بقلم: د. نعمان المغربي (مختص في علوم الأديان المقارنة، – تونس)
عفا الله عنه وحفظ أهله، آمين
بين «غار»«البراءة» و«مغارات»«التعاهد» مع المشركين«المُعْتَدِين»: بين البُنيان السياسي الإسلامي والبُنيان السياسي الضِّراري
- سورة التوبة تَتوقّع ظلم القَوْمِ العبّاسي
وبّخ الإمام علي، عليه السلام، عمه العبّاس، لما وجده أسيرًا إذ خرج مع عشيرته الباغية في بدر، داعيا إياه إلى الحق. فقد وبّخه «بقتال رسول الله، صلى الله عليه وآله، وقطيعة الرحم». فقال العبّاس: «تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا». فقالوا: «أَوَلَكُمْ محاسن؟» قالوا: «نعم. إنا نَعْمُرُ المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونفك العاني»، فنزلت ﴿أُولـئِكَ حَبِطَت أَعمالُهُم﴾(التوبة، 17)، التي هي العمارة والسقاية والحجامة وفك العناة التي يفترقون بها، بما قارنا من الشرك، ﴿وَفِي النّارِ هُم خالِدون ، إِنَّما يَعمُرُ مَساجِدَ اللَّـهِ مَن آمَنَ بِاللَّـهِ وَاليَومِ الآخِرِ، وَأَقامَ الصَّلاةَ، وَآتَى الزَّكاةَ، وَلَم يَخشَ إِلَّا اللَّـهَ﴾(التوبة،17و18).
ولما فُتِحَتْ مكة المكرّمة، قال العباس للإمام ولشَيْبة سادنِ الكعبة: «أنا أفضل لأن سقاية الحاج بيدي». وقال شيبة: «أنا أفضل لأن حجابة البيت بيدي». وقال علي، عليه السلام: «أنا أفضل، فإني آمنت قبلكما، ثم هاجرت وجاهدتُ». فأنزل الله تعالى: ﴿أَجَعَلتُم سِقايَةَ الحاجِّ وَعِمارَةَ المَسجِدِ الحَرامِ كَمَن آمَنَ بِاللَّـهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَجاهَدَ في سَبيلِ اللَّـهِ؟! لا يَستَوونَ عِندَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمينَ (19) الَّذينَ آمَنوا وَهاجَروا وَجاهَدوا في سَبيلِ اللَّـهِ بِأَموالِهِم وَأَنفُسِهِم أَعظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّـهِ وَأُولـئِكَ هُمُ الفائِزونَ (20) يُبَشِّرُهُم رَبُّهُم بِرَحمَةٍ مِنهُ وَرِضوانٍ وَجَنّاتٍ لَهُم فيها نَعيمٌ مُقيمٌ (21) خالِدينَ فيها أَبَدًا. إِنَّ اللَّـهَ عِندَهُ أَجرٌ عَظيمٌ (22)﴾(التوبة).
فما كان للعبّاس أن يكون مخالفًا للأمر الإلهي: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا تَتَّخِذوا آباءَكُم وَإِخوانَكُم أَولِياءَ إِنِ استَحَبُّوا الكُفرَ عَلَى الإيمانِ. وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم، فَأُولـئِكَ هُمُ الظّالِمونَ﴾(التوبة، 23)، ففي الآية 19 والآية 23 توقّع أن يكون العبّاس وأبناءه من ﴿الظّالِمينَ﴾، أي المغتصبين لحق البشر وصلاحهم في ولاية أهل البيت، فسَمُّوا واضطهدوا خمسةً من أهل البيت عليهم السلام، وطاردوا «شَهْرَهُمْ» الأخير، سيدنا الإمام المهدي عليه السلام، حارمين الإنسانية مِنْ حقهم فيه ليملأها عَدْلاً وقسْطا وعلمًا وسعادةً.
