هل فكرت يوماً في احتمال أن يكون كل شيء أخبرتك به وسائل الإعلام عن العالم من قبل مجرد كذب وافتراء؟ أنا متأكد من أن لديك، على الأقل في المدة الأخيرة، بعض شكوك بعدما أصبح جنون البروباغاندا الغربية واضحاً لا يكاد يخفى على أحد. لكن ماذا عن مدى التلقين الذي تعرضت له على أيدي وسائل الإعلام تلك عبر السنين؟
إذا كنت تعيش في أوروبا أو أميركا الشمالية، فما مدى تلوّث أفكارك بسبب كم الأكاذيب الهائل عن كوبا وفنزويلا وروسيا والصين وكوريا الشمالية، ونعم حول إيران أيضاً؟ هل أنت حالة ميؤوس في تخليصها من تلك السموم؟ إذا رأيت الحقيقة أو إذا واجهتك الحقيقة، فهل ستظل قادراً على إدراكها، أم ستعتبرها دعاية وأكاذيب لأنها تخالف ما تجرعته عبر السنين؟
لقد غادرت طهران للتو، وهي مدينة ذات تاريخ وثقافة هائلين، تفيض بالمتاحف والمسارح، وتعتني بشكل رائع بالمنتزهات العامة التي تنتشر فيها المنحوتات الفنية الحديثة، ولديها شبكة وسائل نقل عام حديثة ومدعومة بالكامل تتكون من مترو عالي التقنية وطرق حافلات صديقة للبيئة، وكذلك قطارات تربطها بالضواحي. فضاء حضري من أشجار شاهقة، وساحات هادئة، ومقاهٍ أنيقة، وأشخاص متعلمون ومثقفون للغاية.
طهران مدينة تستحق أن تكون بسهولة جزءاً من المدن «العشر الأولى» على وجه الأرض لولا أنها عاصمة لدولة يحاول الغرب أن يدّمرها بعقوبات جائرة ووحشية، وربما لاحقاً – لا ندري – بغزو عسكري مباشر. ماذا يعرف معظم الغربيين عن إيران؟ ما الذي قيل لهم عنها؟ أعتقد أن الصورة التي تريد وسائل الإعلام الجماهيري طرحها هي أنّ «إيران – دولة إسلامية راديكالية، نوع شيعي من السعودية»، أو ربما أسوأ من ذلك. والنفاق هنا فاضح، إذ إن مملكة آل سعود التي هي أقرب حليف عربي من لندن وواشنطن لا يمكن مسّها في الغرب، بغض النظر عن البربرية والإرهاب الذي تنشره في جميع أنحاء العالم.
أولئك الذين يعرفون كلاً من جدة وطهران سيضحكون بالطبع من هذه المقارنة. المملكة السعودية – وتابعتها مستعمرة البحرين – على رغم ثرائها من وراء تصدير النفط، تظل من أكثر المجتمعات المفتقدة للعدالة على وجه الأرض، حيث يختلط البؤس الشديد بمظاهر مبتذلة ومتطرفة من الثراء الباذخ. إيران في جوهرها كأنها بلد اشتراكي. إنها أممية، في تضامن تام مع العديد من الدول المضطهدة والمناضلة على كوكبنا. لا، أنا لا أتحدث عن سوريا أو اليمن أو فلسطين فقط؛ أنا أتحدث عن كوبا وفنزويلا، من بين آخرين كثيرين. لم تكن تعلم؟ هذا ليس مستغرباً؛ ليس من المفترض أن تعرف!
من المتوقع أيضاً ألا تعرف عن النظام الاجتماعي الإيراني. هو اشتراكي بشكل جليّ. التعليم المجاني والرّعاية الطبية المجانيّة، وخدمات النقل العام المدعومة والأنشطة الثقافيّة العامة، والفضاءات الحضريّة المفتوحة أمام المواطنين وحكومة مركزيّة قويّة تتبع ولو جزئياً نوعاً من تخطيط مركزي. على رغم كومة عقوبات ظالمة مفرطة القسوة، والضغوط التي تمارسها واشنطن وحلفاؤها، تبقى إيران شامخة، وتبذل غاية جهدها في رعاية شعبها. وعلى رغم المحنة الرهيبة التي يتعرض لها الإيرانيون، فإنهم بقوا شعباً لا يغش ولا يسرق. انهار سعر الصرف بعدما فرضت واشنطن جولة أخرى من العقوبات الغريبة على إيران، وهو أمر أثار الإحباط، وحتى بعض الاحتجاجات. لكن غالبية الإيرانيين يدركون تماماً من هو الجاني الحقيقي. ولا يخفى على أحد منهم حقيقة أن المعارضة المزعومة تتلقى تمويلها من الغرب.
