على الرغم من دعوة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس لوقف إطلاق النار في جميع النزاعات الدولية لمساعدة العالم في التغلب على أزمة تفشي فيروس كورونا، ألا أن ليبيا كانت في الأيام الأخيرة مسرحًا لقتال عنيف بين قوات حكومة الوفاق بقيادة فائز السراج وقوات شرق ليبيا التي تُسمى ايضا “الجيش الوطني الليبي” بقيادة الجنرال حفتر ومؤيديه الدوليين.
حفتر، الذي كان يأمل في توسيع نفوذه في ليبيا باستخدام الإنشغال العالمي، وخاصة جيران ليبيا، في محاربة فيروس كورونا المستجد، الا أنه لم يفشل فقط من إحراز تقدم في العمليات العسكرية المستمرة، بل أن قواته عانت من أكبر هزيمة عسكرية لها منذ سنوات، حيث تمكنت حكومة الوفاق الوطني من بسط سيطرتها على جميع المدن الساحلية غرب العاصمة إلى الحدود التونسية.
كما نفذت القوات الحكومية في ليبيا وحلفاؤها، وخاصة المسلحين بقيادة تركيا، هجومًا مفاجئًا الأسبوع الماضي، تم خلاله الاستيلاء على صبراتة وصرمان والعجيلات والجميل ورقدالين وفي النهاية زلطن من سيطرة قوات حفتر.
فشل آمال فتح طرابلس
منذ أن شن الجيش الوطني الليبي هجومه على العاصمة في أبريل 2019، تمكن في بعض الأحيان من التقدم الى مشارف أبواب العاصمة وكانت لهم اليد العليا في المعركة، لدرجة أن حفتر كان يرفض مطالب حكومة السراج بوقف إطلاق وإجراء مفاوضات أو لم يكن لديه نية جادة للتحرك في اتجاه اتفاق سياسي بعدما كان واثقا من الدعم المالي والعسكري من حكومات مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر وروسيا. ومع ذلك، فقد أظهرت الهزائم الأخيرة أنه وحلفائه أخطأوا في تقديراتهم حول القوة العسكرية لطرابلس وحلفائها.
يبدو أن حفتر قد بنى حساباته العسكرية بناءً على خبرته في محاربة المسلحين في شرق ليبيا، حيث تمكن من خلال قمع المسلحين المرتبطين بالقبائل المحلية، الضغط على المسلحين عن طريق محاصرتهم والسيطرة بالتالي على بنغازي ودرنة باعتبارهما يمثلان منطقة الهلال النفطي في ليبيا. وبفضل الدعم العسكري والمالي والسياسي الواسع النطاق لدولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر، وإنشاء تحالفات قبلية إقليمية، استطاع حفتر من السيطرة على بعض المناطق مثل منطقة الهلال النفطي.
لكن المشهد العسكري في طرابلس كان مختلفًا، حيث تمكنت القوات الحكومية في العاصمة وضواحيها من توحيد صفوف الجيش والمسلحين، ومقاومة هجمات حفتر، ثم التحول من مواقع دفاعية إلى مواقع هجومية.
وخلال المعارك، تلقى حفتر صدمة مفاجئة عندما تمكن فائز السراج من توسيع نفوذه في ست مدن رئيسية في غرب ليبيا. المدن التي كان يسيطر عليها حفتر سابقاً تشمل صبراتة، صرمان، العجيلات، الجميل، رقدالين وزلطن. تقع جميع هذه المدن على طول الساحل الغربي الذي يربط طرابلس بالحدود التونسية على مسافة حوالي 150 كم.
ومن الناحية الاقتصادية، يمكن أن يؤدي نجاح السيطرة على هذه المناطق إلى رفع جميع العقبات أمام التجارة مع تونس وإعادتها إلى وضعها الطبيعي، أي ما قبل هجوم القوات الموالية لحفتر في يناير 2019. وهذا يقلل من الضغوط الاقتصادية التي تواجهها حكومة الوفاق الوطني بقيادة سراج، خاصة بعد تخفيض صادرات النفط الخام من موانئ البريقة، ورأس لانوف، والحريقة، والزويتينة، والسدرة في شرق البلاد. .
وعلى الرغم من أن قوات طرابلس لم تحصل على الدعم الدولي الذي حصل عليه حفتر، إلا أنها تمكنت من تعويض هذه الفجوة من خلال إقامة تحالفات سياسية وعسكرية مع القوات القَبَلية في المنطقة، حتى يتمكنوا من صد الهجوم على طرابلس بمساعدة تركيا. ففي 2 يناير 2020، وافق البرلمان التركي على نشر القوات في ليبيا، ثم وقعت أنقرة وحكومة السراج مذكرة تفاهم لإنشاء مناطق مراقبة بحرية في البحر الأبيض المتوسط، وكذلك اتفاقية تعاون أمني. وعززت هذه الخطوة قدرة حكومة الوفاق الوطني على حماية العاصمة وتبرير الوجود العسكري التركي.
لكن من جهة، كان بإمكان تركيا أن تنشر قواتها في ليبيا بطلب رسمي من حكومة السراج الشرعية دوليًا، ومن جهة أخرى كان باستطاعتها زيادة وجودها العسكري لزيادة دعم حكومة السراج تحت ذريعة حماية مصالحها في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ذلك الوقت إن دعم أنقرة لطرابلس سيجعل من الممكن استعادة التوازن بين القوات التي تنوب عن دولة الإمارات العربية المتحدة والقوات المدعومة من قبل مصر.