لقد فضّل العباس عشيرته وأمواله الرّبوية (مِنْ «وَلِيجَتِهِ» مع قريش واليهود) على رسول الله، صلى الله عليه وآله: ﴿قُل إِن كانَ آباؤُكُم وَأَبناؤُكُم وَإِخوانُكُم وَأَزواجُكُم وَعَشيرَتُكُم وَأَموالٌ اقتَرَفتُموها وَتِجارَةٌ تَخشَونَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرضَونَها أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللَّـهِ وَرَسولِهِ وَجِهادٍ في سَبيلِهِ، فَتَرَبَّصوا﴾(التوبة، 24)، أي فانتظروا يا بني العباس فرصة الانقضاض على السلطة وإقصاء أهل البيت عليهم السلام واضطهاد أنصارهم، وذلك حتى ﴿يَأتِيَ اللَّـهُ بِأَمرِهِ﴾(التوبة، 24 أيضا)، أي حتى يأتي الله تعالى بِرَأْسِ أَمْره، سيدنا الإمام المهدي عليه السلام، ﴿وَاللهُ لاَ يَهدِي القَومَ الفاسِقينَ﴾(التوبة، 24)، فبنو العباس قومٌ «فاسقون»، منحرفون عن الرسالة الإبراهيمية-الهاشمية-المطّلبية -العَبْدَلية-المحمدية.
يَعْلَم العبّاس أن إبراهيم وإسماعيل وهاشم وعبد المطلب، آباءه المعصومين، عليهم السلام، يحرمون الربا، ولكنه يَفْسُقُ عن أمْر ربّه، فيمارس الربا. وتنزل الآية المكيةُ تُحرّم الربا: ﴿مَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّـهِ﴾(الروم، 39)، ثم تَتْرى الآيات المدنية في تحريم الربا بدولة الصحيفة، ولكنه يفسق عن أمر ربّه، فيمارسه بعد فتح مكة خلسَةً حتى لا يتفطن الرسول الكريم ، عليه السلام، والله يُرِيهُ أعمالنا[1]. فيُفاجئه رسول الله بالإدانة على عيون الأشهاد في حَجَّة الوداع: «(…) وإن كل ربا موضوع، ولكنْ لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. قَضَى الله أنه لا ربا. وإن ربا عمّي العباس موضوع كله (…)»[2].
وهو يظن أن الإمامة عصبية هاشمية، فيبسط سيوف عائلته أمام الإمام علي عليه السلام، بعد اغتصاب حقه في الأمر السياسي، ولكن الإمام يرفض ذلك، لأن الإمامة عقل وإقناع وليست عصبية. ولمّا كان بعضُ إسلامِ محمدٍ لا يُنَاسب مَصَالح العباس (وبَنِيه)، فقد كان يحاول أن يجد في «تَوْرَاتِيَّة» كعب الأحبار «تلطيفًا» لبعض أحكام الإسلام التي لم تعجبه، فكان جليسا وصديقا له[3]. وقد كَوَّن مِلّة عَبْدِ الله بن عبّاس، (وكذلك أسلم، مولى عُمَر وغيرهم) وسمّاه «حَبْر الأمة»، وقد روى عنه[4]. وقد تكوّن عبد الله ابن عباس أيضا عند وهب بن منبه، وروى عنه[5]. وقد كانت لعبد الله بن عبّاس «شَوَاذّ» في نظر مالك بن أنس فاجتنبها، لما طلب منه المنصور العباسي وضع «الموطأ»[6].
إن سورة التوبة تدعو بني العباس وبني عبد الله بن العباس، وغيرهم من المتعصبين لأسرهم وعشائرهم إلى عدم اتخاذ الآباء والإخوان ﴿إِنِ استَحَبُّوا الكُفرَ﴾ببعض أحكام الإسلام، كتحريم الربا و«الكنز» و«التعاهد» مع المتآمرين ضد رسول الله، صلى الله علي وآله، و«الشهور» المعصومين بعده (الآية 24). فينبغي أن تَترجح في المسلمين «جِهةُ القرابة الصورية والوُصْلة الحقيقية» فيكون بينهم وبين من آثر الاحتجاب من الأقرباء «ولاية مسبّبة عن الاتصال الصوري مع فقد الاتصال المعنوي واختلاف الوجهة الموجب للقطيعة المعنوية والعداوة الحقيقية، فإن ذلك من ضعف الإيمان ووهن العزيمة، بل قضية الإيمان بخلاف ذلك». قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾(البقرة، 165). وقال بعض الحكماء: «الحق حبيبنا والخَلْقُ حبيبنا، فإن اختلفا فالحق أحب إلينا»[7].
