د. مصباح الشيباني |
عندما أدركت الحكومة التوّنسية أنّها أخفقت في كل ما وعدت به، وأنّ أجنحتها انكسرت، بدأت تهيئ المناخات الفكرية والإعلامية والنفسية والاقتصادية، وتُجنّد كل زبائنها وعصبياتها من أجل إحكام قبضتها على المجتمع في محاولة للظّفر بشرعيّة باتت مفقودة.
إنّ اختزال السّلطة السياسية في هيكل الحكومة لا يُساعدنا على معرفة دقيقة بمنظومة مختلف أشكالها وروافدها التي تُسقى منها للحفاظ على هيبتها ولإقناع خصومها بشرعيتها؛ فلكل سلطة سياسية قرابينها ومناسِكها وأقنعتها حتى يكون الجمهور مقتنعا وملتزما بمخاضات سياساتها التلفيقية وشرعيتها القانونية الاستبدادية.
لهذا، يجب علينا أن نعرف محدّدات النظام السياسي في الدولة ومتغيراتها التي تشرّع بها السلطة الحاكمة هيمنتها على مؤسسات المجتمع وأهمّها المؤسّسة التشريعية. هذه السّلطة التي تحكم فعلا تظل على الرّغم من معرفتنا بها، من أكثر المسائل ضبابية وابهاما على المستوى الظاهر. فلم تعد المجموعات السّياسية وهياكلها أو مؤسّساتها الرسمية هي “فضاؤها” والتي تتقيد بها وتمارس من خلالها فعلها . فتنظيم عالم السلطة اليوم، أكثر من أي زمن مضى، أصبح عالما أكثر تداخلا وترابطا وارتهانا للفاعلين من خارجها. وهذه السلطة تكون أكثر فاعلية ( على مستوى الديمومة ) إذا كانت خبيئة مستورة وغير مرئية، أي إذا كانت عصية على التحليل فلا نكتشف مواضع قوتها الحقيقية إلا ما ندر، لأنها أصبحت تعزز غلبتها بالتحكم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي أكثر من استعمالها للقوة أو للاكراه المادي في مستوى الفاعلية. لقد تحولت إلى “سلطة كوربورتية”( السلطة غير المحدودة في الإثراء الذاتي)، وإلى شكل من أشكال “اللّصوصية” والسّرقة للشعب و للوطن. هذه السّلطة التي لها وحدها تحديد مكافآتها وهي تمارس أرقى أشكال الاحتيال النّاعم على شعبها. تحولت إلى لصوصية للدّولة أي استحوذت على جميع مؤسّساتها ومجالسها النيابية وهيئاتها الدستورية.
أما الأقنعة التي ترتديها هذه السّلطة لكنز “المال السّياسي” فهي كثيرة ودوائرها متعدّد:
أولا: قناع الشّرعية الانتخابية: علينا أن ننتبه إلى خطورة التّضليل والتجريد المطلق لمفهوم أو قناع”الشّرعية الانتخابية” وغيرها من المفاهيم الذي باتت تمارسه السلطة وتستنجد به في كل أزمة تشعر فيها أنها فقدت شرعيتها الحقيقية وهي شرعية الايفاء بوعودها وتحمل مسؤولياتها أمام الشّعب.
إنّ أغلب الفقهاء في القانون والعلوم السياسية وفي الفكر يدركون أنّ “الشرعية الانتخابية” لم ولن تعبّر عن “سيادة الشعب” طالما أنّها لم تحرّره من أشكال الاسعباد والاستبعاد، وطالما أنها لم تتأسس من خلال الممارسة الديمقراطية اليومية، أمّا استنساخ المقاربة “الليبرالية” في الشّرعية السياسية القائمة على حشد الجموع واختزالها في الانتخابات الشّكلية، فإنّها لن تنتج سوى نسق من الولاءات السياسية القائمة على منطق الزبائنية وآليات السّوق؛ نسق ” العبودية الإرادية” للسّلطة الحاكمة في الدّولة.
