لا يمكن للعربي أينما كان أن يتذكر من تاريخ الاحتلال العثماني في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أي في آخر قرن من حكمه، سوى تسليم «الولايات العربية في شمال إفريقيا وشبه الجزيرة العربية» للاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي، وخذلان الشعوب العربية أمام هذا الاستعمار الذي احتل لقرن من الزمان معظم العالم العربي. «فدولة» السلطان العثماني تركت هذه الشعوب لوحدها تناضل بقدراتها الذاتية ضد غزو هذه القوى الاستعمارية الكبرى، ولم تقدم لها أي دعم أو مساندة، ففي عام 1820 بسطت بريطانيا سيطرتها على معظم مناطق شبه الجزيرة العربية باستثناء شمال اليمن.. وفي عام 1830 احتلت فرنسا الجزائر وفصلته عن «الدولة» العثمانية، ثم انتقلت إلى تونس، وبعد عقود إلى المغرب وسمحت لإيطاليا باحتلال ليبيا، ثم سمحت لبريطانيا عام 1882 باحتلال مصر والسودان. هذا ما تتذكره من الدولة العثمانية الشعوب العربية التي ناضلت لوحدها لكي تحرر نفسها من قوى الاستعمار قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها.
وفي هذه الأوقات يشهد عالمنا العربي جزءاً مهماً من محاولات يقوم بها أردوغان العثماني للسيطرة على العالم العربي بطريقة يعرض فيها «حمايته» المزعومة لهذه الدولة أو تلك بعد أن قدّم حمايته ودعمه للمجموعات الإرهابية في محاولة لتسهيل «سيطرة» مشروعه العثماني الجديد على سورية والعراق ولبنان ومصر، ولم ينجح. وها هو اليوم يتجه إلى ليبيا بعد أن سمحت له واشنطن وحلف «ناتو» بتسخير قطر وجزء من أموال غازها ونفطها لمصلحة هذا المشروع الوظيفي في خدمة مصالح الغرب، فقطر لا تملك أي قرار مستقل عن واشنطن وقاعدتها العسكرية الاستراتيجية الموجودة فيها، والكل يعرف أن التنافس الفرنسي والأميركي والبريطاني والإيطالي شق طرقه العسكرية والسياسية وتموضع في ليبيا منذ عام 2011 لتقاسم نفطها وموقعها الاستراتيجي المتوسطي وثرواتها الطبيعية وتقسيمها أيضاً، وما يجري من نزاعات مسلحة داخل ليبيا هو مجرد جزء من السيناريو الغربي. فهل يمكن لتركيا أردوغان أن تشكل تحدياً لهذه القوى أو فرض دور لمصلحته وحده بين هذه القوى.. وهل هناك حاجة أميركية تدعو إلى توظيفه في دور كهذا؟
يخطئ كثيراً من يعتقد أن أردوغان سيخرج عن خطوط السياسة الأميركية أو الأطلسية التي ما زال عضواً في ناديها الأطلسي والأميركي، كما يصعب الاعتقاد بأن تتخلى واشنطن والأطلسي ببساطة وسهولة عن قوة إقليمية مثل تركيا في منطقة صراعات من المتوقع احتدامها بين قوى متناقضة على مستوى إقليمي ودولي، بل إن هناك أطرافاً تعمل على توسيع بؤر هذه الصراعات أكثر فأكثر. وكانت مجلة «وور- زون» الأميركية المتخصصة بالمسائل العسكرية قد نشرت في 24 كانون أول الماضي تحليلاً عن حاجة واشنطن لتركيا، ذكر فيه جوزيف تريفيتشيك أن وزارة الدفاع الأميركية وقّعت قبل أيام عقدا بمئة مليون دولار مع شركات تركية لتحديث مواقع القواعد الجوية الأميركية في الأراضي التركية مدة خمس سنوات، وهذا ما يطرح شكوكاً حول مدى جدية ما أعلن من تهديد أميركي بفرض عقوبات اقتصادية على تركيا، وكانت قد وقعت عقوداً مماثلة في عام 2015.
بالإضافة إلى ذلك تلاحظ واشنطن أن طبيعة القوى الإقليمية الراهنة في الشرق الأوسط وهي أربع بنظرها: إيران وتركيا ومصر والكيان الصهيوني، تسود بين كل منها والأخرى تناقضات، بعضها استراتيجي وآخر تكتيكي، وتعد واشنطن وتل أبيب إيران أخطر واحدة من بينها على مصالحهما الاستراتيجية. ومن الطبيعي أن تعمل واشنطن على تعزيز الاعتماد على المراهنة على دور تل أبيب، وأنقرة تحديداً، في أي جهود سياسية أو عسكرية في المستقبل من أجل تحييد ما تشكله إيران وحلفاؤها من خطر داهم على مصالحها في المنطقة.
ويبدو أن تزايد التوتر بين القاهرة وأنقرة في أعقاب الاتفاق التركي البحري مع «حكومة الوفاق» الليبية وموافقة أردوغان على تقديم الحماية العسكرية لها من بقية الفرقاء في ليبيا سوف يحمل مضاعفات قريبة لكن هذا الدور التركي لن يلحق الضرر بمصالح واشنطن والغرب في تلك الساحة ناهيك عن أن تل أبيب ستفضل وجود دور تركي – قطري وظيفي متنفذ في ليبيا على أي دور مصري أو عربي عموماً، خصوصاً أن أردوغان وتميم ما زالا يشنان أكبر الحملات الإعلامية والتحريضية السياسية ضد القيادة المصرية منذ سقوط حكم محمد مرسي و(الإخوان المسلمين) في عام 2013.
لكن السؤال الأهم هو: هل سينجح أردوغان في مشروعه ضد ليبيا بعد الدلائل المتزايدة التي تؤكد هزيمة مشروعه ضد سورية والعراق؟.. إن هذا يتوقف على نضال الشعب الليبي ضد كل أشكال التدخل الخارجي العدواني من الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة مثلما يتوقف على أهمية اختيار الشعب الليبي وقواه الوطنية والقومية لحلفائه الحقيقيين من أجل استقلال ليبيا وسيادتها ودورها القومي، وليس من تسخرهم واشنطن لحماية مصالحها.