فإن كانت هذه القرابات الصورية والمألوفات الحسية (العشيرة والأموال «المقترفة» والتجارة والمساكن غير الشرعية) ﴿أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللَّـهِ وَرَسولِهِ﴾(التوبة، 24)، وأنفُس الرسول الثلاثة عشر (الإثني عشر مع السيدة فاطمة، عليهم السلام) «فقد ضعف إيمانكم ولم يظهر أثره في نفوسكم وعلى جوارحكم لتنقاد بحكمه، وذلك لوقوفكم مع الآثار الناسوتية الموجبة للعذاب والحجاب: ﴿فَتَرَبَّصوا حَتّى يَأتِيَ اللَّـهُ﴾بعذابه. وكيف لا، وأنتم تسلكون طريق الطبيعية [الشيطانية] وتنقادون بحكمها مكان سلوك طريق الحق والانقياد لأمره؟ وذلك فسقٌ منكم»[8]، كما تؤكد الآية 24، «والفاسق محجوب عن الله لا يهديه إليه لعدم توجهه وإرادته بل لإعراضه وتوليه، فهو يستحق العذاب والخذلان والحجاب والحرمان»[9].
فعمارة المسجد الحرام عند العباس وبنيه، هي «عمارة» ظاهرة، أما العمارة الحقيقية فهو العبودية لله تعالى: ﴿إِنَّما يَعمُرُ مَساجِدَ اللَّـهِ مَن آمَنَ بِاللَّـهِ وَاليَومِ الآخِرِ، وَأَقامَ الصَّلاةَ، وَآتَى الزَّكاةَ، وَلَم يَخشَ إِلَّا اللَّـهَ. فَعَسى أُولـئِكَ أَن يَكونوا مِنَ المُهتَدينَ﴾(الآية، 18). إن الإمام عليًّا وأنفسَه الإحديْ عشر ﴿لا يَستَوونَ﴾(الآية، 19) مع صاحب السقاية (العباس) وصاحب العمارة (شيبة)، وأبنائهم: ﴿الَّذينَ آمَنوا وَهاجَروا وَجاهَدوا في سَبيلِ اللَّـهِ بِأَموالِهِم وَأَنفُسِهِم﴾، كعمّار بن ياسر الذي جعلته سورة النحل محوريّا، فهم ﴿أَعظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّـهِ وَأُولـئِكَ هُمُ الفائِزونَ (20) يُبَشِّرُهُم رَبُّهُم بِرَحمَةٍ مِنهُ وَرِضوانٍ وَجَنّاتٍ لَهُم فيها نَعيمٌ مُقيمٌ (21)﴾(التوبة). ومنهم ابن السِّكّيت الذي قتله المتوكل العباسي لحبه عليًّا عليه السلام، وغيره من أصحاب الأئمة/الشُّهور في العهد الطاغوتي العباسي.
إن الممارسة الربوية تعكس آثارًا سيئة جدا على نفس المرابي، كالعباس، إذ أن «آكل الربا أسوأ حالا من جميع مرتكبي الكبائر». فقد عين على آخذه مكسبه ورزقه «سواء ربح الآخذ أو خسر، فهو محجوب عن ربه بنفسه وعن رزقه بتعيينه، لا توكّل له أصلا، فوكله الله تعالى إلى نفسه [وتدبيره الشيطاني]، وأخرجه من حِفْظه وكَلاَءَتِه، فاختطفته [الشياطين] وخَبَّثَتْهُ، فيقوم يوم القيامة، ولا رابطة بينه وبين الله كسائر الناس المرتبطين به بالتوكل، فيكون كالمصروع الذي مسه الشيطان، فتخبطه لا يهتدي إلى مقصد». يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾، فهم متذبذبون، ﴿لاَ إِلَى هَـؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَـؤُلاَءِ﴾(النساء، 143)، وهي أمارة من أمارات «المنافق». فالعباس كان يرى أن يد النظام المعاشي الإسلامي «مغلولة» أي لا يُمكن أن تمنحه الرّبح والاطمئنان على مُستقبله المعاشي: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّـهِ مَغْلُولَةٌ﴾(المائدة، 64).