ومن أهم مظاهر المغالطات التي تميز بها الخطاب السياسي الرّسمي في تونس منذ 2011، هي التّأكيد على البعد الشّكلي لشرعية السّلطة والتغاضي عن أبعادها الجوهرية؛ وهي المغالطة التي اعتمدت المقاربة الانتخابية والقانونية “التجزيئية” لمسألة الديمقراطية وسيادة الشعب وغيرها من المعايير المحدّدة للمواطنة. فـ”االشرعية الانتخابية” هي صفة شكلية لتأسيس الحكم أو النظام السياسي في الدولة وليست غايته. والديمقراطية الحقيقية لا تنحصر في الانتخابات مهما كانت نزيهة وشفافة(لا توجد انتخابات ديمقراطية في العالم)، كما أنّها ليست مجرّد ” حكم أغلبية” أو نتيجة لـ”طواطئية حزبية” بل هي أولا وقبل كل شيئ وسيلة لتمثيل الشعب وخدمة الشأن العام؛ أي أنَ آلية الانتخاب ــ على الرّغم من أهميتها الاجرائية ــ لن تعبّر وحدها، حتى في “أرقى الأنظمة الديمقراطية” في العالم ، عن “سيادة الشعب” إذا لم تصبح فيها مؤسّسات هذه الدولة وهياكلها التشريعية خاضعة للمراقبة ومسؤولة أمام الشعب ومعبّرة فعلا عما يريده.
لقد تحوّل قناع “الشرعية الانتخابية” في تونس إلى أداة لتقييد سلطة الشعب عبر ممثليه، وحلّت السّيادة البرلمانية محلّها، وسُلبت القرارات التشريعية من نسبتها إلى المواطنين. وباسم” الشرعية الانتخابات” تنكّر “نواب السّلطة” إلى ناخبيهم و”حررّوا” أصحاب النّفوذ المالي والاقتصادي من أية رقابة أو مساءلة قانونية. فكانت نتيجتها النّهائية إعادة بناء دولة “النظام الشّمولي” تحت غطاء الشرعية الانتخابية والنظام الديمقراطي. فتحولت “الشرعية الانتخابية” إلى “عقيدة” سياسية معادية للدّيمقراطية ولمصلحة الشعب.
فهل يمكن أن تختزل “الشّرعية الانتخابية” في فكرة دون فعل أو في شعارات دون انجازات، أوفي تمثيليات وهياكل منتخبة غير وفية لشعبها ؟
ثانيا:الأقنعة القانونية(التشريعية): نعتقد أنّ السّيولة القانونية التي باتت تمتلكها هذه السّلطة غنية عن البيان والتحليل؛ و”المذابح القانونية” التي تعرّض لها الشعب التونسي منذ 2011 كثيرة، ولم تكن يوما من أجل تحقيق عدل أو انصاف أو رفع مظلمة عنه، ولم تكن أيضا من أجل استعادة كرامة وطن ظلت سيادته مسلوبة، بل كانت كلها من أجل تبرئة الفاسدين والمستبدين ــ القدامى منهم والجدد ــ من تهمة التسبّب في محنة بلد. لقد بنت الحكومات المتعاقبة شرعيتها الحقيقية على سياسة التواطؤ بين الأضداد، والتواطؤ على الخطأ، وفتاوى الأهواء والارتجالية والنزوات الحزبية والشخصية أحيانا. كل ذلك من أجل إقناع الجمهور وجلب المطاوعة بالمشيئة وليس بالخوف لها.
ولاسترداد السّلطة الحاكمة “الكوكتال” “هيبتها” وشرعيتها المفقودة، أمطرتنا بحزمة من القوانين “المائعة” أحيانا، والغامضة والسّالبة للحريات الفردية والجماعية دائمًا، من أجل فرض واقع “المصالحة السّافلة” وتقنين الفساد ومأسسته وتطبيع حياة النّاس مع واقع الفقر والتهميش. وكان آخر هذه القوانين المصادقة على قانون الميزانية لعام 2019 وما كان قبله من قوانين ظالمة وسالبة لإرادة الشعب لعل أهمّها ما سمي زورا بـ “قانون المصالحة الادارية” وغيره.
