بقلم الدكتور بهيج سكاكيني |
كما كان متوقعا قام رئيس الوزراء اللبناني بتقديم استقالة حكومته وبهذا تم ما ارادته الطغمة الاقطاعية والطاغوت المالي وعملت عليه منذ بداية تكوين هذه الحكومة التي اطلق عليها حكومة التكنوقراط والتي وضعت في أولوياتها محاربة الفساد المالي بالدرجة الاولى. كلمة جوهرية ذكرها رئيس الوزراء حسان دياب في كلمته التي انتهت بتقديم الاستقالة الجماعية وهي أنه تبين لحكومته أن ” الفساد أكبر من الدولة ” وهذا في تقدير المتواضع يلخص ما يمكننا ان نطلق عليه وبثقة “جائحة لبنان”.
فبمقاربة ما نستطيع القول ان الفساد وفيروس كورونا على ما يبدو متشابهين جينيا ويصعب القضاء عليهما وكما حذر كبار العلماء المختصين بعلم الفيروسات أن على الدول لا بل والعالم بأكمله التعايش مع فيروس الكورونا لسنوات قادمة لانه باق معنا وبيننا يلازمنا كظلنا لعدم توفر علاج او لقاح له فإن المقاربة تقول أن على لبنان التعايش مع الطغمة الاقطاعية والاوليغراكية الفاسدة لسنوات قادمة وأن هذا هو شرط “المجتمع الدولي” كما أوضحه مندوب الولايات المتحدة الى لبنان السيد ماكرون. وكما ان الفيروس يتحور جينيا ليأخذ اشكالا مختلفة ظاهريا الا انه يحافظ على جوهره وقدرته على إحداث الاذى فنحن لن نستغرب إذا ما قامت هذه الطغمة بتغيير جلدها مثل الافعى وتتمحور مثل الفيروس لاعطاء الانطباع الخارجي انها استوعبت الدرس والرسالة التي أراد المتظاهريين السلميين إيصالها انه طفح الكيل.
حكومة رئيس الوزراء المستقيل الان تحولت الى حكومة تصريف أعمال بمعنى ان هذه الحكومة قانونيا لا تستطيع ان تقوم بأخذ قرارات صغيرة كانت او كبيرة. وهذا يعني ان البلد سيعيش في حالة فراغ سياسي في الوقت الذي هو بأمس الحاجة الى حكومة فاعلة تستطيع ان تعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد الفاجعة الكبرى التي ألمت في بيروت خاصة وفي لبنان عامة.
والتاريخ السياسي في لبنان وخاصة في السنوات الاخيرة بما يخص تأليف الحكومات لا يبشر بالخير ولا يعطي الانطباع على أن الحكومة ستتشكل في القريب العاجل. ويكفي ان نشير الى ان في ظرف سنتين من العهد هذه ثاني حكومة تستقيل فقد سبق وأن قام سعد الحريري بتقديم استقالته في آواخر العام الماضي على اثر المظاهرات الشعبية التي إندلعت في بيروت وغيرها من المدن الرئيسية في لبنان نتيجة تردي الاوضاع المعيشية والاقتصادية في البلد. وكانت إحدى أهم مطالب المتظاهرين تكوين حكومة من التكنوقراط ومكافحة الفساد المالي والإداري المتفشي في مؤسسات الدولة.
وعلى اثر استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري آنذاك تعهد الرئيس ميشيل عون بتشكيل حكومة جديدة يتم فيها إختيار الوزراء وفقا للكفاءة والخبرة وليس وفق الولاءات السياسية والطائفية والمذهبية. ووعد يتحويل لبنان الى دولة مدنية بعيدا عن النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية وهو النظام الذي خلفه المستعمر الفرنسي قبل الخروج من لبنان واستقلاله. وأكد عون على إيمانه ” بضرورة الانتقال من النظام الطائفي السائد الى الدولة المدنية العصرية حيث الانتماء الاول هو للوطن وليس لزعماء الطوائف”.
والذي يبدو الان ومن قراءة المشهد اللبناني ومنذ مجىء حكومة دياب الذي جوبهت بعداء منذ البداية من قبل الطغمة الاقطاعية والطاغوت المالي الضالع في الفساد والمهيمن على المفاصل الرئيسية للدولة وجميع مؤسساتها والتي أدت في النهاية الى تقديم استقالتها أن هنالك فجوة كبيرة بين الامنيات والواقع على الارض وأنه بالرغم من نضوج الظروف الموضوعية لعملية التغيير الا أن الظروف الذاتية – وعادة ما تكون العكس الا في الحالة اللبنانية فهي نشاز- لم تنضج بعد لتحقيق هذه القفزة النوعية وتغيير النظام السياسي القائم السائد منذ “استقلال” لبنان والمتضمن في الدستور الذي وضعه المستعمر الفرنسي.
الطبقة السياسية الحاكمة والعائلات الاقطاعية بأحزابها ومكوناتها ما زالت متمترسة في مواضعها وترفض التخلي عن مكتسباتها والامتيازات التي حصلت عليها وورثتها أب عن جد من عهد الاستعمار التركي والفرنسي وستدافع عن هذه المكتسبات والامتيازات بكل ما تملك من قوة تصل الى الدعوة المباشرة بعودة الاحتلال الفرنسي. وفي المقابل فإن الحراك الشعبي الذي كان يعول عليه وخاصة في بداياته عندما كان نقيا وعابرا للطوائف والمذاهب والمناطقية والعبودية المطلقة للعائلات الاقطاعية والطغمة السياسية فقد تم إختراقه وحرفه عن مساره النقي بإستخدام أبواق الفتنة وزرع المخاوف والإستخدام المكثف للمال السياسي العفن. ومع إفتقار الحراك لقيادة لا بل ورفض البعض ومن داخله لرفض أن ينبثق منه قيادة سياسية لتمثله في مطالبه المحقة فقد هذا الحراك الزخم الشعبي وتفسخ وأصبح هنالك أكثر من حراك وسيطرت عليه المناطقية والتحزب والتمترس الفئوي وبهذا نستطيع ان نقول ان الطغمة السياسية الفاسدة كسبت الجولة بإضعاف العامل الذاتي مما أدى الى ان تكتسب وتطغى على التظاهرات والتحركات طابع الفوضى والتي عمد بعض المتظاهرين من خلالها الإخلال بالأمن والتعدي على الممتلكات العامة والخاصة. وللأسف هذا الطابع طغى على قدسية التحركات والطابع الحضاري والانساني الذي رأينا بعض منه من قبل الشباب والشابات وخاصة بعد الانفجار واللذين تراكضوا على بيروت لمساعدة المنكوبين بشتى السبل.
خلاصة القول أن الطغمة المالية والسياسية الفاسدة والعائلات الاقطاعية التي ظهر انها خرجت من الباب ستعود من الشباك وربما بموقع أقوى من الأول بعد نجاحها بإسقاط الحكومة وسيعود ابيها الروحي الذي اضطر لتقديم استقالته سابقا في العام الماضي تحت وطأة التحركات الشعبية المطلبية سيعود الى رأس هرم الحكومة تحت شعار” الوحدة الوطنية” و “التوازن الطائفي والمذهبي”. والسؤال الذي يبقى عالقا ماذا سيكون موقف الشعب اللبناني وخاصة الجزء من الحراك الشعبي الذي لم يتلوث بعد بالطائفية والحزبية والمال السياسي؟