ومن المؤكد أن التحول في ساحة المعركة، حدث عندما ضاعفت حكومة الوفاق الوطني بمساعدة تركيا، قوتها الجوية، حيث لعبت وحدة الطائرات بدون طيار التركية دورًا مهمًا في ذلك، ومن ناحية أخرى، هناك دلائل تشير الى وجود تدخلات للمقاتلات الجوية التركية.
اذ أعلنت اليونان يوم الثلاثاء أن سلاحها الجوي رصد الطائرات العسكرية التركية التي كانت في طريقها إلى ليبيا، مضيفة أن 16 طائرة إف 16 على الأقل كانت في طريقها إلى تركيا يوم الجمعة. وبعد ذلك بساعات، أعلنت وزارة الدفاع التركية في بيان أن القوات المسلحة التركية أجرت مناورات جوية وبحرية غير معلنة في شرق البحر الأبيض المتوسط، البيان الذي يمكن الشك في أنه حقيقي.
وفي اليوم التالي للمناورات العسكرية التركية في شرق البحر الأبيض المتوسط، اتخذت حكومة السراج خطوة استراتيجية مهمة حول الحرب من خلال إعداد دورية للسيطرة على مدينة ترهونة، حيث تُعد مركز التنسيق للعمليات ضد طرابلس.
من المؤكد أن النجاحات التي حققتها حكومة طرابلس والقوات المسلحة المتحالفة معها تشكل ضربة قوية لطموحات حفتر العسكرية للسيطرة على العاصمة، كما أنها ضربة قوية لحلفائه الإقليميين، لأن قوات الجيش الوطني الليبي كانوا لقد سيطروا على كميات كبيرة من الأسلحة. فمن الطبيعي أن تزيد الذخائر والمعدات والمركبات المدرعة التي أرسلتها الإمارات العربية إلى حفتر القدرة العسكرية لطرابلس، وسيكون لها تأثير سلبي على إشراك الآلاف من المرتزقة، مثل شركة واغنر الأمنية الروسية وعناصر من قوة الدعم السريع السودانية بقيادة محمد حمدان داغالو المعروف باسم حامد تي. وقد دفع الخوف من الهزيمة الكاملة، الطلب من حميد تي إرسال المزيد من القوات إلى ليبيا خلال اليوم الماضي حتى من قبل الإمارات العربية المتحدة.
ظهور شرارات الأمل في انهيار الجهود الدولية لوقف إطلاق النار
خلال العام الماضي، فشلت جميع الجهود الدبلوماسية بدعم من الأمم المتحدة في ليبيا لتنفيذ وقف إطلاق النار. كما فشل مؤتمر برلين، الذي عقد في يناير 2020، على الرغم من اجتماع الدول المنتفعة والمؤثرة في التطورات، ورغم التوصل الى إتفاق حول حل سياسي سلمي لإنهاء الحرب واحترام قرار حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة، لكن لم يتم تنفيذ الاتفاق المتفق عليه بشكل صحيح وبالتالي عدم التوصل الى حل للأزمة الليبية.
ولم تلتزم هذه الدول بتعهداتها حول وقف إرسال الأسلحة إلى ليبيا، ونتيجة لذلك، أعلن الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا غسان سلامة استقالته في 2 مارس 2020 في تغريدة له على تويتر، الأمر الذي يشير الى أن عملية السلام في ليبيا باتت صعبة أكثر من أي وقت مضى.
ويرجع معظم هذا الفشل إلى الانقسامات العميقة بين الأوروبيين، والتي أدت إلى عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على تبني سياسة موحدة بشأن التطورات الليبية. حيث كان لتضارب المصالح، وخاصة بين فرنسا وإيطاليا، تأثير كبير على ديناميكيات الحرب الأهلية الليبية. اذ بالنسبة لإيطاليا، فإن ليبيا ليست مجرد مستعمرة تاريخية ذات علاقات ثنائية طويلة الأمد، ولكنها أيضًا منطقة جغرافية استراتيجية واقتصادية لا يمكن التخلي عنها. كما تعتبر إيطاليا ليبيا حجر الزاوية لأمنها القومي، خاصة في حالة الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر.
ولدى فرنسا بدورها مصالح استراتيجية مهمة في ليبيا، تتراوح بين محاربة التطرف والهجرة غير الشرعية إلى ضمان المصالح الاقتصادية والنفطية.
ومن المؤكد يمكن أن يكون للتطورات الأخيرة في ليبيا تأثير عميق على مستقبل البلاد، لكن اذا ما أخفق الخليفة حفتر، فقد يكون ذلك بداية إنتهاء حرب مدعومة بشكل كبير من الدول الأجنبية.
ويمكن اعتبار هذا نجاحًا كبيرًا لحكومة الوفاق الوطنية، وربما بالطبع تغييرًا في مسار الصراع، لأن السيطرة على طرابلس هي الهدف النهائي لحفتر وحلفائه. وقد يكون فقدان هذا الهدف، فرصة للعودة إلى محاولة إيجاد حل سياسي، وهو خيار رفضه الخليفة حفتر وحلفاؤه باستمرار، معتمدين على الثقة في قدرتهم على حل النزاعات بالقوة. ويبدو أن نتائج المعارك الأخيرة قد تدفعهم إلى إعادة النظر في استراتيجيتهم لغزو طرابلس واتخاذ خطوة نحو حل سلمي.
(الوقت)