غائية العالم. فهي «أمُّ أبيها» بَعد أمومة آمنة عليها السلام، وروحه الثانية.
وإذا كان الصِّدّيق عبد المطلب (شيْبة)، عطية الله تعالى الأولى، لرسول الله صلى الله عليه وآله، يبقى «جَدًّا» في الخطاب النبوي؛ وإذا كان الصّدّيق أبو طالب (عِمْران) يبقى «عَمًّا»؛ وإذا كانت الصّدّيقة خديجة تبقى «زَوْجًا»،و«أمًّا للمؤمنين» فِعْلًا لا شكلا، عليهم السلام جميعا؛ فإن فاطمة الزهراء «أمُّ أبيها» في الخطاب النبوي[5]. وذلك لا لأنها عَوّضت له أحسن تعويض أمومة أمه وعطف زوجته خديجة عليها السلام، فحسب بل لأنها أعادت ولادته بعد مماته، إذ أعادت مسعاه التّاريخي(= مشروعه التاريخي)، الذي حاول الانقلاب على الأعقابِالسقيفيُّ قبرَهُ، وأعادت وجوده المادي والصِّدّيقي/الملكوتي إذ وَلَدَت/«أخْرَجَتْ» له بمعية الإمام علي عليه السلام،﴿اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ أي الحسنين[6]،واللذيْن مِنهما ﴿الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾ (الرحمان 24)، في بحر فاطمة، في بحر علي، وهما بحر واحد، بحر الملكوت العظيم غير النهائي، من مبدع واحد هو أعظم المربين، وخير الصانعين: محمد صلى الله عليه وآله. ولذلك استحقّت أن يقبّلها أبوها «بين عينيها»[7] الشريفتين كلما رآها.
وإذا كانت أزواج الرسول صلى الله عليه وآله، أمهات للمؤمنين،بشرطٍ:﴿إِنِاتَّقَيْتُنَّ﴾ (الأحزاب، 32)، فليس كلُّهن أمهات للمؤمنين أنطولوجيًّا؛فإن«أم أبيها»،الكوثر، دون اشتراط مسبق، لأن الشروط متوفرة فيها، بل هي الشرط إذ يقول الرسول صلى الله عليه وآله: «باب فاطمة بابي، وحجابها حجابي»[8]،فمن أراد باب الرسول، فعليه بباب فاطمة: «إن الله ليرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها»[9]. فهي «موجود ملكوتي ظهر للعالم في صورة إنسان، بل هي موجود إلهي جبروتي ظهر في صورة امرأة، فجميع الهويات الكمالية المتصورة في إنسان موجودة فيها، وفيها عليها السلام جميع خصائص الأنبياء (…) فلو كانت رجلا لكانت نبيا، ولو كانت رجلا لكانت مكان رسول الله صلى الله عليه وآله، إذ كل التجليات الملكوتية، أي التجليات الإلهية، أي التجليات المُلُكِيَّةوالناسوتية، كلها مجتمعة في هذا الوجود»[10].
لمَّا تزوجت خديجة عليها السلام رسول الله صلى الله عليه وآله، هجرتها نسوة مكة المترفات لأنهن أردنها أن تتزوج من المترفين أقاربهن«فكن لا يدخلن عليها ولا يسلمن عليها، ولا يتركن امرأة تدخل عليها، فاستوحشت خديجة لذلك، وكان جزعها وغمها حذرا عليه، صلى الله عليه وآله»[11]. وكان ألمها وحزنها عظيمين لما مات كل أبنائها من رسول الله صلى الله عليه وآله، حتى نعتَهُ طغاةُ قريش بـ﴿الأَبْتَر﴾ أي المنقطع النسل. فلما أُسْري برسول الله صلى الله عليه وآله، أدخله حبيبُه اللهُ تعالى الجنةَ، وانتخب له أرقى ثماره ليضيفه بها، فلما تغشى سيدتنا خديجة ليلتها، كانت النطفة المباركة، أي الوجود المُلْكِي لسيدتنا فاطمة عليها السلام[12]. «فلما حملت بفاطمة، كانت فاطمة عليها السلام تحدثها من بطنها وتصبرها (…) إلى أن حضرت ولادتها. فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها نور حتى دخل بيوتات مكة، ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور (…) فنطقت بالشهادتين»[13]، وحضرت أعظم نساء العالم في الولادة المباركة، وهن خير من نساء قريش، وأزهرت السماوات، حتى «غشيت أبصار الملائكة، وخرت الملائكة لله ساجدين»[14]،فكان من أسمائها «الزهراء».
وكيف تزهر شمس المادة الصماء ولا تزهر السماوات للإنسان الكوثر الذي هو عامل ازهارها!
- العَطيَّة المِعْطاء المُفيضة على خلق الله تعالى:
كانت فاطمة، العطية الإلهية، «عالِمة محدَّثة»، وقد أوحى لها الله تعالى بواسطة جبريل «صَحيفة»، فهي أرقى من مريم عليها السلام التي أوحى الله تعالى لها مجرد ﴿كَلِمَات﴾. وكانت مجاهدة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فهي أعلم الناس وأتقاهم، بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، مع الإمام علي عليه السلام.
ولذلك كان عَلَى رسول الله صلى الله عليه وآله أن يصلي لله شكرا. ولقد كان يصلي كثيرا حتى أرهق نفسه، فلما سئل في ذلك قال: «أفلا أكون عبدا شكورًا؟!»[15]. وإذا كانت عباداته تلك لجميع نعم الله عليه، فلم يكتف بصلاة الشكر والعقيقة اللتين قاما بهما لمَّا وُلِدَت الكوثر عليها السلام، بل كان كثير الصلاة في كل جمادى ثانية، ودعا المسلمين لها: «من صلى صلاة جمادى الثانية يغفر الله تعالى له ويصان في نفسه وماله وولده إلى السنة القادمة، وإذا مات في هذه السنة مات شهيدا»[16]،لأنّها جمادى فاطمة الزهراء (ع)، إِذْ وُلدتْ في ذلك الشهر المقَدَّس، المعطاءِ.
كانت كوثرًا، تدعو للناس ولا تدعو لنفسها وأهلها، وذلك يعني أنها (وأهْلَ الكساء جميعًا) إيثاريّة، تنْكر ذاتها في حب الآخرين والعطاء لهم حتى نسيان المصلحة الشخصية والمصلحة العائلية. يقول ابنها الحسن المجتبى عليه السلام:«رأيتها تصلي طيلة الليل وتدعو حتى انفجر عمود الصبح، وما سمعتها تدعو لنفسها. سألتها في ذلك فقالت: (يا بُنَيَّ، الجار ثم الدار!)»[17].
كانت لا تنسى الشهداء، حتى وإن كانوا أقل منها مقاما أنطولوجيًّا، لأنها أمُّ الجميع:«لا تُحَقِّرْ عَمَلاً وإن قَلَّ»، فكانت «تأتي قبور الشهداء في كل غداة سبت»[18]. وفي ذلك قمَّة الوفاء لكل مَنْ دافعوا عن مِلَّة أبيها، «الإِبْـ-رَاهيم» (=الأب الرحيم) لكل العَالَم، بل قُتِلُوا أحيانًا حتى لا يموت والدُها، الذي هو حياة العالَم وأصلُهَا.
لم تَعطِفْ على المِسكين المسلم فحسب، واليتيم المسلم فحسب، بَل فاضتْ بعطائها حتى على الأسير المعادي لوالِدها، الرحمة للعَالَمين، ولدولته التي تريد السِّلْم للكافَّة، وللدّين الذي كانت أولى آياته ذاتَ عنوانٍ (=ذات اسمٍ) هو اسم ﴿اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ﴾(الآية الأولى في سورة الفاتحة). ولقد وثّقَت ذلك سورةُ الإنسان: ﴿مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾. ولم تفعل الكوثر ذلك مِن أجل نيل سلطةٍ في قلوب مَنْ أطعمتهم حبها وعطفها، بل ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّـهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾(سورة الإنسان، الآية 9).
إن المعصومات«الحُورُ العِين» حقا. فالسيدة فاطمة، رَأْسُهن،«حَوراء إنسية»[19]، وهن «حُجُور طابت وطَهُرت»، كما قال الإمام الحسين عليه السلام[20].
فقد حفظت السيدة فاطمة بنت محمد غيب الإمام علي في بيتها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله فبينت أهم خصائص «الحديث» الإلهي وضرورية الإمامة دينيا وسياسيا فأكدت أن الله جعل «العدل تنسكا للقلوب وطاعتها نظاما وإمامتنا أمنا من الفرقة وحبنا عزا للإسلام»[21]. ودافعت عن موقف الإمام («رجل» زمانها) وضروريته لقيادته «المدينة» (= الدولة) الإسلامية، فإمامته قائمة على «رواسي الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الروح الأمين» وهو «الطَّبِنُ[22] بأمور الدنيا والدين»، وما زَحْزَحَتْهُ عن الوِلاية السياسية إلا «الخسران المبين»[23]. وخاصمت «رجل»«الجنة» الدنيوية المعاصِرَ لها خصومة أقوى من حجم جسدها الضعيف فاستشهدت مبكرا.
- عِلم الكوثر ومشروعها العَدَالي: وزيرَةُ المَعَاشِ المُطْعِمَةُ للنظامِ القِسْطِيّ:
نجد في خطبة الزهراء عليها السلام الأولى، علما جما، واضحا، بالإسلام، يعتمد على التعليل، فقد خسرها المسلمون بخطئهم الفادح في حقها: «ففرَضَ الله عليكم الإيمان تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة تنزيها لكم عن الكبر، والزكاة تزييدا في الرزق، والصيام إثباتا للإخلاص (…) وطاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا أمنا من الفرقة، والصبر معونةعلى الإستيجاب، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، والنهي عن المنكر تنزيها للدين (…)»[24].
