الموقف الأمريكي الغربي المتجدد في كل مرّة، والقاضي بمواصلة السّيطرة على الدول الضعيفة تحت عناوين ومبررات مختلفة، والزج بها قسرا و تحيّلا في مشاريع تآمرية، كالشّرق الأوسط الجديد الذي تريد تثبيته، بإبقاء الكيان الصهيوني جاثما على أرض فلسطين، وكاتما لأنفاس الشعب الفلسطيني، مسيطرا على بقية شعوب المنطقة، مشروع هيمنة دائم هناك، لعدّة أسباب استراتيجية، أهمّها حراسة ومراقبة منابع الطاقة ( نفط وغاز)، المقدّرة بثلثي الإحتياط العالمي من هاتين المادتين الحيويّتين، بحيث يبقى التفوّق العسكري الصهيوني، ذراعه القويّة المتمركزة في المنطقة، وبالترويج الدعائي، أن جيشه يأتي في الترتيب، ضمن أقوى جيوش العالم، فقد هزم دولا عربية مجتمعة، فرضتها كواقع سياسات حكومات عميلة متواطئة مع امريكا ظهرت في أشكال متعدّدة، بدءًا بالمواجهة الأولى مع العدو الصهيوني سنة 1948، وانتهاء بالنكسة في حرب الأيّام الستة (حزيران 1967).
لكن دوام الحال في قضايا التحرّر الوطني من المحال، فبعد انتصار المقاومة اللبنانية، ممثلة بحزب الله، الذي قاد معارك بطولية ضارية في جنوب لبنان ضدّ العدوّ الصهيوني، من أجل تحريره من الإحتلال الصهيوني سنتي 2000 و 2006، تمكن فيهما من تعرية وكشف حقيقة الجيش الصهيوني، الذي جرت بأسهمه دعاية التهويل الغربيّة، وقد تحوّل من الجيش الذي لا يقهر، إلى حال أخرى من القهر والهزَيمة، فقد قهره رجال الله من حزبه النجيبُ، في تلك المعارك، خلّدها التاريخ بأحرف من العزّ والفخر، وفاجأت حقيقة الشرق والغرب، وأثلجت صدور قوم مؤمنين.
لقد أعطى تشكل محور المقاومة، في اطار كتلة مواجهة المخططات الإستعمارية في المنطقة، قوة مواجهة مكن عناصرها من الوقوف بندية في وجه القوة العسكرية الصهيونية، ومنازلتها في معارك كالتي وقعت في لبنان، وفي غزة حيث فشل الجيش الصهيوني في اقتحاماته المتكررة على غزة، وكان هدفه انهاء المقاومة هناك، فمني في كل مرة بالفشل وارتد على اعقابه خاسرا، وجاء طوفان الأقصى ليثبت مجددا أن مشروع المقاومة المسلحة هو السبيل الوحيد لاستعادة الأرض الفلسطينية، وأن الفلسطينيين قادرون على منازلة عدوهم وتكبيده خسائر فادحة، واحداث المفاجأة بهزم جيشه، وقد اثبت هذا الجيش أنه فاقد للشجاعة والرجولة ولا يملك شيئا من إنسانية، بقصف المدنيين وقتله الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى.
واليوم، عندما نشاهد تحركات المستوطنين ووقفاتهم الإحتجاجية – بعدما أسفر طوفان الأقصى على أسر أعداد من ضباطهم وجنودهم، بمختلف رتبهم العسكرية- الداعية إلى إجراء مفاوضات مع الفصائل الفلسطينية المقاومة في غزة، من أجل تبادل سريع للأسرى، خوفا من أن يسقطوا ضحايا زملائهم الجنود المفزوعين، والعائشين على أعصابهم في مواجهة حماس والجهاد – وهي تحركات واسعة النطاق، أربكت الداخل الصهيوني وقسّمت نسيجه بين معارض لاستمرار العدوان وموافق له، لكنه على أيّة حال بداية تصدّع داخلي لم يسبق له مثيل من قبلُ، ما تزال تداعياته متواصلة بمظاهر مختلفة، نذكر منها مغادرة أعداد لافتة من المستوطنين الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعودتهم النهائية من حيث جاؤوا إلى اوطانهم الحقيقية، قناعة منهم بأن بقاءهم هناك، أصبح غير آمن، وبالتالي فحياتهم بعد طوفان الأقصى على صفيح حامٍ من الخطر، وهذه الأوضاع الجديدة تُعْتَبَرٌ بشائر انقشاع هذا الكيان عن الأراضي الفلسطينية، بتفكك نسيجه الإجتماعي والسياسي والعسكري، تحت أيّ سبب ومُسمّى، فما بُنِي على باطل فهو بالنتيجة باطل وإلى زوال، وهكذا سيكون مصير الكيان الصهيوني.
