” آش تفهم منو انت؟ “
لطالما استمعنا لهذه الكلمات و نحن صغارا في مقتبل العمر ممن يكبرنا سنا عندما نحاول فهم أو معرفة شيء ما يصعب شرحه لصغار السن في كل المجالات، خاصة التي يحرّمها الدين أو تتعارض مع الأخلاق السائدة في المجتمع. خلنا أننا لما كبرنا قد أصبحنا نفهم كل شيء حتى استفقنا هذه الأيام في بلادنا على تردّد هذه الكلمات على ألسن الفاسدين كلما أشعرناهم أننا اكتشفنا فسادهم. هل هي وسيلة للدفاع عن فسادهم؟ هل هي ازدراء لنا لأننا ضحايا فسادهم و لا حول و لا قوة لنا في مواجهته؟ هل يحاولون تضليلنا؟
الغريب في الأمر أنها نفس الكلمات يرددها الفاسدون، كأنهم درسوها في نفس المدرسة، في عدة لغات و في عدة بلدان من العالم. لكن لنبقى في هذه الرقعة الصغيرة من حيث المساحة و عدد السكان و البؤرة الشاسعة و العميقة للفساد، بلادنا التونسية.
لن نحلل هذه الكلمات من منطلق الباحثين في الألسنية أو في علم النفس أو في علم الاجتماع، بل من منطلق معاناتنا من هذا الفساد لسنوات في صمت و قرارنا مقاومة الفساد بكل الوسائل المتاحة حتى و لو اقتصرت عن القلم.
عندما ينطق الفاسد بهذه الكلمات، عادة يكون مرتبكا لثقته المهزوزة بالمنظومة الفاسدة التي ينتمي إليها، رغم أنها دائرة مغلقة، لكن الفاسدين لا يثق أيّ عنصر منهم بالآخرين. رغم ذلك الارتباك عادة ما ينطق الفاسد بتلك الكلمات بتعال و ازدراء أمام ضحية فساده التي لا يمكن لها استغلال تلك الكلمات كدليل على تعرضها لذلك الفساد. كما تحمل تلك الكلمات نوعا من التشفي و الاستهزاء و تشعر الضحية بصعوبة إثبات ذلك الفساد و تحبط عزيمته في التتبع القانوني للفاسد الذي يحتمي بالمنظومة الفاسدة من حوله.
يعتقد هؤلاء الفاسدين أن ضحايا الفساد عاجزون عن كشف كل خبايا و خيوط شبكة الفساد المعقدة التي تلتفّ حول الضحية و يعتقدون أن تلك الكلمات تزيد في حيرتها و تيهها و استصغار ذاتها و تؤدي لاستسلامها في النهاية.
الخطير أيضا في منظومة الفساد أن الفاسد عندما يشهر هذه الكلمات في وجه ضحية الفساد يشعر أنه يعلن انتصاره عليها و أنه سيواصل فساده دون حسيب أو رقيب، اعتقادا منه أن الضحية لا تزال تجهل فك خيوط شبكة الفساد التي تحميه.
لعلكم لمستم من خلال هذا التحليل البسيط أننا لم نتطرق إلا للفساد المكشوف الذي يتعمّد مقترفوه الجهر به لثقتهم في غياب المحاسبة في بلد عماده الفساد. لعلكم تعتقدون أيضا أن الفساد الخفي هو أكثر خطورة لأنه يحقق أهدافا و مكاسب هامة للفاسدين دون الكشف عنه. أقول لكم بكل أسف أن الفساد المكشوف الذي يتشدق به مقترفوه هو أخطر بكثير لأنه يحتقرنا جميعا و يحفل لعجزنا عن مقاومته رغم معرفتنا بكل خيوط شبكته.
و هنا نكون قد وصلنا إلى معضلة هذا البلد في مقاومة الفساد: غياب المحاسبة لكل من يتجاوز القانون و يتلاعب بمصائر الناس و يحبط عزائمهم و ينهب المال العام… هذا النوع الأخير من الفساد خاصة، أعتبره أكبر كبائر الفساد في نظري. أقسى عقوبة يتعرض إليها من ينهب المال العام، إعفاؤه من الوظيفة التي كان يشغلها (تقاعد مبكر) مع المحافظة على كل امتيازاته لما بعد الوظيفة. هذا التمشي الأرعن لا يشجع إلا على مزيد نهب المال العام، لأن الفاسد يعي جيدا أن أقسى عقوبة تنتظره هي التقاعد المبكر.
هل تعلمون التعلات التي يقدمها أصحاب القرار بعد الكشف عن نهب المال العام:”لا داعي لفضح فلان لأنه عائل لزوجة و صغار”. لا يعلم هؤلاء أنهم بذلك يقترفون جرما في حق كل العائلات و يؤبدون الفساد في هذه البلاد. لذلك سأثبت لمن يقول “آش تفهم منو انت؟” أن نهايته ستكون وشيكة في هذا البلد، كلما صدحت كل ضحية للفساد بصوتها لتعلمه أننا “نفهمو منو و نهايتك قريبة” لو طبق القانون و امتثل الجميع إليه…