ومَنَحها رسول الله صلى الله عليه وآله قرى فدَك (21 قريةً)، بمقتضى الآية التي مَنحتْها تلك القرى مكنّيةً عنها بـ﴿وَلِذِي الْقُرْبَى﴾(الحشر، 7). وقد بقي تدبير فاطمة الزهراء عليها السلام قرابة 3 سنوات، ولم يظهر عليها وعلى آل البيت النبوي المطهّر تطهيرا أمارات ثروة وترف، رغم أن واردات تلك القرى كان هائلاً، بتراكم متزايد من السنة الوزارية الأولى إلى السنة الأخيرة. فقد أراد رسول الله صلى الله عليه وآله أن تكون فدك خارج الصراع السياسي القادم الذي سيقوم على انقلاب أعقاب على نائبه الدستوري، خليفته، لتكون فدك الوسيلة الرئيسة وذات الربعة للتوازن المعاشي ولمقاومة الفقر: ﴿مَّا أَفَاءَ اللَّـهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّـهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾ (الحشر،7)، وذلك من أجل﴿الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾و﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾. ثم تمر الآية الكريمة إلى تحذير القائديْن والمسلمين إلى مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله، هذا: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر،7). لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله، يريد أن يجعل من الزهراء، كوثرا على الفقراء، وسيلة القضاء على الفقر، بحسن تدبيرها وبإيثارها على نفسها وأهلها ولو كان بهم خصاصة، كما شهدت سورة الإنسان العلي، عليه السلام. كان يريد أن يجعل منها خديجة جديدة، خديجةَ سَوْق القضاء على الفقر وقتله. ولكن قريشا، مثلما عزلت خديجة، ما إن تزوجت محمدا، وعزلتها أكثر لما أعلن رسول الله صلى الله عليه وآله نبوته وأيدته في ذلك بنفسها ومالها،فقد عَزَلَتْ قريش أيضا خديجة الجديدة، فرفضت دورها المعاشي، لأنها،والمترفَ والتاجرَ، والعدويَّ الدَّلاَّل المستغلَّ الفرص صديق المترفين، مع «الدُّولة[25]بين الأغنياء». وكانت صَدْرَ الدورِ السياسيِّالثوريِّ للسيدة الزهراء، الخديجة الجديدة، التي تحذر من أن إقصاء «الإمامة» العلوية، بل الإمامات المحمدية المتتابعة، سيعني على مدى قصير انهيارات متتابعة: «… ويعرف التالون غِبّ ما أسس الأولون» من استبداد سياسي وعدم شورى وانهيار الجَمْع المسلم وتدهور عائداتأكثر الطبقات: «وابشروا بسيف صارم، وهرج شامل، واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيدا، وجمعكم حصيدا. فيا حسرة عليكم!»[26].
لقد رفضت قريش والقائدان أن تكون فاطمة عليها السلام خديجةً ثانيةًإذ جعلت مالها وقودا للدعوة المحمدية وإعادة التوازن المالي والمعاشي بين الناس، فلقد خافوا (وَهْمًا) أن يكون تدبيرها المعاشي – الفدكي وعَمَالتها وفائض قيمة غلاتها رفدا لتعبئة الأنصار للإمامة العلوية.
رَفَضَت الدّولة الجديدة الدور السياسي للعصمة، فأقصتْ الإمام علي عليه السلام عن الحكم، ورفضتْ الدور المعاشي للعصمة أيضا. فلقد كان بإمكان التدبير الفاطمي لفدك أن يمتص بعض الانحراف عن النظام المعاشي الإسلامي القائم على القسط: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد،25) حتى لا يكون إخسار للميزان، أي للعدل المعاشي.
كان «الشَّنَآنُ»[﴿إِنَّ شَانِئَكَ﴾] للمشروع التاريخي المحمدي والدور الفاطمي فيه، ورغم أن فاطمة هي أم هذا المشروع وروحه وجوهره، إذ «على معرفتها دارت القرون الأولى [من الرسالات الإلهية]»، و«بابها بابي»، باب رسول الله صلى الله عليه وآله، أي منطلق مشروعه بعد وفاته رغم الشكلية/المُلْكية.فبتْر الدور الفاطمي في التاريخ ومحاولة وأده هما أمران ظاهريان. فلقد استمرت الروح الفاطمية توجه الأحداث في العالم الإسلامي بالمبادرة أو الامتصاص أو الدفع أو المشاركة أو التخطيط لوراثة الأرض على مدى طويل. فالأبتر الحقيقي هو المشروع التيمي– العدوي، الذي انقطع نهائيا بمقتل الثاني، أي لم يدم سوى 12 سنة،والأبتر الحقيقي على الساحة التاريخية هو «مشروع شجرة الزقوم» الأموية – العباسية، إذ انقرض بانقراض الدولتين. فمشروعٌ دون «أمٍّ»لا حياة له،والتَّيْمِيَّة كانت أمًّا للفتنة، من سوء الحظ (عدد قتلى معركة الجمل بعد التحريض على قتل عثمان «نَحوا من عشرة آلاف»[27])، أما فاطمة عليها السلام فهي أمُّ العقل والحكمة والكتاب والجماعة، وأم أبيها. بقيت فاطمة في صلاة المسلم، يصلي عليها (مع أهل البيت الذين عينهم الله تعالى ورسوله)،وبقيت في أعقاب الصلاة يَستعملُ تسبيحتها التي أهداها صيغتها رسول الله صلى الله عليه وآله: «الله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله»[28].
إن غَضَبَ فاطمة عليها السلام هو تطبيق للكتاب والحكمة المحمدية، فهو غضب الله تعالى. ولذلك من الطبيعي أن يتسبب الغضب الفاطمي المعصوم عن الهوى الشخصي القائم على المصلحة العامة الإنسانية– في انبتار المشاريع الكُنُوديةالشانئة. فلم يكن ممكنا استمرار الشنآن التيمي – العدوي، بعد أن طال هذا الشنآن رسولَ الله صلى الله عليه وآله إذ قال العدوي «إن رسول الله يهجر»[29]. ولما مات كان الانقلاب ببعض فرسان الأنصار وخالد بن الوليد وانتشرت قبيلة أَسْلَم في كل سِكك المدينة (كَبْسَةُ أَسْلم[30])،وكانوا في حالة حرب مع أهل البيت: «تتربصون بنا الدوائر وتتوكَّفون بنا الأخبار» كما قالت السيدة في خطبتها[31].
فهي الكوثر، وهي من عناصر مثل نور الله كما تؤكد سورة النور[32]، ذلك المَثَلُ النوريُّ، أو النور الإنساني الفاطمي الذي أعاد ولادة محمد رسول الله صلى الله عليه وآله، إذ ولدت نور الأئمة عليهم السلام، فنورها هو الذي يتوقد في كل مراحل التاريخ المحمدي،﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّـهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ (النور، 36).وتفسر سورة النور تلك البيوت فتقول إنها ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ (النور، 37).
وأما الكافرون بنعمة محمد وفاطمة وعلي فصلاتهم عليْه«بتراء»:﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ (النور، 39). فهم يحملون أمراضا نفسية مهلكة:﴿ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (النور، 50).
فلقد شك العدوي في تفضيل علي عليهما وظنوه عصبية قبلية/قرابية،بينما هو خضوع لأمر الله تعالى،والقربى هنا هي الأقرب للتربية المحمدية المهيمنة دون تدخل خارجي ينافس الهيمنة التنشئوية المحمدية، قال عمر لابن عباس: «لقد كرهت قريش أن تجتمع لهاشم النبوةُ والإمامةُ»[33].
ومن أراد «الفلاح»و«الفوز»، حسب سورة النور فعليه التماهي والاقتداء بالنور المحمدي/العلوي/ الفاطمي: ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّـهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ (النور، 40). وقد وعدت سورة النور مطيعي «الشجرة المباركة» غير «الشرقية» وغير«الغربية»، ذات «النور على نور» (الآية 35)، وهي الشجرة المحمدية، ذات الأربعة عشر معصوما بمشاركة هذه الشجرة في انتصارها التاريخي على الشر والظلمات: ﴿وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ (النور، 55). إنها«الكوكب الدري»بلغة سورة النور، الذي أزهرت من نورها السماواتُ والأرض ومكة وقلوب المؤمنين حقا.
فـ«مشكاة» سورة النور هو سيدنا محمد صلى الله عليه وآله، و«المصباح» الذي فيها علي، و«الزجاجة» التي تحتوي المصباح هي فاطمة: ﴿كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ (النور، 35). والشجرة المحمدية العلوية ذات الأنوار يُضيء كيانها﴿وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾. والوحي النبوي[34]، وزيت أولادها هما﴿نُّورٌ عَلَى نُورٍ﴾، أي نور يتلو نورًا، وأمهم الكوكب الدري(الزهراء) أصل أنوارهم: «لأن الله عز وجل خلقها من نور عظمته (…) وخر الملائكة لله ساجدين وقالوا: (ما هذا النور؟) فأوحى الله إليهم: (هذا نور من نوري)(…) أخْرِجه من صلب نبي من أنبيائي أفضله على جميع الأنبياء. وأخرج من ذلك النور أئمة يقومون بأمري، يهدون إلى حقي، وأجعلهم خلفاء في أرضي بعد انقضاء وحيي»[35].
