مع تعنت إثيوبيا في مفاوضات سد النهضة والتي تديرها مصر بصبر شديد رغم كل المحاولات المستفزة التي تحاول دفع مصر نحو الخيار العسكري, إلا أن المفاوض المصري يتصف في إدارته لهذا الملف الخطير الذي يمس الأمن القومي المصري بشكل مباشر بسياسة النفس الطويل, وضبط الأعصاب إلى أقصى درجة ممكنة, سواء على مستوي الخطاب السياسي أو على مستوى القرار السياسي, فقد قررت القاهرة الذهاب بالمفاوضات السياسية إلى كل الجهات الإقليمية والدولية المعنية بالأمر, فكانت الولايات المتحدة الأمريكية طرفاً رئيسياً في المفاوضات في إحدى مراحلها, ثم مجلس الأمن في مرحلة تالية, وأخيراً الاتحاد الإفريقي, هذا بخلاف المفاوضات المباشرة سواء الثنائية مع إثيوبيا أو الثلاثية مع إثيوبيا والسودان.
وعلى الرغم من فشل كل الجولات السابقة وفي ظل إصرار إثيوبيا على السير في استكمال بناء السد وملئه بشكل منفرد ومن دون التوقيع على اتفاق دولي ملزم, ومع تعالي الأصوات بضرورة ضرب مصر للسد, ولعل الصوت الأبرز في هذا الإطار كان صوت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي صرح قبل الانتخابات الرئاسية بأيام أن مصر “ستضطر في النهاية إلى ضرب وتدمير السد”, في ظل استمرار تعنت إثيوبيا وإصرارها على إفشال المفاوضات, وقوبل التصريح حينها باستنفار إثيوبي حيث قام آبي أحمد رئيس الوزراء باستدعاء السفير الأمريكي ومطالبته بتقديم تفسير لهذا التصريح, وأعرب أنه “لن يقبل بأي اعتداءات من أي نوع, وأنه لا توجد قوة يمكنها منع إثيوبيا من تحقيق أهدافها”, وعلى الرغم من محاولات التحريض واستمرار التعنت الإثيوبي إلا أن مصر لازالت تحتفظ بهدوء الأعصاب في إدارة هذا الملف الذي يعد أخطر ملفات الأمن القومي المصري, وتؤكد أنها لن تفقد الأمل في الوصول لحل سياسي ودبلوماسي للأزمة بعيداً عن أي خيار عسكري.
وقبل أيام وفي ظل فشل الجولة الأخيرة من المفاوضات اندلع صراع داخلي في إثيوبيا حيث قام رئيس الوزراء آبي أحمد بتوجيه ضربات جوية مع إرسال قوات إلى إقليم تيغراي, بعد أن اتهم الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بشن هجوم على قاعدة عسكرية, وكانت تطورات الأحداث قد بدأت في الإقليم بعد رفض جبهة التحرير قرار رئيس الوزراء بتأجيل الانتخابات في الإقليم بسبب تفشي وباء كورونا, وتمت بالفعل الانتخابات في أيلول الماضي، واعتبر آبي أحمد التصويت غير قانوني, ولم يعترف بنتيجة الانتخابات وقام بحل حكومة الائتلاف وتشكيل حكومة مؤقتة, وعندما رفضت الجبهة هذه القرارات الصادرة من الحكومة الاتحادية, قرر آبي أحمد البدء بعملية عسكرية لسحق مجلس الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي الذي يدير الإقليم, والذي يشارك في الائتلاف الحاكم منذ الإطاحة بالإمبراطور هيلا سيلاسي عام 1991 وحتى وصول آبي أحمد للحكم عام 2018.
حيث كانت الجبهة تتمتع بنفوذ كبير في الحكم, فقام آبي أحمد بتهميش دورها وقمع سكان الإقليم وممارسة التمييز ضدهم, ويشكل سكان تيغراي 6% من سكان إثيوبيا, والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي تتكون من عدة أحزاب إقليمية ذات طبيعة عرقية, والإقليم قريب من الحدود السودانية والأريترية, وتمتلك الجبهة خبرة كبيرة في القتال نتيجة مشاركاتها في الحرب الحدودية التي استمرت سنوات بين إثيوبيا وجارتها أريتريا, وتسيطر الجبهة على القيادة الشمالية للجيش الإثيوبي الذي يتكون من أربع جبهات, وتقدر المليشيات المحلية في إقليم تيغراي بنحو 250 ألف جندي, وهو ما يشكل خطراً على انقسام الجيش الإثيوبي الذي يتشكل على أسس عرقية, وأعلنت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عن عبور 32 ألف إثيوبي إلى السودان -حتى الجمعة الماضية- هرباً من النزاع المسلح الدائر بين حكومة آبي أحمد والسلطات المحلية في إقليم تيغراي, مع تأكيدها أن العدد سيصل إلى 200 ألف خلال أيام قليلة لأن اللاجئين الذين يعبرون يومياً يقدرون بنحو خمسة آلاف شخص.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل تؤثر الحرب الأهلية المندلعة الآن بالداخل الإثيوبي على مسار مفاوضات سد النهضة؟
والإجابة بالطبع نعم فالحرب الأهلية الدائرة الآن قد ينتج عنها انفصال للأقاليم عن الدولة الفيدرالية, حيث يحدد الدستور الإثيوبي طريقة انفصال كل إقليم، ومن بين إجراءات الانفصال إجراء الانتخابات داخل الإقليم بشكل مستقل عن الحكومة الفيدرالية وهو ما قام به إقليم تيغراي, وقد يلحق بهم إقليم أمورمو نظراً للاحتقان الشديد داخله بسبب سياسات آبي أحمد, وبعدهما يأتي إقليم بني شنقول وهو الإقليم الذي يقع في أراضيه سد النهضة, فاستمرار آبي أحمد في استخدام الحل العسكري لاحتواء أزمات الأقاليم سيدفعها إلى التمرد والسعي للانفصال عن الدولة الفيدرالية وإعلان استقلالها.
وهنا نجد أنفسنا أمام سيناريوين لا ثالث لهما، الأول إذا تمكن إقليم بني شنقول من الانفصال وهو إقليم تمتد أرضه للسودان وأغلب قياداته تقيم خارج إثيوبيا وهم بالأصل يرفضون فكرة بناء السد, هذا إلى جانب أنه إقليم فقير في موارده, فالانفصال أو عودة الإقليم للسودان يعني توقف بناء السد, أما إذا ظل الإقليم تابعاً للحكومة الفيدرالية في إثيوبيا وظل آبي أحمد في عناده واستمر في الحرب في إقليمي تيعراي وأمورمو فإن الأموال الموجهة لبناء السد ستتجه لتمويل الحرب، وهنا سيتوقف بناء السد.
وعلى الرغم من هذين السيناريوهين إلا أن مصر يجب أن لا تعول فقط على سيناريوهات توقف بناء السد تلقائياً بفعل الحرب الأهلية في إثيوبيا بل السعي للوصول لحل سياسي عبر كل الوسائل المتاحة إقليمياً ودولياً.. اللهم بلغت اللهم فاشهد.
كاتب من مصر
Tags اثيوبيا سد النهضة محمد سيد أحمد
Check Also
إجبار المحتل الأمريكي على الانسحاب من سورية !!…بقلم د. محمد سيد أحمد
بات العالم أجمع على يقين من أن أميركا هي الراعي الرسمي للإرهاب.. والضربات التي تستهدف …