لقد شرّعت هذه السّلطة، لذاتها ومن أجل ذاتها، الحق لكل شبكات الفساد (حكومة الظل) التي أصبحت تتحكم في مؤسّسات الدولة( المالية والإعلامية والاقتصادية والأمنية) من أن تجعل من الشعب “رعية كالغنم درًا وطاعةً، وكالكلاب تذبّلاً وتملّقاً”، فأصبح في بلادنا، كل شيء مباحا ومسموحا وكل شيئ شرعيا، إلا ما يحفظ سيادة الوطن أو يدافع عن كرامة الشعب أو يطالب بحقوقه، فإنّها مازالت من الكبائر والمحرّمات. نعتقد أنّنا وصلنا إلى السّاعة الحرجة التي بلغ فيها الباطل والنّفاق السياسي ذروة قوّته، وبلغ فيها الحقّ والصّدق في القول أقصى محنته، فتحوّل المشهد السّياسي إلى فوضى وتخريب مقصود للوطن وللشّعب، وتحولت بلادنا إلى مرتع للصهاينة والمستعمرين وإلى”أرض السّافلين”.
ثالثا: القناع الإعلامي: يقوم الإعلام بدور أساسي في تكوين الرّأي العام حول مختلف القضايا الوطنية والدولية. وفي ظلّ منظومة “الاستبداد النّاعم” يستخدم، بمختلف أشكاله، لصناعة الواقع وضبط ديناميكية المجتمع في مختلف الأبعاد السياسية والثقافية والاجتماعية. ونتيجة تطوره واكتساحه مختلف الفضاءات الخاصة والعامة، بات يشكل أهم أداة للسّيطرة والتحكم عبر ما يبّثه من صور وما يصنعه من برامج وما يضعه من “أغلال” نفسية ومعنوية ومعرفية في رقاب المشاهدين والمستمعين حتى لا يكون في وسعهم سوى تصديق ما تراه أعينهم من مشاهد وأحداث سياسية، والتعامل معها من خلال “العقائد العمياء”. فالقناع الإعلامي اليوم، يشكل أهمّ الرّوافد السلطوية الذي ترتسم عبره الحدود بين المسموح التفكير فيه وغير المسموح به، والحدود بين العقلاني واللاعقلاني، والحدود بين الحق والباطل وهو الذي يتحكم في بناء صورة المشهد ونحتها في مخيال المجتمع التونسي.
فما يشاهده المواطن في البرامج التلفزيونية أو ما يستمع إليه عبر الإذاعات وغيرها التي تقوم على الترويج والإشارة أو “اليَنْبغِيّات” التي تنهض على معارف مظلّلة تعبر عن “الأنوميا السياسية” التي تعاني منها السّلطة في تونس، وتشكّل أخطر أدوات شرْعنة الاستيلاء على السّلطة ( المادية والرمزية) وحكم المجتمع بـ”التغّلب” أحيانا وبـ”التقنّع” أحيانا أخرى طالما أنّ مشروعيتها التأسيسية أصبحت مهتزّة.، لأنه كلما ازداد ابتعاد المجتمع عن الحقيقة، كلما ازدادت كراهيّته لمن يتحدثون بها أو يدافعون عنها. كما أنّ عدم فهم النّاس بالسياسة يحدث ألمًا أشدّ من ألم الاستبداد ذاته، لأنّه في هذه الحالة لن تجد كلمة الحق منهم آذانا صاغية، ولا عقلا فاهمًا ومدركا لأوتار المظلمة؛ فيتطبّع هؤلاء على الكنود والخنوع للوبيات الفساد، وتصبح كل أشكال “البذاءات” والخيانات المحرّمة والاعتداءات على “المقدّسات” (سيادة الوطن) باسم “الشّرعية الانتخابية” ممكنة.
فهؤلاء الحكام وممثليهم في ما يسمى “مجلس الشّعب” هم أصل المشكلة لأنهم رعاة الفساد وحماته في بلادنا، فأصبحوا مثل المرض الذي يصيب أحدا لا ينتعش إلا بإضعاف جسده، ناسين أن الشّعوب مهما مرضت لابد أنّها ستتعافى وتُشْفى وتنهض، وأنّ التّاريخ سِجالٌ، وأنّ دوام الحَالِ من المُحالِ.