إنها مشتقّة أنطولوجيًّا من نور سيدنا محمد صلى الله عليه وآله:«بِضعة مِني»، ولذلك كانت أفضل من الأنبياء عليهم السلام جميعا، باستثناء سيدهم، محمد صلى الله عليه وآله، وكذلك الأئمة، إنها كوثر. وإن كانت مريم ﴿صِدِّيقَة﴾(المائدة،75)، فإن فاطمة، كبقية أهل البيت المنصوص عليهم«مطهّرةتطهيرا»(الأحزاب، الآية 33). ولقد جاهدت مريم عليها السلام وامْتُحِنَتْ، ولكن جهاد فاطمة عليها السلام وامتحانها كان أعظم وأصعب منذ أن كانت طفلة تمسح الأوساخ والشوك عن أعظم إنسان وتلعن شانئيه وواضعي تلك الأشياء المؤذية على جسده الشريف وتهاجمهم، حتى مجيئها تَعْدُو لمَّا سمعت بهزيمة المسلمين في أُحُد لتدواي جراح أبيها وجراح المسلمين وتلوم المنهزمين، حتى وقوفها أمام الانقلاب الكبير على الأعقاب. ومهدي مريم عليها السلام سيصلي وراء مهدي فاطمة عليها السلام ويأتمر بأمره، فعلينا شكر الله على هذه النعمة العظيمة.
وإذا كان إبراهيم عليه السلام نحر الذبح العظيم لفداء إسماعيل عليه السلام، فإن نحر رسول الله صلى الله عليه وآله لعقيقة سيدة نساء العالمين قد فداها من القتل، لحماية الرسالة المحمدية. لقد أكد الإمام علي عليه السلام أن فاطمة عليها السلام لو كانت ذكرا، كانت العرب «تقتله إن لم يفعلْ ما فَعَلْتُ»[36].
- وزيرةُ المعَاش في دولة العدْل المحمدي المطلق:
لقد كانت السيدة فاطمة وزيرة المعَاش (= «وزيرة « لدولة النبي (ص) بتعيين منه، فهي ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾/ مِنْ أنفسنا. ولذلك فتعيينها إنّما هو اختيارٌ من فِطرتنا، وليس تعيينًا فوقيًّا،مِنْ أجل ﴿العَدلِ وَالإِحسانِ﴾(النحل، 90) المحمَّدِيَّيْنِ / الأحمديَّيْنِ. ولذلك «كان علي والزبير يدخلان على فاطمة فيشاورانها»[37]. فقد كانت أكمل الكاملات في العقل والدين والسياسة.
ولقد مرّت وظيفتها في تلك الفترة بمرحلتيْن:
- مرحلة «الكفاف»/الاكتفاء الذاتي والقضاء على الفقر نهائيّا:
كانت دولة النبيّ (ص)آنئذ تعاني الحصار المعَاشي القاتل، قلا حقّ لها في الدّخول بدورة السوق الجزيريّة-العربيّة، فضلا عن العالميّة، متحملة عددًا من المهاجرين فقدوا كلّ ما يملكون وقدراتهم الإنتاجية الكسبية، فحتى سيدنا محمد (ص)، وريث خديجة (ع)، صُودِرتْ داره/دار خديجة (ع)، وبيعت 3 مرات، واغتصب أبو سفيان الأموي وقريش كل مَصَارفها (صنعاء، الإسكندرية، غزة، دمشق…) باستثناء مَصْرف أكسوم الذي كانت العلاقة به شبه منقطعة نظرًا للحصار القُرشي-البيزنطي.
كان دور وزيرة المَعَاش بهذه المرحلة، حسب سورة الإنسان، تثبيت إنسانية هذه الدولة معاشيًّا، وذلك بأنْ ﴿يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾(الإنسان، 8). و«إطعام الطّعام»، هو توفير أسباب الرزق الإنساني/العيش الكريم. أمّا «إطعام الإنسان» فهو محترم في الإسلام، وهو «المَيْسَر»، أي إطعام الناس، بَخْسًا، حتى يبقوا تابعين لأهل اليُسْر الذين أوتوا ﴿مَالًا مَّمْدُودًا﴾ (المدّثر، 12)، فيبْقون في «العُسْر».كان مركزُ دُعاء العطية الإلهية، فاطمة، هو المَعَاشي، واكتفاء الفرد والجماعة حتى لا يكون الإنسان عزيزا لا ذليلا: «أَقْضِ عني الدين وأغنني من الفقر!»[38].
ولم يكن ذلك التدبير الفاطمي لـ«إطعام الطّعام» مِنْ أجْل مَنْصب أو جاه، بل كان خِدْمةً ورحمة وتواضعا مع الآخرين، إذ كان مؤطَّرًا بـ«الحب الفاطمي»للبشرية: ﴿يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ: مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾.﴿لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾(الإنسان، 9).
وكان الخطاب الإلهي عن هذا التدبير بصيغة الجمع: ﴿يُطْعِمُونَ﴾، لأنّها ﴿الكَوْثَرُ﴾، فهي جَمْعٌ: الخَيْر الكثير المتكاثر أبدًا بل حدّ، جامعًا القيمة الأنطولوجية للمُنْتَج المَعاشي.
وكان هذا التدبير الكوثري/إطعام الطّعام هذا، وفق مُصحفٍ/سَوْق فاطمي مُجَدْوَلٍ إلى 3 أودية: إنهاء المَسْكنة + إنهاء اليُتم + إدماج الأسريَّة في الاجتماع المحمّدي: ﴿عَلَى حُبِّهِ: مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾(الإنسان، 8). أما «المَسكَنة»، فهي التبعية المعَاشية للآخر، حتى إِنْ كان مسلمًا. وأما «اليُتْم»، فهو العجز عن السكن والعزلة الاجتماعية لذوي الحاجات الخاصّة (اليتامى بالمعنى اللغوي العاديّ، الشيوخ، الأرامل، العاجزون جسديًّا…). وكانت قمّة «الحب» الفاطمي أن أدمجت الأسير/العدو في معاشها دون مَنٍّ ولا ابتزاز.
وكان نجاح الوزيرة عليها السلام-الباهر، إذْ ضمنت الربعة المَعَاشية لدَوْلة الرَّحْمة للعالمين، وقَضَتْ المُسَاواة بين ناسِ دولة الرحمة للعالمين لتكون أوَّل مساواة «مُطْلقة» في التاريخ الإنساني، منفِّذَةً روح سورة الماعون المكية.
ولذلك كان من الطبيعي أن يكون رمز العَدْل «المطلق» والرحمة والحب والخير والحظ والمستقبل السعيد والحماية في النِّحلة المغربية هو «يَد فاطمة»[39]التي امتدت للمسكنة و«اليُتم» (بالمعنى القرآني) فقضت عليهما، وامتدت للأسير فأدمجته في مَعَاش دولة الرحمة للعالمين (صلى الله عليه وسلم) واجتماعها، فكانت رحمة حتى لـ«الكافر» المعتدي.إن فاطمة مستبطنة في الشخصية المغربية لأن كل واحد منا يحمل يد فاطمة في يمناه.
وهنا، نلاحظ أن من السذاجة أن نؤمن بأنّ «مِسْكِينًا» و«يتيمًا» و«أسيرًا» أفرادًا، هم وحدهم رحِمَتْهم الكوثر عليها السلام. بل إن ذلك من باب إسقاط قيمتها الأنطولوجية، الكونية. فهي صاحبة وظيفة في دولة الرحمة للعالمين، وليست صاحبة «مَيْسر» ظَرْفي. وهي ضمن سياق محمَّديّ مؤسّسي، وليست صاحبة ارتجالات صُدْفية.
- المرحلة الفَدكية: مرحلة الامتداد الحِمَويّ العَدْلي والرفاه الأحمديّ:
سنة 7هـ كانت سنة القضاء الناجز على «الدُّولة» (الاحتكار) اليهودية للعُمْلة (النقد)، وعلى «الدُّولة» اليهودية للغذاء. وقد كان القضاء على «الدُّولة» النقدية على يد الإمام علي (ع) باقتحامه مركز الائتمار اليهودي-العربي في خيبر. وكان القضاء على «الدُّولة»الغِذَائية اليهودية بإسلام أهل فدك بعد يهوديتهم[40] وتسليمهم سَلّة الغذاء العربي (فدك وقراها التخومية) لوزيرة «المَعَاش» (= وزيرة «الاقتصاد») عليها السلام.
كانت المرحلة الجديدة لوظيفة وزيرة محمد (عليها السلام) هي تعميم الرفاه على جميع أمة النبي (ص) التي أصبحت مُحَمِّيَةً لكامل الجزيرة العربية (إذ كان سقوط المُتْرفية المَكّية سَهْلا بَعْد سقوط المركز الدُّوليّ اليهودي في خيبر)، تطبيقا لقوله تعالى: ﴿وَآتاكُم مِن كُلِّ ما سَأَلتُموهُ﴾(إبراهيم، 34)، ﴿قُل مَن حَرَّمَ زينَةَ اللَّـهِ الَّتي أَخرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزقِ قُل هِيَ لِلَّذينَ آمَنوا فِي الحَياةِ الدُّنيا خالِصَةً يَومَ القِيامَةِ﴾(الأعراف، 32)،وذلك بالتوزيع الفاطمي العادل.وقد كان ومازال المأمول أن تصبح كل الأرض فدكا، كما يقول الإمام الرضا في حواره مع حاكم عصره، أي تصبح كلها حما للعدالة في أسلوب الإنتاج والتوزيع.