وقد ذكر البخاري، صاحب «الصحيح»، حُبَّ العباس المفرط للمال، ممّا جعله غير متأدب مع رسول الله، صلى الله عليه وآله. فقد أتي للرسول بمال من البحرين، فطالب الرسولَ بأن يُرجع له مال فدائه في بدر، رغم أنه كان آنئذ محاربا للرسول، ورغم أنه غني جدًّا لرباه، فحثا، صلى الله عليه وآله في ثوبه، ليتألفه لعله يتوب عن «الشِّرك» الأخلاقي والمعاشي، والربا، فلما لم يستطع العباس حمل المال، لشيخوخته أو لثقل المال أمر الرسول: «مُرْ بعضهم يرفعه إليّ». فلما قال صلى الله عليه وآله: «لا». زاد العبّاس الرسول الكريم أمْرًا: «فارفعه أنت عَليّ!». وفي المرتين كان غير متأدب، كأنه يتكلم مع شخص عادي، كأنه ليس مع منقذ البشرية الأعظم. وأعاد العباس الطلبيْن، ثم أعاد الرسول كلمة «لا»، فاضطر العباس لأن ينثر منه «ثم احتمله على كاهله، ثم انطلق، فمازال يتبعه بصره، [صلى الله عليه وآله] حتى خفي علينا عجبًا من حِرْصه»، كما ذكر الراوي، أنس بن مالك[10]. إنه مَسُّ الشيطان لعابد المال والمُصَلِّي للربا.
فالعباس ممّن فضحتهم السورة الفاضحة، في موضع آخر، غَيْرَ موضع مفاخرته الإمام عليا، وهو موضع «لَمْز» رسول الله، صلى الله عليه وآله في الصدقات، كما جاء في حديث البخاري: ﴿وَمِنهُم مَن يَلمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِن أُعطوا مِنها رَضوا وَإِن لَم يُعطَوا مِنها إِذا هُم يَسخَطونَ (58) وَلَو أَنَّهُم رَضوا ما آتاهُمُ اللَّـهُ وَرَسولُهُ وَقالوا حَسبُنَا اللَّـهُ سَيُؤتينَا اللَّـهُ مِن فَضلِهِ وَرَسولُهُ إِنّا إِلَى اللَّـهِ راغِبونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلفُقَراءِ وَالمَساكينِ وَالعامِلينَ عَلَيها وَالمُؤَلَّفَةِ قُلوبُهُم وَفِي الرِّقابِ (…) وَاللَّـهُ عَليمٌ حَكيمٌ (60)﴾(التوبة).
ولذلك يهدّد الله تعالى كلَّ «لمَّاز» منذ التنزيل المكي: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)﴾(سورة الهمزة، التي نزلت على مسمع من العباس في مكة مبكرا). فالعباس وأمثاله، كأبي سفيان وأبي جهل وأبي بن خلف، لا يشعرون أن «المقتنيات المخلدة لصاحبها هي العلوم والفضائل النفسية الباقية لا العرض والذخائر الجسمانية الفانية»[11]، فهم «مخدوعون بطول الأمل»، مغرورون «بشيطان الوهم عن بغتة الأصل»، والجهل هو «رذيلة القوة المُلكية، أصل جميع الرذائل ومستلزم لها»[12].
