يقول سمير أمين في كتابه «مئتا عام على ولادة ماركس»: “تواجه شعوب القارات الثلاث -آسيا، إفريقيا، أميركا اللاتينية- اليوم مشروعاً توسعياً للنظام الإمبريالي يُوصف بالنظام النيوليبرالي المعولم، الذي لا يعدو كونه تطويراً لأبارتهايد على صعيد عالمي.. فهل يمكن تحدي النظام الإمبريالي الجديد؟”
هذا السؤال الذي طرحه أمين قبل عصر الـ«كورونا» كان فيه شيئاً من “نبوءة”، عن شكل العالم اليوم. الدول الفقيرة تعاني من المرض والحصار وتقطع السبل، و”السيد” الرأسمالي الأبيض يمارس سطوته على الشعوب فيفرض العقوبات، ويسعّر الحروب، ويعلن، من دون خجل، أن حياته أهم من حياة بقية البشر، وأنه القادر، بالثروات التي نهبها من الشعوب، على احتكار أي علاج أو لقاح يُنتج في العالم، ليستفيد منه مواطنوه أولاً، ثم يلقي بالفتات إلى شعوب العالم.
«الأبارتهايد العالمي» يرى حياة السوري والإيراني والفنزويلي والفلسطيني، “لا تستحق العناء”، بل ولا حتى تطبيق معاييره الإنسانية الكاذبة. يحتج هذا النظام على خرق حقوق إنسان واحد في بلاده، كما حدث في الجريمة الوحشية التي ارتكبت ضد المواطن الأسود جورج فلويد، والتي يمكن أن تكلف ترامب موقع الرئاسة، لكننا لم نسمع يوماً عن رئيس أو رئيس وزراء في دولة غربية كاد يخسر موقعه بسبب مئات آلاف المدنيين الأبرياء، الذين قضوا بقصفهم وتشريدهم واحتلال دولهم واغتيال زعمائهم، بل إن خوض الحروب وإزهاق أرواح الأبرياء، تعتبر وسيلة لكسب الشعبية في الدول الغربية، إذ تحمل مجرميها إلى أعلى المواقع في مجتمعاتهم وتصنع منهم “أبطالاً ونجوماً”. فالديمقراطية وحقوق الإنسان “لا تليق إلا بالأبيض الغربي”!
يُمعن هذا النظام العالمي في سياسة الفصل العنصري، فيفرض الحصار على الشعوب داخل أوطانها. فإذا ما صمدت وتصدت للحصار، يفرض عليها العقوبات التي تطال أساسيات حياتها. ما الفرق بين أن تمنع عن شعب التقنية كما تفعل الولايات المتحدة اليوم بحق سورية وإيران وفنزويلا، وبين ما كان يفعله نظام الفصل العنصري «الأبارتهايد» في جنوب إفريقيا عندما كان يحرم غير البيض من التعليم والعلاج الضروريين؟
عندما تمنع شعباً من حركة النقل الجوي، وتحاصر موانئه البحرية، من أين سيأتي بالغذاء والدواء ومستلزمات الصناعة والزراعة وبقية المواد الأولية التي تحتاجها الحياة الاقتصادية.. بماذا يختلف هذا السلوك عن المجازر الجماعية التي ارتكبها نظام “الأبارتهايد” في جنوب إفريقيا ضد المواطنين الأفارقة؟
الاختلاف الوحيد يكمن في مدى الوقاحة التي وصل إليها النظام الرأسمالي العالمي، عندما يغلف مجازره بغلاف الديمقراطية البيضاء الكاذبة.
يكثر الحديث اليوم عن الأزمة، في سورية ولبنان والعراق والأردن، لكن معظم المتحدثين يغرفون من وعاء النظام الرأسمالي نفسه. لا يكاد يخلو مقال من تصريح أو تلميح يتهم الدول والحركات الوطنية “بالمسؤولية عن الأزمة”، تارة من بوابة الفساد، وأخرى التقصير، مع طرح حلول فردية قاصرة عن تقديم حل جذري حقيقي للأزمة. على الرغم من وجود الكثير أو القليل من الحق فيما يُكتب أو يُقال، إلا أنه كثيراً ما يكون حقاً يُراد به باطل.
لو عقدنا مقارنة بسيطة بين ما يُكتب عن تحميل سياسات الدول الخاضعة للعقوبات المسؤولية، وبين تلك التي تُحمل المجرم الحقيقي المتمثل بالغرب الاستعماري المسؤولية، لمالت الكفة نحو الأول. بل إن هذا الأول يعتبر ما يكتبه دليل على انتمائه “لمعارضة وطنية» وكأنه يقدم أوراق اعتماده للمجرم، معلناً شيئاً من التأييد، وبعضاً من التفهم، لعله يحصل على بعض فتات المؤتمرات والمنصّات.
المجرم الوحيد هو «نظام الأبارتهايد العالمي» بكل صوره وتلاوينه. حتى لو لعب دور “المحايد” كما يفعل الاتحاد الأوروبي، فالرد على حرمان سورية وإيران وفنزويلا من القدرة على استيراد التجهيزات الطبية لمواجهة وباء كورونا، لا يكون بالإعلان أن القرار أميركي وليس أوروبياً، ولكن بكسر “العقوبات” وتقديم التسهيلات لمساعدة هذه الدول على الحصول على احتياجاتها.
بإمكاننا هزيمة النظام الإمبريالي الجديد، بأن نسلك الطريق المعاكس لمشروعه. فإذا كان طريقه يعتمد على الفصل بين الشعوب، فطريقنا هي وحدة الضحايا في وجه الجلاد.
في وجه «الأبارتهايد العالمي» لا يوجد خيار إلا وحدة أحرار وكادحي العالم. تعديل اقتصاديات هذه الوحدة لتتوقف عن الاعتماد على الدولار، فيكون الاستيراد والتصدير بالعملات المحلية، أو بنظام المبادلة.. عقد المعاهدات الجمركية التي تلغي التعرفة الجمركية على البضائع البينية وترفعها على البضائع المستوردة من الدول الغربية.. إعادة ترتيب الأولويات الاقتصادية بما يتناسب مع مواجهة الغول الاقتصادي الغربي، فالسماح باستيراد السيارات الحديثة، والألبسة من دور الأزياء الشهيرة، والانخراط في بازارات شراء اللاعبين في الرياضات المختلفة بأثمان خيالية، ورفع علم الوطن عالياً في بطولة تكلف الملايين، ليست دليلاً على التطور أو الانفتاح، أو تحقيق التقدم المنشود.
نهزم الإمبريالية عندما نتوقف عن تقليدها، في حياتنا السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. نهزمها عندما نكون أنفسنا، نفتخر بما تنجزه عقولنا وأيدينا اليوم، دون الاتكاء على ماضينا، أو التهاون بشأن مستقبلنا.. نهزمها عندما يتطابق وعينا مع واقعنا فينتج الأدوات التي تساعدنا على الارتقاء بهذا الواقع.
كاتب من الأردن