ولكن كان عام الرمادة، العام الذي مات فيه الكثير من أطفال الحجاز ونَجْد جوعًا، نتيجة إلغاء وزارة المَعاش الفاطمية العدالية في تنظيم الإنتاج بمنطقة فدك وفي توزيع ريْعها على سُكان دولة الإسلام جمعًا مسلمًا، وغير مسلم، ومسكينا ويتيما وأسيرًا. فكيف يُعقل أن دولة فيها الفرات ودجلة والنيل وبَرَدى يموت بعض أطفالها في بعض أقطارها جوعًا إنْ لم يَشُبْ نِظامها المَعَاشي الاكتناز والدُّولة؟! لقد رَجَع أبو لهب وامرأته فكان أن أصبح المال الكَسْبي مالاً غير عَدَالي يَمنَعُ «المَاعُونَ» (أي يمنع المَعاش التعاوني). وهنا نفهم تحذير وزيرة المَعَاش العدالي في خطبتها مِن نتائج هذا «الإبطال» (= الانقلاب)، مبتدئة بالقسم بعمرها الجميل: «أما لَعَمْري، لقدْ لُقِّحَتْ، فنَظرَةً [انتظارًا] أينما تُنتج، ثم احتبلوا مِلْءَ القعب: دَمًا عَبِيطًا [فتنًا دموية] (…). هنالك يَخسِر المبطلون»[41]، إذ أن «استبداد الظالمين، يَدَعُ فيْئكم زهيدًا»[42]، أي إنتاجكم متراجعا، وذلك ما حصل في السلة الغذائية الفدكية إذ أن التنظيم غير العادل للانتاج يجعل العمال أقل دافعية:«وجَمْعَكُمْ حصيدًا»[43]. ومن ذلك المجاعات والأزمات المعاشية.
- فاطمة الإنسان الكوثر، العظمة الجمالية والإبداعيةُ الفنية:
«السلام عليكم يا مُمْتَحَنَة!امتحنكِ الذي خلقكِ فوجَدك لما امتحنكِ صابرةً. أنا لكِ مُصدِّقٌ صابِرٌ(…). وأنا أسألك إنْ كُنْتُ صَدَّقتك إلا ألحقتِني بتصديقي لهُما. فاشهدي أني طَاهِرٌ(…) (…)!».
قضية الامتحان هي قضية الإنسان: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾(الملك، 2). وكلُّ امتحان يطلب الصبر حتى تكون نتيجته الفلاح لا الخُسْر: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾(سورة العصر). والصبر هو «المقاوَمة لكل العلل والعوامل الموجودة للشر والفساد والانحطاط»[44].
وهو ثلاثة: «صَبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية»[45].
ولقد تجسّدتِ الثلاثة في العارفة العُظمى، الكوثر. ولما كانت تستحق أن تكون أسوة، يحتاج الإنسان الكوثري والإنسان المتكوثِرُ أن يُصدّقاها، أي أن يتماهَيا بها؛ حتى تَشْهَد على توالُد الطهارة، أي تُكَوْثِرَهُمَا تَطويبًا وإعادة تنشئة متجدّدة، مُطعِمَةً طَعامَ الطهارة.
وذلك لأنها معيارٌ كوني لرضا الحِكمة ولغضبها، كما قال النبي (ص): «إن الله يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها»[46]، مِصدَاقًا للحديث القدسي: «عبدي أطعني تكن مثلي، تقول للشيء كُن فيكون»، ﴿وَما رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ وَلـكِنَّ اللَّـهَ رَمى﴾.
إنها موجود ملكوتي وجَبروتي في الآن نفسه، إذ جمعت الجمالية والجلالية، ولكنْ في كساءٍ جمالي: ﴿وَرَحمَتي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ﴾، لأنّ عظمتها مِن عَظمة والدها: «فاطمة بضعة مني(…) ومنْ أحبها فقد أحبني»[47]، ولذلك شملت بطعامها الملكوتي الأسيرَ المعاديَ.
إن «على معرفتها دارَتْ القرون الأولى»، أي «السادة الأُوَّلُ»[48] و«الأعالي». وهذه المعرفة الكوثرية ينبغي اكتشافها في سيرتها (وخاصة الوزارية)، وفي إبداعها الحِكَمي بالخطابة، وفي شِعرها.
لقد تعلّمت الحكمة مبكرا في الطفولة، فهي كما لاحظ الموالي العظيم لأهل البيت: عباس محمود العقاد: «إذا وُصفت نشأة الزهراء بكلمة واحدة تُغني عن كلمات: “الجِدُّ” هو تلك الكلمة الواحدة»[49]. ويَدْلُف العقاد إلى شخصيتها في تحليله النفسي الخصوصي بأنها لم تعرف أحدًا في عالم طفولتها غير والدٍ أعظم البشر، وأمّ كان أبوها خويلد إبراهيميًّا نازَعَ أحد ملوك اليمن الطغاة (=تُبَّعًا) «حين أراد أن يحتمل الركن الأسود معه إلى اليمن، فتصدى له ولم يرهب بأسَهُ» فرُوِّعَ التُّبَّع ترويعًا شديدًا حتى انصرف[50].
لقد فتحت عينيها على عظمة والدٍ ووالدة، لا كالآباء ولا الأمهات، وعلى «الصلوات والتسبيحات»، «ولم تستغرب شيئا من هذا لأن الطفل لا يستغرب الأمر إلا إذا رأى ما يخالفه، وهي لم تفتح عينيها إلا على هذه البوادر والمقدِّمات»[51]. وكانت هي وحيدة أبويها (بعد وفاة إخوتها قَبْلها حتى حَسِب الأبترون وجوديًّا أنّ الزوجين القيمَيْن أبترانِ نَسَبا). وتلك الوحدة ممّا جعلها تكون «أم أبيها» أي مَصنوعتِه على عينه الوجودية حتى جعلها هو مؤنّثًا، أي جعلها أمَّهُ«الآمنة»، والمؤمِّنة لمحبّيها (أي المتماهين بها)، وجعلها مكتفية بنفسها لتستطيع إطعام الآخرين وجوديًّا.
ذلك «الجِدُّ» عند العقّاد، يُسمّيه الإمام علي الحسيني«الشعور بالمسؤولية»الذي نما مبكّرا لدى هذه الطفلة التي رأت أمها العظيمة تذوب كالشمعة في حِصار قريش للمسلمين في شِعْب أبي طالب، فتُفني أغنى أغنياء قريش كل ما لها على توفير الطعام المادّي للمسلمين المحرومين من الشراء والبيع لتموت بسبب الجوع إذْ أطعَمتْ حتى ما تركتْ لنفسها شيئًا. وكان الحصار وجوعه الطويل (3 سنوات) سببًا في جعل هذه الفتاة الرقيقة العظيمة ضعيفة الجسد، لا تقوى على الرحْي، ثم تَذْوي بعد وفاة أبيها بسبب إنهاكها جَسَدَها بالمقاوَمة الكثيفة المطلوبة آنئذ. ولقد كانتْ مِنْ قَبْل لا تأبه لضعفها الجسدي، في تمريضها المقاتلين، وهي التي علّمت العالَم الضمادة والتضميد والعلاج. ولذلك كان رسول الله (ص) يقبِّل يدها المطبِّبة المجاهدة[52] ويقوم لها. فلا يجوز له –وهو ذو «المِرَّة» (أي ذو «العَقل») ﴿فَاسْتَوَى﴾أعظم الحكماء (النجم، الآية 6). ذلك «الشعور بالمسؤولية» الذي أفاض على العالَم، وبَرز في وزارتها المدهشة لمَعَاش دولة الرسول (ص)، إذ تعلّمت منذ تيتُّمها المبكر أنْ تهتمّ بنفسها، وأن تَدْفع عن رسولِ العالَمِ كل حَطَب وكل شوك وكل إيذاء.
وقد اكتشفت المفكرة الألمانية أنّا-ماري شيمَل أنَّ أهل التصوف يسمونها «أم أبيها»، دون إشراط، بينما أمومة المؤمنين مَشروطة بـ: ﴿انِ اتَّقَيْتُنَّ﴾. فأمومة المؤمنين ليست بالصفة الوجودية القارة، وإنما هي صفة قد تكون اليوم، وقد لا تكون غدًا وهكذا، بينما أمومة الرحمة للعالمين صفة أصيلة في الكوثر البتول. و«قُصت الكثير من الحكايات عنها، وخصوصا عن الفقر الذي عاشت فيه وألهب خيال المؤمنين. فهي بحق “سيدة البشر”. وثمة أديبات باسم: كتاب مَهْرِ فاطمة(=جِهازْ نامِه فاطمة) تَغنَّت بسرْد المَتاع المتواضع الذي أهداهُ لها أبوها مَهْرًا؛ وكذلك عن كرمها مع الفقراء (وإن كانت هي وعائلتها ترزح في الجوع)، فتشير إلى قلة ملابس وَلَدَيها؛ وهي ما يتمّ إعادةُ سرده باستمرار مع إضافات زخرفية لتقديمها باعتبارها أسوةً للفتاة المسلمة. وبالفعل، ظهرت طائفة في العصور الوسطى كانت تترك الميراث كله للبنات بسبب فاطمة»[53].
وقد مجّد الفيلسوف الشاعر محمد إقبال، الهندي، الكوثر البتول في ملحمته الفارسية: أسرار بي خودي.
ولقد انعكست روحها الرقيقة، أجمل روح عابدة في النُّسوءة (بل أجمل روح عابدة تأتي مع الكُفْئية العلوية بعد روح النبي قيمةً وجودية)، وشعورها العظيم بالمسؤولية تجاه الإنسانية وتجاه النبي في شعرها الجميل المليء بتقنيات الإبداع التعبيري.
إنها توظف في ديوانها التكرار والحذف، لتحمّلنا بكائيتها على النبي، معشوقها الوجودي:
عين يا عين اسكبي الدمع سحّاً
وبِكِ لا تبخلي بفيض الدماء
فلقد «أفاد التكرار في المُنَادَى تأكيدَ المُنَادَى مِن أجله (…) لما له مِن جرس معنوي، فيه شيء من التلذذ في الاستعمال»[54].