لقد كان العباس ذا أَحْوَذِيّة دَهائية، فهو يصرّ على شركة في مكة، ويخرج مع «مُشْركيها» المؤهلين لأهوائهم وأشخاصهم الفانية لقتال النبي، صلى الله عليه وآله، ويُظهر للمسلمين أنه متضامن معهم وللنبي الودَّ، «ممّا جعل الكثيرين يظن أنه كان على يبطن الإسلام ويظهر الشرك (…) حتى استتبّ الأمر [لرسول الله، صلى الله عليه وآله، وكان فتح مكة] (…) أعلن إسلامه»[13]. فهو في الحالتين «رابح» غير خاسر، سواء مع «المشركين» أو مع النبي والمسلمين.
وقد فضحه إصراره على الربا، إذ أن المرابي غير مؤمن: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾(البقرة، 278). والمرابي ممسوس بالشيطان (البقرة، 275). ولقد كان مثل الكثير من «المترفين» العَرَب حانقين، حاقدين، على القوانين الإسلامية التي لم تسمح لهم إلا برؤوس أموالهم فارضَةً التوازُن الطبقيّ والعدالة المَعَاشية[14]، ولما تسمع بالكنز والربا وطالبتهم بالزكاة والإنفاق على الجهاد السلمي والجهاد العسكري، فأصبحوا «متربصين» بها وبـ«مَسْجدها» (أي بنظامها السياسي-الولائي) (الآية 24 من سورة التوبة). وهذا ما فعله عبد الله بن عبّاس إذ سرق بيت مال البصرة، وهرب بمساعدة أخواله هوازن، محاربي النبي صلى الله عليه وآله في معركة هوازن، والذين منهم الشِّمْر بن ذي الجوشن قاتلُ الحسين، عليه السلام، والذين منهم حاملو رأسه الشريف حتى دمشق، عاصمةَ الطاغوت الأموي.
وذلك «التربص»، فعله عبد الله بن عبّاس إذ خَذل الإمام الحسن، في عَهْدِه السياسي، فقد خانه في المعركة أمام معاوية. وخذلان أبناء العباس ساهم في تقويض ثقة العامة بالحاكميْن، علي والحسن عليهما السلام وانتهاء عهدهما السياسي وتأليب الكثير من الجاهلين عليهم. أما خذلان عبد الله بن عباس للإمام الحسين، فقد جعل أكثر العامة الجاهلين لا يتحمسون للإمام الحسين عليه السلام، فأقرب الناس إليه لم يناصره، ممّا يجعل هؤلاء الجاهلين يشكون. فكان مِن أوائل قاتلي الحسين (ع) عمليًّا.
فقد كان العباس وبنوه يتربصون بأهل البيت المنصوص عليهم من الله تعالى ورسوله، وكانوا أصدقاء للسلطة الأموية حتى أواخر عهدها، ثم كان الخلاف بين الطرفين فاستغلوا نسبهم من رسول الله، واستغلوا غضب الفيلق الأموي بخراسان ليسقطوا الدولة الأموية، بانقلاب عسكري خراساني موَّلَهُ المُتْرَفُون الإيرانيون، كما يَشْهَدُ سَوْقُهُم الطبقي في رسالة الصحابة لابن المقفع المترف. ثم واصلوا تربصهم بأهل البيت، فطاردوهم، وسمّوهم ونفوهم وحكموا عليهم بالإقامات الجبرية، وراقبوهم حتى في حياتهم الشخصية.
وينال منهم الإمام الحسن العسكري اضطهادًا شديدًا لأن «حَبْر الأمة» أعلمهم بسرّ الإمام الثاني عشر الذي يملأ الأرض عدلا كما مُلِئت حورًا، فحَكَمُوا عليه بالإقامة الجبرية، وحرموه من الزواج، فتزوّج سرًّا. وأرادوا ذبح ابنه الوحيد، عليه السلام، ثم سَمّوه واضطهدوا زوجَهُ الكريمة «نرجس»، عليها السلام، وسجنوها بتهمة ولادة الإمام المهدي عليه السلام.
فقد تولّى بنو العباس أَبَاهُمْ، ﴿فَأُولـئِكَ هُمُ الظّالِمونَ﴾(الآية 23)، فهم يريدون ﴿أَن يُطفِئوا نورَ اللَّـهِ بِأَفواهِهِم. وَيَأبَى اللَّـهُ إِلّا أَن يُتِمَّ نورَهُ، وَلَو كَرِهَ الكافِرونَ﴾(الآية 32).