لقد شكّل مسار حلّ الدولتين – الذي تورّطت فيه منظمة فتح، وافضى إلى تشكيل سلطة فلسطينية، هي إلى العمالة أقرب منها إلى أي شيء آخر- وصمة عار على من مضى فيه، وبعد تجربة تعيسة فيه، تبيّن أنّه استدراج غربي صهيوني، من أجل إعاقة المقاومة المسلّحة، وإنهاء شعبيّتها بين الفلسطينيين، لكنّ المؤامرة سرعان ما سقطت، بعد تورّط السلطة الفلسطينية في التعاون الأمني مع الجانب الصهيوني، وكانت الحملات الأمنية التي شنّتها قوات السلطة على عناصر المقاومة، بالتزامن مع اجتماعات قياداتها مع ضباط المخابرات الصهيوني، كافية لتقنع الشعب الفلسطيني تماما، بأن الخيار الوحيد المتبقي له هو المقاومة.
في استطلاع للرأي من الجانب الفلسطيني، تبيّن أن غالبیته تعارض حل الدولتین بنسبة (71% مقابل 28%)، وتعتقد بعد تجربة السلطة الفلسطينية، أن هذا الأمر غیر قابل للتحقیق، وقناعة الفلسطينيين أصبحت راسخة، في أن المقاومة المسلحة هي أفضل وسیلة لحلّ القضیة الفلسطینیة، ومن بين ال 28% هناك 21% منهم يأملون في تحقيق شيء من خلال المفاوضات السياسية، وفي استطلاع آخر أجري قبل طوفان الأقصى، في تقدير نسبة من يؤيّد من الفلسطينيين العمليات المسلحة داخل الكيان بمستوطناته، فكانت نتيجته تأييد 57% مقابل 38%، بما يعني أن غالبية راجحة من الشعب الفلسطيني، ذاهبة إلى العمل المسلح، بعدما أدارت ظهورها لأي مفاوضات قد ُسْتأنف بين سلطة عباس والمفاوضين الصهاينة، مهما بلغت مبلغها من الوعود.
إنّ ما حقّقه طوفان الأقصي من نتائج، ستبقى تداعياتها وتأثيرها من جانبين، الجانب الفلسطيني، حيث تنامى أمله في تحرير أرضه من الكيان الصهيوني، وظهر عندهم بأنّ الحرية والحقوق تؤخذ ولا تُعْطى، ومن أجل تحقيق ذلك لا بد من ثمن على قدر قيمة الإنجاز، ولن يروي الأرض المغتصبة غير الدماء والشهداء، ومن الجانب الصهيوني حيث أحدث زلزالا عنيفا بداخل مؤسساته، على مستوى هبوط معنويات المستوطنين، بقيت ارتداداته متواصلة، ما يعطينا انطباعا أوليّا وقناعة راسخة، بأنّ تفكك هذا الكيان الغاصب بدأ موسِمُ جني ثماره.
خمس وسبعون عاما مضت على احتلال فلسطين، وقيام دولة الكيان الصهيوني العنصري، بتواطئ بريطاني مفضوح، بداية من وعد بلفور وتسليح عصابات (الهاجانه) التي شكلت فيما بعد نواة الجيش الصهيوني، وبحماية أمريكية استلمت دور رعاية ودعم الكيان الغاصب، مع دول غربية أخرى، ومع مرور مؤامرات عديدة على القضية الفلسطينية آخرها حلّ الدولتين، ترسّخت عقيدة لدى أحرار الشعب الفلسطيني في أنّه يجب عليه أن يأخذ قضيته بيده، ويعمل على حلّها بنفسه في مقام أوّل، وظهر ذلك في شكل حركات مقاومة مسلحة تبنّت العمل المسلّح ضد الكيان، رافضة مسار أوسلو وحلّ الدولتين، على أساس أنه حلّ استسلامي سيفرّط في آخر حقوق الشعب الفلسطيني في ارضه وعزّته وكرامته، طوفان الأقصى قلب كل المعادلات رأسا على عقب، فاستطلاع الرأي اليوم فيما لو أجري لسبر آراء الشعب الفلسطيني، من المؤكد أن الغالبية الساحقة منه، ستكون رفدا للمقاومة، اقتناعا تاما من كافة شرائحه، أنها السبيل الوحيد لاستعادة الحقوق التاريخية للشعب في كامل أرضه، وقد وعى الفلسطينيون هذه الحقيقة، وهم اليوم بصدد الأخذ بها، والعمل على أساسها.