وكذلك ما نجده في تكرار الفعل («بَكَتِك»، «بَكَاك»):
قد بكتْكَ الجِبالُ والوَحْشُ جَمعاً
والطير والأرضُ بعد بكي السماء
وبكاك الحجون[55] والركنُ
والمَشْعريا سيّدي مع البطحاء
هُنا تَخرُّ«أم أبيها»، لتكون «أمَةً» للوالِد العظيم: «يا سيّدي!». إنها لا تبكيه لأنه أبٌ بيولوجي، رغم أن ذلك مِن حقها، ولكنَّ ذلك إذا كان وَحده مَنقصة في حق مُطعمة البشر و«الطير والأرض» على حُبِّهِ سبحانه وتعالى.
وبكاك المِحْرابُ والدَّرْس
للقرآن في الصبح معلناً والمساء
وبكاك الإسلام إذ صار في
الناس غريباً من سائر الغرباء
فالنبي يقول: «إنّما بُعثتُ معلّما»، وفَقْدُ المدرسة اليثربية لكيانه التربوي لا يمكن أن يسُدَّه أحدٌ. والتكرار هنا يسهّل لها ذكر حجم الفراغ الذي لم تترك الأنانياتُ الحجمَ الكوثري والحجم العَلوي يعوّضانه، فكان الفراغ الفُجئي الرهيبُ، الذي يعني غربة الرسالة:
اِغبَرَّ أقاف السماء وكُوّرتْ *** شمْس النهارِ وأظلم العَصْران
فالأرض مِنْ بعد النبي كئيبة *** أسفا عليه كثيرة الرجفــــان
فليبكه شرق البلاد وغربها *** وليَبكِه مُضر وكلُّ يَمانـــــــي
لم تكن تلك «الشمس» سوى النبي (ص). ولم يكن «عصراها» سِوى روحَيْه اللَّتَيْن بين جنبيه، كما قال (ص): فاطمة وعلي. ولم تكن «السماءُ» سوى الرسالة السماوية.
فهي لا تبكي محمدا، بقدر ما هي حزينة من أجل «الأرض» أي كل البشرية، «شرق البلاد وغربها». وهي تَخص اليمن لأن «الإيمان يَمانٍ، والحكمة يمانية»، ولأن اليمن كانت القطر العربي الوحيد الذي أسلَمَ طَوْعًا ودون إعْنَاتٍ للرسول، بواسطة لسانِه: الإمام علي.
فالمنبر النبوي، في إحْساسها المُرْهَف، يبكي هو أيضا، لأنَّ الكيان الذي «هو مِنْهُ»، و«نَفْسُهُ» لم يَعْلُهُ لكي لا يشعر المسلمون بفراغ المنبر، بسبب الإقصاء الشيطاني:
لو ترى المِنبر الّذي كنتُ تعلو
ه علاهُ الظلام بعد الضياء
كان إحساسها بإلغاء الأنانيات لنفس النبي (عليهما السلام)، هو إحساسها بالوفاة النبوية، فحاشاها أن تكون قير صابرة على موت والدها. ها هي أمّ أبيها تبكي فقدان أمومتها، أي فقدان رعايتها للأمة الإسلامية والبشرية بإقصائها عن السلطة الاقتصادية:
فلأجعلنَّ الحُزن بَعْدك مؤنسي
ولأجعلنّ الدّمع فيـك وشاحيـا
وتُضيف بديوانها تصوير الشعور نفسه:
مَنْ شاء بعدك فليمُت
فعليك كنتُ أحاذر
إنّها تتذكّر أنها لم تمنح أباها/ابنها الأعظم منها، الحب والعطف والحراسة والتمريض (من أبي جهل، ومن أبي لهب، ومِنْ حمَّالة الحطب، وقد كانوا أكثر من ثلاثة في التعيين)، بل قرَّتْ عينه بزرْعها فَدَكَ 《دَأبًا》،أي إمساكها بالسلة الغذائية لدولة النبي (ص)، بَعد أن حرست كفافها في السنوات العربية العِجاف، «فأحْصَنَتْ» الاقتصاد الاكتفائي العَدَالي (كما في سورة يوسف، الآيتان 47 و48) حتى «أغاثت» الناس وساعدتهم بحكمتها الاقتصادية على «الإعصار» (سورة يوسف، الآية 49).
فما قيمة حكمتها اجتماعا إذا لم تكن مُوظَّفة، أي مستمرّة في دولة النبي بعد وفاته؟! فهي هنا «تموت» لأن الأنانيات هي التي جَعلتها كذلك، أي بتعبيرها «منطفئة المصباح الوظيفي».
فالله صَبِّرْنِي على ما حَلَّ بي
مات النبي قد انطفا مِصْبَاحي
وهي بالبكائية تستنهض أمتها، لعلها تعيد لها «حياة» دولة «النبي»، ومِن ثمَّة تُعيد لها «مصباحها» الوظيفي: يا أبتاه! أجاب ربه دعاه!
يا أبتاه! إلى جنة الفردوس مأواه!
يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه!
يا أبتاه! مِن ربّه ما أدْناهُ!
وهي بهذه القصيدة بقدر ما ترثي والدها/ابنها الأعظم منها، بقدر ما تمجّده بموسيقى جنائزية تَخليدية. وذلك مثل قولها:
يا رسول الله، يا خيرة الله
وكهف الأيتام والضعفاء
نفسي فداؤك ما لرأيك مائلاً
وما وسدوك وسادة الوسنان
إنها إذ تَذوي سريعا بجسدها النحيل، كما ذابت أمها في الحصار الاقتصادي لمكة (وهي أغنى الأغنياء في عهد أبيها بتدبيرها لقرى فدك، السلة الغذائية للجزيرة العربية)، تطلب من كُفئها، زوجها، مَغفرة ذنب لم تتسبب فيه هي، أي الإلغاء للوظيفة العَدالية (سياسيا واقتصاديا) بالدولة الإسلامية:
أمْرُك سَمْعٌ يا ابن عَمّ وطاعةٌ
ما بي من لؤم ولا ضَراعة
غُذِّيتَ باللُّب[56] وبالبراعة
أرجوإذا أشبعت من مجاعة
وهي هنا تتوقع كارثة مجاعة عام الرمادة بسبب إسقاط الوظيفة الفدكية/ العدالية للدولة، وتدعو الله ان لا يضر إبن العم بها.
وقد كان زوجها (ع) يُعيدُ دائما قصيدتها، حتى حسبها بعضهم له:
قل للمغيب تحت أطباق الثرى
إن كنتَ تسمع صرختي وندائيا
صُبَّتْ عليَّ مصائب لو أنها
صُبت على الأيام صرن لياليا[57]
كانت مصيبة الإمام الكبرى هي فقدهُ لهذه الزوجة العظيمة: وجودًا، و«امتحانًا»، وجهادا، وصَبْرًا، وكان كثيرا ما يأتي قَبْر النبي الذي هو قبرها، فلا يمكن للأمّ العاشقة أن تفارق ابنها/الأعظم منها، معشوقها الأعظم:
حبيبُ ليس يُعدُله حبيبُ
وما لسواه في قلبي نصيبُ
حبيبٌ غاب عن عيني وجسمي
وعن قلبي حبيبي لا يغيبُ
وهو يبكيها أيضا في قصيدة مشهورة:
مالي وقفت على القبور مسلماً
قَبْرَ الحَبِيْبِ فَلَمْ يَرُدَّ جَوَابِي
أحبيبُ ما لك لا تردُّ جوابنا
أنسيتَ بعدي خلة الأحبابِ
قَالَ الحَبِيْبُ: وَكَيْفَ لِي بِجَوَابِكم
وأنا رهين جنادل وتراب
أكل الترابُ محاسني فنسيتكم
وحَجُبت عن أهلي وعن أترابي
فَعَلَيْكُمُ مِنِّي السَّلاَمُ تَقَطَّعَتْ
مني ومنكم خلة الأحباب[58]
من المؤسف أن النقاد لم يهتموا بديوان السيدة فاطمة، الشاعرة المناضلة، التي أطعمتْ طعام الجميع. ولم يلحّن أحدٌ مِن الموسيقيين الكبار شعورها الوجودي-الرحماني!! وذلك والله قتل لها، وفضيحة لأمّة والِدِها (ص)!!
يا لَلعار! أيكون الشاعر الألماني غوته أفضل منا إذْ تَخَيَّلَ عام 1773 حواريّة بين الإمام والسيدة فاطمة بنت محمد حتى نجعل ديوانها من مقرّرات التعليم الثانوي والتعليم العالي والبحث العلمي؟!!
هل نحن في حاجة إلى سماع سنفونية بتهوفن «أطلال أثينا»التيتتمثل المعراج والكعبة والنبي محمدًا حتى تنحل عقدنا التي تمنعنا مِن تمثل الجمال الوجوديّ لنَفْسَيْ رسول الله؟!!
من حسن الحظ أنني وجدت أخيرا سنفونية الموسيقي الإيراني مجيد انتظاميرسالة إلى فاطمة، وكانت عظيمة إذ حاولت التماهي بالسيدة.
