الجمهور الذي قاد التحرّكات وتعرّض لهراوات الامن والجيش ورصاصهما في سيدي بوزيد وتالة والقصرين وغيرها من الأرذلين والمفردة ترد في القرآن الكريم. الأرذلون تصنيف اجتماعي لعلّه يصادف مفردة المهمّشين الآن. شباب معطّل بين مثقّف وقليل ثقافة، جامعيون على التّماس، فقراء وسكّان أحياء متروكة لقدرها ودواخل تونسية بلا أفق منذ عقود طويلة.
هؤلاء رأس حربة ما كان وقدّموا لهروب بن علي وما نسمّيه سقوط النّظام الذي لم يسقط واقعا وتجربة. بعد هذه الموجة المؤثرة من الحراك التحقت شرائح أخرى في مناطق مختلفة وبعض الشرائح من المسيّسين والمثقفين وصولا الى مظاهرة 14 جانفي أمام وزارة الداخلية والتي حضرتها شخصيات حزبية لأخذ صور ضرورية واعتمادها لإدّعاء كلّ الوصل بليلى. يوم 14جانفي تراجع الأرذلون الذين لم يكن حراكهم محسوبا بالسياسةوالمواقع والمصالح وإنّما بحقوق لهم ضاعت وأحلام انكسرت. تقدّم من في عاداتهم وجيناتهم أنّهم يتقدّمون: النّخب الطامحة وأصحاب المصالح الباحثون عن التموقع في الأجواء الجديدة والمثقّفون والحقوقيون والقضاة وكلّهم لعنوا الإستبداد لعنا شديدا ولم يكن ذلك منهم، حقيقة، الّا لأنّ المُستبدّ لم يقاسمهم غنيمة ولم يفسح لهم مجالا.
ما كانت البطالة تعني لهم شيئا وما كان الفقر والتهميش يحرّكان لهم ساكنا. لذلك اجتهدواوهندسواوخطّطوا بعيدا عن هموم المهمومين. ثمّ إنّ الله سلّط على هؤلاء الإعزّة جماعة الخارج فتحرّك السفراء ونشط المبعوثون وعجّت السفارات بالمجتمعين. ذلك أنّ أعزّة التونسيين بأعين المتنفّذين الدوليين أرذلين ليس أكثر واذا كان الأرذلون الذين ضحوّا أصحاب عزّة فإنّ الأرذلين المركوبين استعمارا وصهيونية بلا كرامة ومن دون عزّة.
وثق الأرذلون في الأعزّة أحزابا وشخصيّات وزعامات ومشاريعا وأفكارا. قصدوا النهضة بداية فكان احباط أوّل ثمّ المرزوقي سنة 2014 وختاما حلّ ركبهم عند قيس سعيّد. هؤلاء جمهور لا يسأل عن علمانية وإسلام ولا يعنيه حديث اسهال في اليسار واليمين. جمهور يطلب الحدّ الأدنى من الحقوق ويريد رؤية حياته تتغيّر فيستبشر بالقادم. من الخسّة امتداح هذا الجمهور لأنّه أسقط بن علي وسمح بعودة المغتربين والمنفيين وحرّر المعتقلين ووفّر تأشيرات بالجملة لجمعيات وأحزاب وبعد حين سبّه لأنّه يقتنع يوما بعد يوم بأن لا أحد مستعدّ لخوض المعارك عنه. فرق بين خوض المعارك بهم وخوضها معهم وعنهم. قيس سعيد ليس النهضة وليس المرزوقي وليس من منظّري اليسار واليمين ولا تعني له السياسة شيئا ولا يعنيه ارتباط بنخب ولوبيات وقيس سعيد لا يخطّط لمعركة سياسة يستعمل فيها الناس ضدّ خصومه.
أمور الرّجل واضحة جدا، هو يتبنى الأرذلين ويخوض معركة معهم وعنهم لا بهم. ولقد فهم الأرذلون عنه هذا وخبروه وآمنوا بأنّه يختلف عن سابقيه وأنّ به صدقا لا يتوفّر لآخرين. دينامية قيس سعيّد ليست سياسية. هي بالنسبة له دينامية معنويّة رمزية وبالنسبة لأرذلين مراهنين عليه دينامية اجتماعية. تنشأ في العادة علاقة استثنائية بين الأرذلين والمراهنين عليهم بحقّ. هي علاقة متينة تعمّدها الآلام والمحن. ذلك أنّ الهامشي المهمّش يشعر عندما يكون رهان عليه أنّه قوّة التاريخ وبأسه. ملحمة الاسلام مرّت من هذه المحطّة المصيرية الفارقة وكذلك كان بمفترقات تاريخية عديدة وبمجتمعات وحقب متنوّعة.
تضطرّ السياقات قيس سعيّد الى التواصل مع متحزبين وساسة ومؤسّسات ولكن لا قيمة لهؤلاء بعينه . فاهم حدودهم وغاياتهم ويعلم عن ارتباطاتهم وترده أخبار تعليماتهم. يعلم أنّهم براغي ليس أكثر. تواصله حقّا مع الذين أتوا به الى قرطاج وينتظرون منه تحقيق عدل واحقاق حقّ. الطبقة السياسية التونسية بلا عمق اجتماعي وليست مهمومة بهموم المهمومين وحتى اليسار الذي اختصّ في الهموم جذبته الصالونات وبرع في التحامل على معتقدات النّاس ليس أكثر. أرى أنّ الطبقة السياسية التونسية زاهدة في المسألة الاجتماعية غارقة في مُتع ما تسمح به المواقع من غُنم.
ما كلّ مرّة تسلم الجرّة وعدد الأرذلين في ازدياد مخيف. الاستقطاب الفعلي في تونس اجتماعي بالدرجة الأولى وهذا سيُغرق الساسة والسّياسة. الله غالب ما يجب أن يكون سيكون. مبروك للنّهضة ونبيل ولكن أخشى أن تشنق محاكم الفقر الاثنين بذات الحبل. الفقر يؤمن ساعة ويصبر ويحتفي بكرنفال السّياسة ولكنه اذا كفر وهو كفّار يكفر دهرا.