لا يفهم معظم الزوّار أي شيء عن العملة المحلية أو أسعار الصرف، وأنا لم أكن استثناء في ذلك. أنا ببساطة أفتح لسائقي سيارات الأجرة أو النوادل محفظتي، وهم يأخذون ما هو مستحق. وقد أراجع ذلك مع زملائي الإيرانيين لأجد دائماً أن المبالغ التي أخذها أولئك الغرباء مني كانت عادلة. لا يظهر الإيرانيون متكبرين متعجرفين لكنهم شعب عنده كبرياء وتصميم وترفع وحس بالانتماء إلى أمة تتمتع بآلاف السنين من الثقافة العظيمة وتعرف جيداً أن تقف في الجانب الصحيح من التاريخ.
لا شكّ أنك سمعت الكثير عن إيران المتعصبّة دينياً؛ لكن على خلاف المملكة آل سعود أو إندونيسيا، لا يتم هنا رميك بالدّين في وجهك ولا يلوّح به كراية. في إيران الدّين هو شيء داخلي، عميق، يعبر عنه بتواضع ومن دون ضجيج. وبينما تبث مساجد جاكرتا خطباً كاملة، لساعات في اليوم باستخدام مكبرات صوت قويّة للغاية، ويلقى الناس في السجون بسبب انتقادهم هذا الفرض الوحشي للدين على عامة الناس، لم أكد أتمكن في طهران من سماع صوت الأذان، ومعظم نساء المدينة يغطين شعورهن بشكل رمزي: ثلث أو حتى ربع، ويتركن معظمه مكشوفاً.
الغرب بالتأكيد لن يفرض عقوبات على إندونيسيا أو يعاديها بأي طريقة بغض النظر عن مدى وحشيتها في إدارة شعبها. فقد دمر تحالف واشنطن، ولندن، وكانبيرا نظامها الاشتراكي بعد الانقلاب المدبر في الولايات المتحدة عام 1965. جاكرتا اليوم مجتمع مطيع خاضع، رأسمالي التوجه، مناهض للشيوعية، يعيش على وجبات الغرب السريعة والترفيه الفارغ. لم يعد هناك في جاكرتا أي ملكيّة عامة، إذ نهبت النخب البلاد بالكامل نيابة عن الغرب، ويوظّف الدين فيها لمنح الشرعيّة لنظام فاشستي تابع للغرب.
إيران هي عكس ذلك تماماً: ترجمتها للدين تقليدية، بمعنى كما كان قبل أن يتمكن الغرب من إفراغه من جوهره في أجزاء كثيرة من العالم. إنها دولة اشتراكية تتمتع بالعدالة والروحانيّة وأيضاً الرّوح الأمميّة. على عكس أماكن مثل جدة أو جاكرتا، حيث أصبح الخروج لتناول الطعام أعلى أشكال الحياة الثقافية (وغالباً الخيار الوحيد للتعرّف إلى المدينة)، تقدم طهران دور سينما تعرض أفلاماً عالية الجودة (الأفلام الإيرانية من أهم وأكثر الأعمال عمقاً فكرياً في العالم)، وعدداً كبيراً من المتاحف والمعارض ذات المستوى العالمي، والفضاءات الحضريّة العامة الشاسعة، بالإضافة إلى عدد كبير من المرافق العامة للرياضة والترفيه، بما في ذلك المتنزهات الجميلة والمعتنى بها برقيّ.
هل تريد التعلق بالحبال والتحليق من عل فوق وادٍ هائل جوار واحد من أعلى أبراج البث التلفزيوني في العالم؟ ذلك متوافر بسهولة في طهران. هل تريد مشاهدة أحدث الإنتاجات التلفزيونيّة والسينمائيّة الصينيّة؟ هناك قصر مثير للدّهشة يدعى متحف السينما يعرض أعمالاً لا تتوافر عادة في مدن الغرب. وإذا كنت تحسن شيئاً من الفارسيّة، فلم لا تشاهد أحد العروض المسرحيّة الكثيرة لتشيكوف مثلاً أو ربما لتينيسي ويليامز.
في طهران، إذا كنت تحب سيارتك فيمكنك بالطبع الجلوس في قلب ازدحام مروري خانق كما الحال في الرياض أو جاكرتا، ولكن يمكنك أيضاً التنقل عبر المدينة براحة وبكلفة رخيصة، على متن نظام المترو الحديث للغاية. ويمكنك كذلك المشي على الأرصفة الجميلة تحت أشجار طويلة تفصل الطرق عن ممرات المشاة.