- الإنسان الكوثَرُ، والإنسان المُتَكَوْثِرُ، والإنسان الكوثَريّ:
الإنسان الكوثَرُ هو الإنسان الذي تحققت فيه العطية الإلهية، وهي «الإنسانية»، بما هي إرادة الله خالقًا، وبما هي الكونُ كله عاقلا سعيدًا. والكوثرية تتعيّن بمعرفة الكثرة الخَلْقية بواسطة الوحدة الأُلوهية وبمعرفة الوحدة الألوهية بواسطة خدمة الكثرة الخَلقية في الآن نفسه. فهي «علمُ التوحيد التفصيلي، وشُهُودُ الوحدة في عين الكثرة بتجلّي الواحد للكثير والكثير للواحد»[59].فهو فاطمة «أمُّ أبيها»[60]
الإنسان المتكوثَرُ، المتخلق عن الحقيقة المحمدية، الذي صُنع على العين الإلهية المعْطية بتكثّر كيفيّ.هو الإنسان المتماهي بالإنسان الكوثر (عليها السلام)، المتحقق في كوثريتهمِن قوة إلى فِعلٍ يتحوّل إلى قوة، ففعلٌ آخر متخلقٌ من تلك القوة المستجدة. ولقد كان سلمان الفارسي وأبو ذرّ يزوران سيدة النساء يطلبان الكوثرية فيها.
أما الإنسان الكوثَريُّ فهو المتشبّه بالكوثرية، والمتشبث بأذيالها الأمومية («أمُّ أبيها») المفيضة حتى على «الأسير»، ليس أسير الدولة المحمدية ذات العدالة المطلقة فحسب، وإنما أسير شهواتِه وأدرانه الباطنية والسلوكية، ولكن القابل للهداية النِّسْبِيّة.
ونقيضُ«الإنسان الكوثَريُّ» هو «الإنسان الأبْتر»، أي المنقطعُ عن السيولة الوجودية السَّعادية، الفرِحة بالألوهية المِعطاء وتجلّيها المحمدي الأوحد كثرةً إنسيّة ووِحدةً عبودية، أي الذي لا يستطيع مطلقا أن «يَلد»، أي أن يُشارك الوجود وجوده، والفرحةَ الكونية سعادتها، والجمال الفاطمي عُلويّته الجلالية، وهو «الفاني بالحقيقة الهالك، الذي لا يوجد، ولا يُذْكر»[61]، أي الذي لا يستطيع أن يشارك في تاريخ الإنسان بما هو امتلاءٌ تدريجي متراكم بالعدْل والجمال والسعادة والفرح. فهو العابس بوَجْهِهِ عن المحمدية البيضاء، الرحمة للعالمين: «كل الناس يدخلون الجنة إلاّ مَنْ أبى»[62].
أما الإنسان الأبْتر إطلاقا، فهو الذي رأى الشمس المحمدية رأيَ العين، وتحقّق منها، تَحَقُّقَ «مِنْ»: ﴿لَقَد جاءَكُم رَسولٌ مِن أَنفُسِكُم﴾(التوبة، 128)، أي تحققه من وجوده بنفسه. وذلك مِن أمثال «مِذْحَج» بن عبد المطلب، الذي سمّاه أبوهُ إسمًا يَمانيّا بمعنى «النصير»، وكان فعلاً أحد حرّاس أعظم الخلق في عصره: عبد الله بن عبد المطلب عليه السلام، ثم أعظم الخلق إطلاقا، منذ ولادته (ابن عبد الله، صلى الله عليه وآله).
ومثلما تحالف «مِذْحَج» بن عبد المطلب مع المال الأموي، فـ«شَنَأَ»[63] رسولَ الله (ص)، كان التحالف مع الجاه الأموي والتماهي به، مُفْضيًا إلى «الأبْتَرِيَّة»، لأنه «شَنَأَ»«الإنسانَ الكوثَرَ» عليها السلام، وهي «روح الله بين جَنْبَيْهِ». قال رسول الله (ص): «مَنْ شَنَأَ فاطمة شنأني»، «أي مَنْ أبْغَضَ فاطمة فقد أبغضني»، و«مَنْ أَغْضَبَ فاطمة فقد أغضبني، ومَنْ أغضبني فقد أغضب الله تعالى»[64]. فمَنْ شنأ فاطمة / الإنسان الكوثر كان ﴿هُوَ الْأَبْتَرُ﴾(الكوثر، 3)، أي كان «أبًا»«لِلَّهَبِ»، من جُملة آباءِ لَهَبٍ آخرين، والعياذُ بالله الجبَّار من جهنم والنيران.
﴿إِنَّ شَانِئَكَ﴾، إنما هو: إنّ الغافل عن روحِك التي بين جنبيك، كان هو ﴿الْأَبْتَرُ﴾، أي الهالك، المنقطع عن فيض العطاء الوجوديّ الإلهي. فلقد صَنعها تحت عينيه الجماليّتيْن وألقى عليها المحبة الإلهية المطلقة، فكانت النهر المركزي في الجنة الإنسانية، الذي تتفرع عنه كل الأنهار: الأخلاقية والملكوتية والجبروتية والجمالية.
إنّ «التَّكَوْثر» التدرجي، لن يتحقق إلا بالصلاة الربوبية والنَّحْر الاستبطاني، أي بالملءِ والإفراغ معًا: «كان رسول الله يَمْلؤنا ويُفرغنا»[65].والصلاة بتمثل الربوبية هي مشاهدة الواحد سبحانه في عين الكثرة البشرية وعين الكثرة البيئية. فتكون الصلاة (وقد جُعلت قرة عين أبيها في الصلاة) «بالاستقامة»، هي الصلاة التامّة، بشهود الروح، وحضور القلب، وانقياد النفس، وطاعة البعض، بالتقلب في هياكل العبادات. فإنها الصلاة الكاملة الوافيةبحقوق الجَمْع والتفصيل. وذلك بخدمة الناس وعدم التكبر عليهم، كما كانت روحُ النبي، عليها السلام، إذْ كانت مع الإمام والحسَنَيْن (ع) ﴿يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾، وذلك ﴿لِوجْه الله﴾، فحبهم للبشر جميعا هو حبٌّ لوجه الله تعالى، أي لأعلى درجات حُبّه الجماليّ. ولقد تجسدت في تسبيحة الإنسان الكوثر، عليها السلام: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»[66]، وهي محرابها المَرْيَمِيّ الأعظم: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا[رسول الله الذاكر]الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا﴾، (آل عمران، 37) لكوثريتها غير النهائية: ﴿وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحظورًا﴾(الإسراء، 20).
ولكنّ الإثبات، أي الصلاة الكوثرية والتكوثُرية، لا يكون إلا بالنفي. فلا حياة إلا بالإفناء في الآن نفسه: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ (الكوثر، 2)، في جدل صعودي وجدل نزوليّ. و«النّحْر» هو قَتْلُ «بُدْنَة أنانيّتك، لئلا تظهر في شهودك بالتلوين، وتسلُبك مقام التمكين»[67]. ولذلك «نحن مع الحق بالفناء الصرف، باقيا ببقائه إلى الأبد. فلا تكونُ أبْتَر في وصولك وحالك»[68]. وبذلك يكون سلمان، وغيره من المتكوثرين والكوثريين مِنْ «أهل البيت». فكل نسب مُنْقطع إلاّ نَسَبُه، صلى الله عليه وآله، أي النّسب التكوثريّ المتصل بالحق عَبْر الحقيقة المحمدية وروحها التي بين جنبيه، «ببعلها، وبنيها، والسرّ المستودع فيها».
7.مُصْحَف فاطمة: الدليل النضالي التاريخي:
1) لقداكتشفنافي تدبر سورة الكهف والرقيم أن مشروع(=«مسعى») رسول رب العالمين خاضع إلى«التهيئة الرشيدة». فهو«السائق»، و«الفتيان» عليهم السلام هم «شهداء» على سَوْقِه، يقودونمسعى«الحديث» الديني محينين ذلك المسعى «أمدا»«أمدا».
2) وقد كان «مُصْحَف فاطمة» دليلا علميا من أجل نضال على بصيرة حتى تمتلئ الأرض عدلا، فقسطا. إنه مُصْحَف«يحصي»[69] (اي يَدْرُسُ مدققا بلغة سورة الكهف والرقيم)لَبْثَالآماد النضالية، واحدا بعد واحد«فيه خبر ما كان وما يكون الى يوم القيامة».[70]
3) إنه مُصْحَف/دليل نضالي تاريخي «يحصي»«جميع من تردد [اي ما أمكن في الأدوار]»أي إحصاء كل الأدوار التي فيها إمكانيات احتمالية للتدخل الكدحي. فالمناضل ذو البصيرة المحمدية عليه أن يقرأ حساب « الْبَدَاء»أي الإمكانيات المستقبلية.
فالمستقبل القريب والمتوسط والبعيدله احتمالات كثيرة، فيحصي لكل واقعة ممكنة ما يناسبها من تدخل. ولكن لكل كادح إلى الله تعالى طاقة محددة ﴿لايكلف الله نفسا إلا وسعها﴾
4) إنه دليل «يحصي»لَبْثَ«الأمد»فهو يحتوي على«أسماء الأئمة وصفاتهم، وما يملك كل واحد واحد». وكذلك«صفات كبرائهم »، أي صفات مريديهم الكبار اي الذين يشاركونهم تدبير الأمد.
فيه تصنيف لكل بلدان العالم، حتى يعرف «فتى» الأمد ومريدوه خصوصيات الكدح التاريخي مُحَيِّنَاً، في كل العالم ، مادام «الحديث» المحمدي (أي الرسالة المحمدية بلغة سورة الكهف والرقيم) هو للعالمين، ورحمة لهم جميعا. ففيه:«أسماء البلدان، وصفة كل بلد في شرق الأرض وغربها» وفيه تصنيف لسكان كل بلد.«وعدد ما فيها من المؤمنين، وعدد ما فيها من الكافرين، وصفة كل من كذب، وصفة القرون الأولى» (أي أعقل عقلاء القوم في كل بلد)، ومن ولي من الطواغيت ومدة ملكهم وعددهم.[71] وذلك حتى يعرف فتى الأمد ومريدوه الكيفية الخصوصية في التعامل مع كل صنف من أجل هدايته.