- سورة الشورى تلخص وسورة التوبة تُفصّل
تقوم المقولات التداينية لسورة الشورى على 6 آيات: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾(الشورى،15)، و﴿بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾(الشورى،17)، و﴿الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾(الشورى،23)، ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾(الشورى،38)، و﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم﴾(الشورى،47)، و﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾(الشورى،13). ومن هذه الآيات يُمكن انتزاع الشكل التفهيمي التالي:
فلا طاعة لرسول الله (ص) إذا لم تكن «مودّة للقربى» (عليهم السلام). ولا «مودّة للقربى» إنْ لم نمارس «الشورى» بيننا، في «ولايتنا المشتركة» بنقابة الحي، وبمجلس الحل والعقد مع أولياء الأمور عليهم السلام، وبولاية القطر والإقليم، وبكل «أمر جامع». والمعصومية، من علاماتها شُوريّتها: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ﴾(آل عمران، 159)، ومن علاماتها العفو عن المسلمين إذا كانت نصائحهم لولي الأمر غير موفَّقة، فلا مندوحة عن التشاور رغم ذلك: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾(آل عمران، 159).
وبذلك يكون مفهوم «الشورى» هو البنيان «الانتصاري على البغي»/«الاستجابي» لأطروحة «الحق والميزان»، أي لأطروحة «الحقِّ»«الذّمّيِّ» (=الحق الدستوري أو «الرَّهْنِي») وأطروحة «الميزان» بين الناس، فلا تفاوت بين المسلمين في «الأمر الجامع»، بل هم فيه على حقّ «الاستواء».
فلا يكون «العَرْش» أي البُنيان السياسي الإسلامي «البريء» والمهيمن على الأرض إلا إذا استوى الله الحق تعالى عليه، إي إذا هيمن الله تعالى عليه بأطروحته الاجتماعية-السياسية-الاقتصادية «الاستوائية»، أي إذا استعدّ الاجتماع لتلقي التجليات الإلهية «التبريئيّة».
ولا يكون ذلك إلا بتماهي «الفقهاء» و«النقباء» وعامة الناس بكمال البراءة، للاقتباس منهم، وهم النبي صلى الله عليه وآله والقربى عليهم السلام، فهم المصابيح البريئة إطلاقا الذين يجب اقتباس نور «البراءة» عن أنوارهم. وذلك هو «المودة في القربى». فحبهم والتماهي بهم، هو الذي يعلمنا «الشورى»، لأنهم هم أكبر المصرّين على المشاورة حتى وإن أدت إلى كارثة أحد، فقد كان الرسول يريد حرب شوارع والأكثرية تريد المنازلة المفتوحة.
[1]﴿وَقُلِ اعمَلوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُم وَرَسولُهُ وَالمُؤمِنونَ وَسَتُرَدّونَ إِلى عالِمِ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم تَعمَلونَ﴾(التوبة،105).
[2] ابن هشام، السيرة النبوية، المكتبة العصرية، بيروت، 2001، ج2، ص217.
[3] أبو رية (محمود)، أضواء على السنة النبوية، ص157.
[4] وو3و4 السلقيني (عبد الله)، م. س، ص166 وص313. [«كعْبُ الأحبار» هو أعظم «الأحبار» جميعا، أمَّا تلميذه فهو مجرّد حَبر لأمة واحدة!].
[7] ابن عربي، التفسير، المجلد1، ص287.
[8] و7 ابن عربي، م. س، ص187 أيضا.
[10] البخاري، الصحيح، الحديث عدد 2994.
[11] و2 ابن عربي، م. م، المجلد2، ص429.
[13] الصّباغ (حسن)، صحيح البخاري: رؤية معاصرة في بعض نصوصه، دار الينابيع، دمشق، 2006، ص243.
[14] راجع تدبرنا في سورة البقرة وسورة يوسف.