ما فتئت تأتينا أخبار متلاحقة عن تنقلات السفير الفرنسي ببلادنا، وفي أوقات حساسة من عمر جمهوريتنا الثالثة، فلم يغفل برنامجه عن ولاية من الولايات، جنوبا وشمالا ووسطا وغربا، وكأني به بصدد ممارسة نشاطه كمقيم عام، مكلف بتفقد رعاياه في تلك المناطق، أو صاحب سلطة عليا أو صلاحيات في البلاد خفيت عنا، ليس لأحد أن يحتج عليها، ورغم الاحتجاجات والتعليقات والمناشدات التي أعقبت كل تحرك لهذا السفير، فان دار لقمان بقيت على حالها، لا الحكومة التفتت الى نشاط السفير الفرنسي، ولا وزارة الخارجية عبرت عن إنشغال يريح النفوس، ويزيح اللبس عما ذهبت إليه المعارضة الوطنية، في اعتبار ما قام به ممثل فرنسا في بلادنا، تدخلا سافرا في شؤوننا. أما اليوم فقد بلغ السيل الزّبى، ولم يعد بالإمكان السكوت على ما يجري، من خرق وتجاوز وانتهاك لخصوصيات بلادنا السياسية، وتدخل أقلّ ما يقال عنه أنه سافر ووضيع، من شأنه أن يعرّض المسار الديمقراطي الذي دخلت فيه بلادنا، الى خطر التدخل بمجرياته والتأثير في آلياته، وحرفه عن وجهته الصحيحة، في بلوغ مستوى من الحرية، يسمح لنا بأن تكون لنا حكومة وبرلمان وهيئات منتخبة، نابعة من صلب الخيارات الشعبية، ودون تدخل من أحد مهما بلغت نسبة إدّعاء مودته لنا. إدانة حركة الشعب لزيارة المقيم العام الفرنسي، الى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، جاءت في وقتها، وصريحة فيما عبرت عنه، من انشغال بما أصبحت عليه بلادنا من تسيّب، مكّن جهات أجنبية من وضع أيديها على مفاصل البلاد، من أجل تثبيت مصالحها الانتهازية، دون اعتبار لمصلحتنا ولا لكرامتنا. وأعتقد أنّ كل وطني اليوم مطالب باتخاذ موقف صارم، يوقف تدخل الغرب، من شأنه أن يزيد من كشف عملائه ببلادنا، من أجل أن نضمن مزيدا من كشف وتعرية أدعياء الوطنية، وهم في واقعهم وحقيقتهم عملاء وبئس العملاء. حركة المقيم العام الفرنسي – ويحق لكل وطني غيور على بلاده ان يطلق عليه هذا اللقب – أصبحت تدعو أحرار تونس، إلى الوقوف في وجه عنجهية فرنسا، التي لا تزال تتعامل مع حكوماتنا السابقة واللاحقة، تعامل السيد للعبد، والولي للقاصر، كأنها تريد أن تثبت لنا بالملموس أن تاريخ زعيم حركتنا الوطنية مزيّف، وأن بورقيبة لم تسلمه فرنسا مقاليد البلاد، الا بعد ان رضخ لشروطها، هذا إذا سلمنا أنّ للرجل وطنية من أساسها، وكان منذ البداية عميلا فرنسيّا اخترق صفوف الحركة الوطنية، ونجح في كل مهامه التي قدّمت خيراتنا ومصالحنا لقمة سائغة في فم فرنسا، ولا يزال الأمر على ذلك النّحو، وما خفي كان أعظم. صمت الحكومة – إن كانت ترى اعتبارا لمصلحة الوطن- يجب أن لا يستمر، وعليها إتّخاذ مواقف تثبت براءتها مما جرى، لأنه بحق لا يشرّف بلدا خاض ثورة، ودخل في تجربة ديمقراطية، تعتبر فريدة من نوعها في عالم الثورات، اذا سلمت من برثن التدخل الفرنسي، وبقية عملاء الغرب من دول الخليج، التي بدأت ماكيناتهم تشتغل بقوة، لصالح عملاء دخلوا حلبة التنافس من أجل الامساك بمقود السلطة، ليس من اجل تونس، وانما من اجل السيطرة، وخدمة اجندات خارجية، لن تجر نفعا لتونس، وتبقيها دائما تحت دائرة الهيمنة الخارجية كان من المفترض أن لا تقبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، بجود السفير الفرنسي في مقرها، مهما كانت طريقة حضوره الى مقرها، بالإعلام المسبق، أم بالزيارة الفجئية، ولا أعتقد أن الاخيرة تعتبر من بروتوكول المقيم العام الفرنسي، الذي أصبح يتحرك بمنتهى الحرية، وبلا أدنى قيد، تماما كانه في فرنسا أو أفضل من ذلك. فأي ثورة وأيّ وطنية وأيّ نظام، يسمحون بان يحشر أجنبي أنفه في شؤوننا الوطنية، ويتمادى التدخل السافر اللئيم الى هذا الحد، الذي أصبح يهدد استقلالية الهيئة المستقلة للانتخابات، ويضع نقطة استفهام كبيرة عليها رئيسا وأعضاء، ولا غرابة بعد هذه الحادثة في ما قد يقال عنا، انحن مستقلون حقا؟ أم اننا مازلنا تحت الوصاية الفرنسية، اذا لم يكن استعمارا مبطنا بثورة ووطنية زائفين.
الوسومأوليفيي بوافر دارفور محمد الرصافي المقداد
شاهد أيضاً
الردّ على جرائم الكيان قادم لا محالة…بقلم محمد الرصافي المقداد
لم نعهد على ايران أن تخلف وعدا قطعته على نفسها أيّا كانت قيمته، السياسية أو …