ماذا كنت تريدني أن أخبرك أكثر عن طهران؟ إنك لا تستطيع النظر في عيون النساء الإيرانيات إذ يمكن عندها أن ترجم حتى الموت؟ ليس صحيحاً، فكل رجل يمسك بيد امرأة ويتنقل معها بأمان في كل مكان في طهران، والفتيات اللواتي يعانين من الإزعاج يصفعن وجوه رجالهن مزاحاً بل أحياناً بجدية! في أحد الأيام، حدثني السائق الذي أخذني من فندقي إلى استوديو «بريس تي في» التلفزيوني، بيأس: «الأوروبيون الذين يأتون إلى هنا، حتى للمرة الأولى لا يرغبون أبداً في التعلم. تخيّل أنهم يصلون إلى إيران للمرة الأولى، يهبطون في المطار، ويدخلون سيارتي، ومن فورهم يبدؤون الوعظ لتعليمي عن حال بلدي! جميعهم يأتون بذات الأفكار المسبّقة، مع ذات حزمة الانتقادات لإيران. حتى كأنهم لا يمتلكون الخيال للإتيان بأفكار متنوعة! كيف يمكن أن يطلق هؤلاء على أنفسهم دولاً ديموقراطية إذا كان الجميع يفكرون بذات الطريقة؟».
في طهران، تنوع الفكر مثير للإعجاب. مع زملائي ورفاقنا نناقش كل شيء من الحرب في يوغسلافيا إلى أميركا اللاتينية وبالطبع إيران نفسها. يريدون أن يعرفوا أكثر عن روسيا والصين. أحببت الذي رأيته وما قد سمعته منهم: عندما يكون الناس فضوليين ويحترمون الثقافات الأخرى، تلك دائماً بداية رائعة! إيران تنزف، تعاني، لكنها قوية. لا يتفق الجميع مع سياسات الحكومة هنا (على رغم أن معظمهم يدعمون حكومتهم)، لكن الجميع مصممون على القتال والدفاع عن بلده، إذا تمت مهاجمته عسكرياً أو بأي وسيلة أخرى.
كلما أتيت إلى هنا، أكاد أن أتجاوز حدود التهذيب وأصرخ بقرائي: تعالوا هنا وتعلموا شيئاً! إيران ليست مثالية، لكن هذا الذي هنا حقيقي: الحياة حقيقية وكذلك الناس. بفضل ثقافتهم وتاريخهم، يعرفون بطريقة أو بأخرى كيفية فصل الأحجار الكريمة عن الخردة، والأفكار النقية من البروبوغاندا والرأسمالية الوضيعة القاتلة من النضال الكبير من أجل عالم أفضل. إذا كنت لا تصدقني، فقط شاهد أفلامهم. تحفة تلو الأخرى.
ربما لهذا السبب يريد الغرب أن ينهك هذا البلد أولاً قبل أن يجلب لها الدمار. بالنسبة إلى الغرب، إيران «مصدر خطر». بالتأكيد فإيران تشكل خطراً، ربما مميتاً، على المنظومة الإمبريالية للعالم، تماماً مثل الصين، مثل روسيا، مثل كوبا وفنزويلا وسوريا وبوليفيا.
أقول لكم لن يكون من السهل تدمير إيران، بل قد يتبين لنا أنه أمر مستعصٍ أو مستحيل، فشعبها ذكي جداً وشديد العزم وقوي الشكيمة. كما أن إيران ليست وحدها. لديها العديد من الأصدقاء والرفاق. وحتى جيران إيران – تركيا وباكستان – يغيرون الآن اتجاهاتهم بشكل متسارع بعيداً عن الغرب.
لا تأخذوا كلامي على عواهنه. تعالوا بأنفسكم وانظروا واحكموا. وقبل أن تبدؤوا إلقاء المواعظ اسمحوا لأنفسكم بطرح الأسئلة، ثم التفضل بالجلوس والاستماع والتعلم! هذا البلد، أيها السادة، لديه أكثر من 7000 سنة من تاريخ عظيم. بدلاً من قصفها، فلنقرأ شعراءها، ولنشاهد أفلامها، ولنتعلم من موقفها الأممي الشجاع! وبعد ذلك، فقط، يمكن أن تقرروا، هل إيران حقاً عدو كما يخدعكم الإعلام الغربي، أم أنها رفيق نضال وصديق عزيز.
(ترجمة: سعيد محمد-جريدة الأخبار )
* مفكّر وأديب وصانع أفلام وثائقيّة وصحافي استقصائيّ غطى الحروب والصراعات في عشرات البلدان، وله مؤلفات عدة منها ما كان مشتركاً مع نوام تشومسكي. آخر كتبه «التفاؤل الثوري، والعدمية الغربية»، ورواية ثورية «أورورا»، لكن عمله الأكثر مبيعاً يبقى «فضح أكاذيب الإمبراطورية». له أيضاً وثائقيّات رائدة عن رواندا والكونغو وأفلام حواريّة مع تشومسكي «حول الإرهاب الغربي». تحقيقه عن طهران نشر أولاً في موقع New Eastern Outlook، وتنشره «الأخبار» باتفاق مع المؤلف