5) وفي هذا الدليل النضالي-التاريخي «إحصاء» للموارد المعاشية والأوضاع البيئية في كل بلد: «وعدد كل شجرة ومدرة في جميع البلاد». فذلك الإحصاء هو قاعدة الإصلاح الجذري المغير على بصيرة[72].
6) لقد امتحن الله تعالى الكوثر، التي هي رحمة للعالمين كوالدها(ص).فاللهرحيم أَمَتِه العظمى، إذ جدول لها مُصْحَفها النضالي-التاريخي،ووضعلهاالعناوين النووية للمُصْحَف الذي سيهدي نضال «الفتيان»/الأئمة ومريديهم (=« القرون الأولى») فالله تعالى لا يعوض العبد وإنما يهديه. قال رسول الله (ص)«يا فاطمة اعملي ما شئت فإنني لا اغني عنك من الله شيئا يوم القيامة».
فلما نزل جبرائيل ميكائيل وإسرافيل «في ليلة الجمعة من الثلث الثاني من الليل» فهبطوا به وهي قائمة تصلي. فمازالوا قياما حتى«قعدت»ليضعوا«الْمُصْحَف في حجرها»بعد تبادلهم معها السلام. «فمازالت من بعد صلاة الفجر إلى زوال الشمس تقرؤه حتى أتت على آخره»[73].والقراءة ليست التكرار، وإنما هي «الجمع»و«القياس» و«الفهم» و«الدرس» و«التفقه»[74] والإتيان على آخره هو: تدبره واستيفاء حقه﴿لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية ﴾.
لقد كادت عليها السلام أن تبخع نفسها من أجل البشرية ومن أجلنا جميعا، حتى لا نكون من «الأبترين»فتفهمت البرنامج العام للمُصْحَف المقدس، وقاسته، ووسعته.ثم «دفعته إلى أمير المؤمنين. فلما مضى صار إلى الحسن، ثم إلى الحسين،ثم عند أهله، حتى يدفعوه إلى صاحب هذا الأمر»[75]، كما يرى حفيده جعفر الصادق (ع).
فإذا أردنا أن ننتمي إلى السيدة الكوثرعليها السلام ، (وكل نسب منقطع إلا النسب الأنطولوجيلرسول الله(ص)) علينا أن نشارك في قراءة هذا الْمُصْحَفالفاطمي الجليل. جميعا علينا أن نشتركفي تدوين هذا المُصْحَف/الدليل النضالي التاريخي… أي أن «نحصي»لَبْثَنابمرحلتنا التاريخية-الراهنية بتدقيق خصائص أقطارنا وأوضاعها الدينية والمعاشية والبيئية والصحية، وتدقيق مشروعنا الحيني على طريق التمهيد لظهور«ذي القرنين»[76]عليه السلام.
علينا أن نكون مُصْحَفِيِّين، أي متعقلين لخصائص عصرنا (حاضرا ومستقبلا)، مكتنهين ما أمكننا «جميع من تردد في الأدوار». فالقدرة على التغيير بإتجاه ملء الأرض عدلا وقسطا مشروطة ببناءعَقْل بَدَائِيٌّ،أي عقل مستوعب لما هو كائن، ومستعد لما يمكن أن يكون.
إن فاطمة الزهراء عليها السلام تدعونا لكي نكون مصحفيين، حتى نصبح كوثريين، أي على طريق التمهيد للخير الكثير المتراكم دون إنقطاع، أي إنسانيينمحمديين… وإلا- والعياذ بالله تعالى-سنكون من«الأبترين».
المُصْحَفيَّة والصلاة الفاطمية هما اللذان سيجعلان-وحدهما-الملائكة جميعا تهبط لتساعدنا في كدحنا المصحفي ضد «الشنآن» و«الإستكبار» العالمي والفساد في الأرض.
لنكن مصحفيين حتى نكون كوثريين، ومتكوثرين.
خاتمة:
كم كنا سعداء في الكُتّاب، بأقصر سورة في القرآن، وأعذبها لحنا موسيقيّا فيخيالنا الطفولي!بسورة الكوثر بآياتها الثلاث، كانت قلوبنا الصغيرة تحُسّ بفيض جمال الإنسان الكوثر، عليها السلام، روح النبي محمد(ص).
ثم طَرِبْنَا، لما كبُرنا قليلا، بسورة الكوثر الكبيرة، سورة مريم. فالمَرْيَمُ في اللغة العربية السريانية هي «السيّدة»، أي «سيدة نساء العالمين»، ولكل مرحلة رسالية مَرْيَمُها، وأعظم المَرَايم هي الإنسان الكوثر الفاطمة، عليها السلام. فسورة الكوثر الكبيرة إنما تَعْنِيها هي حقيقةً وتعيُّنًا لكل ذي عينيْن.
ف﴿كهيعص﴾، إنما تعني في أرقى تجلياتها مريم العالمين، أي سيدة نساء العالمين، عليها السلام، علاوة على تجليها في مَرَايم أخرياتٍ بِآمادٍ رسالية سابقة. فالكاف هي الكوثرية فيها، والهاء هي الهداية فيها، والياء هي اليُسْرُبها، والعين هي عينها التي لا تنام عن مُحبّي روح النبي (ص).
أما ﴿ص﴾،فهي «الصّدِّيقة الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرون الأولى»[77]. ولمّا فقد النبي، صلى الله عليه وآله كل أبنائه ألهمه الله تعالى أنْ يَذْكُر أسماءَها المقدسة تلك، بما هي ﴿رَحمَتِ رَبِّكَ﴾ (مريم، 2) وبما هو ﴿عَبدَهُ زَكَرِيّا﴾ (مريم، 2). فزكرياء في اللغة-العربية-السريانية هو«الذَّاكِرُ كثيرًا» (= الذَّكَّارُ). وأعظم الزَّكريَّائِين: هو الحامد المُحَمَّد الأحْمَدُ، صلى الله عليه وآله.
ذكر الله بتلك الأسماء، فوهَبَهُ «اليَحْيَى»، أي الحنون/المُنْعِمُ في اللغة العربية-السريانية، واسمه في الأمد المحمّدي: عليّ بن أبي طالب، فهو من الذين ﴿يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّـهِ﴾، وذلك من آيات يَحْيَوِيّتِه/حَنانِيّتِه.
فقَدْ وهَن عظْمُ النبي محمد (ص) بوفاة أبنائه، وهو يُريدُ «الوراثة» التي تُطمْئِنُهُ على مصير رسالته الخاتمة إنْ استطاع المناوئون قَتْلَه (فداه نفسي)، خاصة أن الخديجة عليها السلام تكاد تصبح «عاقرًا». فكانت عطية الله تعالى له هي «عليّ» عليه السلام، وكان «غُلامًا»[78]، لم يجعل الله له ﴿مِن قَبلُ سَمِيًّا﴾ (مريم، 7) أي نظيرًا على الإطلاق. وكان أن آتاه الله تعالى ﴿الحُكمَ صَبِيًّا﴾أي الحِكمة والقدرة على الحُكْم (ومن آياتها: حديث الدار)، وآتاه الله تعالى ﴿حَنَانًا﴾ لدنّيًّا مقاومًا «الجَبَّاريّة» (الآية 14) حتى استشهد عليه السلام.
ثم وَهبَه الله تعالى «المَرْيم»[79] أي السيدة، بمعنى سيدة نساء العالمين. وكانت لها القدرة على الولادة رغم أنها كانت عذراء دائما، لا تحيض، كرامةً منه سبحانه. قال الصادق (ع) «لأنها خلقت مِنَ الطّيب(…) فالرحم ملتزقة»[80]. والأمْرُ ممكن في علم الطب والبيولوجيا، وإن كان غير موجود في الأكثرية المطلقة. وقد كان أبوها هو «العِمْران» أي مَلْءُ الأرض عدلاً وقسطا، فهو «الرحمة» كلها للعالَمين كلهم. وكان عِيساها (أي «المُصلح»[81] في اللغة العربية-السريانية) هو سيدنا الحسين الذي لما حَمَلَتْهُ عرفَتْ ما سيحدث له من مأساة إنسانية فقالت: ﴿يا لَيتَني مِتُّ قَبلَ هـذا﴾، فواساها جَبْرُ الإِيلِ (=«قوة الله تعالى» = وسيلة الله تعالى في اللّغة العربية-السريانية) بأن الحسين كان ﴿سَرِيًّا﴾، أي«الشريف»، «الرفيع».فهزّت إليه ﴿بِجِذْع النَّخْلَة﴾ (مريم، 25) أي «نخلة نفسك التي بَسَقَتْ في سماء الروح باتصالك بروح القدس، واخضرَّتْ بالحياة الحقيقية بعد يُبْسها بالرياضة وجفافها بالحرمان عن ماء الهوى وحياته، وأثمرت المعارف والمعاني»[82]. فلما رأتْ من البشر الشَّنْأَ﴿نَذَرتُ لِلرَّحمـنِ صَومًا﴾ فلم تُكلّمهم حتى تُوفِّيَتْ، غاضبةً عليهم، لأنها تعلم أن شَنْأهم لها هو المُفضي تدريجيا لقَتْل العيسى الأعظم، سيدنا الحسين (ع). فكان أنْ صُلِب، عدة مرات في حياته، حتى استشهد على يَدِ «الأبْتَرِين»، ليكون الموجود –بعين الله تعالى- باسم المحمدية السمحاء التي سَتعْمُرُ الأرضَ عِمْرَانًا، كما مُلئتْ خرابًا شيطانيا.
ولكن لم يكن قتْلُ العِيسَى المحمدي قتْلاً حقيقيا:﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ (النساء، 157)، فما كان بالحقيقة هو «نحْرُ» الحسين/العِيسَى لكلِّتَمكُّنِ الشّانئين للمحمدية البيضاء، من أجل تثبيت الصلاة الكوثرية الصّدّيقية في عِمْرانِ العالَمِ المحمدي، لأنها هي «الروح التي بين جنبيه».
***
أَعَرَفْتُم أيها السادة لماذا كانت سيدة النساء «لا تَخْرِمُمِشْيَةَ أبيها»[83]، أي لا تَخْرِمُمِشْيتَهُ الأنطولوجية والأخلاقية والسياسية؟؟ ذلك لأنها «روحه»!!
فكمْ نحنُ سعداء بمِقدار حبّها لَنَا، لأنها هي «الإعطاء» الإلهي، أي هي المُعْطى التي لا عطية غيرها، والمُعْطِية التي لا مُعْطِيَ بَشريًّا غيرها!!! إنها السّرُّ، وسِرُّ السّرّ الذي استودَعَهُ الله في رحمته للعالمين، صلى الله عليه وآله!!
والسلام على روح ح. الكوراني
شيخي المربّي في أربعينيته
إعادة كتابة، أكتوبر 2019
(بدأتْ كتابتُها عام 2006 – وأعيدتْ عام 2011، فعام 2019)
*******************************************************
[1] مقطع من دعاء مأثور. أما كمال العطيات في الدنيا فهو إكمال الدين وإتمام النعمة بإعلان ولاية علي عليه السلام وشيعته: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (المائدة، 3).
[2] أحاديث نبوية، وردت في صحيح البخاري وصحيح مسلم والترمذي.
[3]… حسب وصف راوي خطبتها الأولى. [الخَرْمُ: الإنْقَاصُ والتَّرْكُ والفَصْمُ].
[4] نَحْو هذا الحديث في مستدرَك الحاكم، وقال «صحيح الإسناد». وهو حديث معقول إذ أن الله تعالى ينبغي أن يخلق العالم لأمْرٍ جليل فيه، ولا أجلّ مِن سيدنا محمد (ص).
[5]… جاء ذلك مثلاً في: الطبراني، المعجم الكبير، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1994، ج22، الحديث 985.
[6] روى هذا الخبر النبوي الحاكم الحسكاني الحنفي في ينابيع الموَدَّة، والثعلبي في الكشف والبيان،والحافظ السيوطي في الدر المنثور، والقاضي عياض في الشفاء، وغيرهم…
[7] ذكر ذلك الحاكم.
[8] الكوراني (حسين)، في محراب فاطمة عليها السلام، دار الهادي، ص 117.
[9] الكوراني(حسين) م، س، ص 34.
[10] الموسوي (روح الله)، نقلا عن المصدر السابق، ص 35.
[11] الإمام الصادق عليه السلام، نقلا عن: الكوراني (حسين)، م، س، ص 22.
[12] روى ذلك الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال والحافظ العسقلاني في لسان الميزان (ج. 5)، ومحب الدين الطبري في ذخائر العُقبى، وغيرهم…
[13] الإمام الصادق عليه السلام، نقلا عن الكوراني (حسين)، م، س، ص 23.
[14] الإمام الصادق عليه السلام نقلا عن: الكوراني (حسين)، م، س، ص 57.
[15] حديث مشهور.
[16] الكوراني (حسين )، م، س، ص 143.
[17]الطبري الصغير، دلائل الإمامة، دار التعارف، بيروت، 1988، ص 153، والصَّدوق، علل الشرائع، مؤسسة الأعلمي، 2007، ج1، ص181.
[18] المجلسي، بحار الأنوار، ج43، ص42.
[19]الصدوق، مَعَاني الأخبار، دار المعرفة، بيروت، 1979، ص 396.
[20] عبد العزيز البهادلي،أمهات المعصومين عليهم السلام: سيرة وتاريخ، مركز الرسالة، قم، 1425 هـ، ص 16.
[21]أبو الفضل بن طيفور،بلاغات النساء، المكتبة العصرية، بيروت، 2001، ص 34.
[22]الطَّبِن = الفطن.
[23]م. س، ص 37.
[24] ابن طيفور، بلاغات النساء، المكتبة العصرية، بيروت، 2000، ص19.
[25] بين «الدَّلاَّل»و«الدُّولَة» علاقة لغوية وتاريخية.
[26] م. س.
[27] ابن كثير، البداية والنهاية، حوادث سنة 36 مِن الهجرة.
[28] انظر مثلا: السيوطي، مُسند فاطمة، ص111.
[29]البخاري، الصحيح، ج7، ص9.
[30] الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص244.
[31] ابن طيفور، م.س.
[32] سورة النور، الآية 35.
[33] الطبري، التاريخ، ج4، ص223.
[34]«الكوكب الدري»مرادف لـ«الزَّهْراء» إلى حدّ كبير.
[35] الطبري الصّغير، دلائل الإمامة، م، س، ص 149.
1الكوراني (حسين)، م، س، ص، 78، نقله عن ابن أبي الحديد صاحب شرح النهج.
[37]ابنحنبل، فضائل الصحابة[38] السيوطي (جلال الدين)، مُسند فاطمة، لجنة أنوار المعارف، حيدر أباد، 1406هـ.ق/1986 م.ع [أعاد السيوطي مِصْرَ لأهل البيت بعد حَظْرِ
حبهم في العهد الأيوبي، مع غيره من علماء العهد المملوكي. له: العرف الوردي في أخبار المهدي، والثغور الباسمة في مناقب السيدة فاطمة].
[39] انظر مثلا:Hervier, «La main de Fatma», Hesperis, 1927, PP201-209
[40] … كان عقابُ السلطة الجديدة لأهل فدك على إسلامهم وحسن انسجامهم في نسق الكسْب العَدَالي-الفاطمي أنْ هُجّروا إلى الشام. أما عقابها أهل نجران – النصاري أصْلاً- على إسلامهم وولايتهم للإمام (ع) بعد المباهلة، فكان تهجيرهم إلى العراق. فالموالي لأهل البيت «يُبَشَّر» دائما بالابتلاء، الأمثل فالأمثل.
[41] ابن طيفور، بلاغات النساء، المكتبة العصرية، بيروت، 2000، ص19.
[42] م. س.
[43] م. س.
[44] الحسيني (علي)، بحث حول الصبر، د. ن، ص32.
[45] حديث نبوي مشهور.
[46] السيوطي، مسند فاطمة، لجنة أنوار المعارف، حيدر أباد، 1986، ص52 وص77.
[47] م. س، ص50.
[48] راجع: ابن منظور، لسان العرب، مادة «قرن».
[49] العقاد (عباس محمود)، فاطمة الزهراء والفاطميون، دار اليقين، القاهرة، 2017، ص20.
[50] م. س، ص10.
[51] م. س، ص20.
[52] … تلك اليَد التي مجّدتها ثقافة بلاد المغرب الكبير تمجيدًا مُدهشا.
[53] شيمل (أنَّا-ماري)، روحي أنثى (الأنوثة في الإسلام)، دار الكتب، القاهرة، 2016، ص57.
[54] عبد النبي (مرتضى)، «شعر السيدة الزهراء: دراسة فنية وأسلوبية»،https://alfatimi-basra.com/archives/2043.
[55] … تُشير بـ«الحجون» إلى أمها، فهي مَدْفُونَة بتلك المنطقة من مكة المكرمة. وتلك قدرة إبداعية!! (بقية الأماكن المذكورة تشير بها إلى عظماء آخرين ساندوا النبوة المحمدية).
[56]بـ«اللُّب» = بالعقل والصبر
[57] السيدة فاطمة بنت محمد، الديوان، دار الهلال، بيروت، 2006.
[58] الإمام علي، الديوان، دار صادر، بيروت.
[59] ابن عربي، تفسير القرآن الكريم، م. 2، ص434.
[60] رواه الذهبي في سِيَر أعلام النبلاء، دار الرسالة، بيروت، 1989، ج2، ص119.
[61] ابن عربي، م. م، ص 434 أيضا.
[62] حديث نبوي شريف، رواه ابن حبّان والبخاري.
[63] شَنَأَ: أَبْغَضَ.
[64] حديث نبوي شريف، رواهُ السيوطي في مُسنَدفاطمة، م. م.، ص110 وص111.
[65] هذا الحديث مشهور.
[66] حديث نبوي شريف، رواه السيوطي في مسندفاطمة مثلا.
[67] و 3 ابن عربي، م. س، ص 434 أيضا.
[68]ابن عربي
[69]..«الْإحصاء» هنا بالمعنى الذي اختارته «سورة الكهف والرقيم» لا بالمعنى السائد الآن(راجع تدبرنا في سورة الكهف والرقيم)
[70]الطبري الإمامي، دلائل الإمامة، م.م ،ص29
[71]م.س، ص29.
[72] هذا الحديث مشهور.
[73]م.س، ص30
[74]راجع:إبن منظور، لسان العرب،مادة «قرأ»
[75]الطبري الإمامي،م.م، ص 30
[76]راجع العنصر السادس من تدبرنا في سورة الكهف والرقيم
[77] جاء ذلك في «البِحار»، ج 43، ص 105.
[78] انظر تناولنا لغلامية الإمام (ع) في تدبر سورة الكهف.
[79]«مَرْيَم»: مؤنث «مَرْ»، أي «الأمير» في اللغة العربيّة السريانية. والأميرة فاطمة (ع) هي كفء أمير المؤمنين (ع).
[80] … رواه هشام بن الحكم في الاحتجاج.
[81] ابن منظور، لسان العرب، المجلد6، ص151.
[82] ابن عربي، م. م، المجلد2، ص7.
[83] ابن طيفور (طاهر)، بلاغات النساء، ص…19.