منذ تأسيس الجامعة التونسية وارتباطها بمجال البحث العلمي ونحن نسمع عن تخصيص ميزانية للبحث العلمي في بداية كل سنة مالية ضمن ميزانية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ويخصص لها كاتب دولة للبحث العلمي يهتم بإدارة شؤونه، على غرار الدول الرائدة في البحث العلمي في العالم المتقدم كاليابان وكوريا الجنوبية وبلدان أوروبا الغربية… ظاهريا يبدو هذا التوجه سليما ومنطقيا، لكن هل تساءلتم يوما عن إنتاجاتنا العلمية التي استفاد منها إقتصادنا ومجتمعنا، باستثناء بعض الروبوتات التي تظهر هنا وهناك، خاصة في فترة الأزمات، كل قطعها لم تصنع في تونس وحتى مخططاتها أجنبية. الأكيد أنكم تتساءلون أيضا أين تصرف تلك الأموال المخصصة للبحث العلمي.
فيما تصرف أموال “البحث العلمي”؟
رغم درايتي المحدودة بهذا الموضوع لكني حاولت أن أعرف وجهة تلك الأموال فاكتشفت أن جلها يصرف على ما يسمونه “مخابر البحث” التي يتولى تكوينها عادة بعض الأساتذة القدماء ويجمعون حولهم بعض المقربين منهم من العائلة والأصدقاء ليتقاسموا غنيمة هذه المخابر التي تصرف في السفرات خالصة التأشيرة والنقل والإقامة لأعضاء المخبر نحو الخارج بدعوى أنهم يشاركون في مؤتمرات علمية دولية لم نستخلص يوما أثرها العلمي على أي عوض منه. كما تقوم هذه المخابر وجل المؤسسات الجامعية بصرف أموال هامة بدون رقيب أو حسيب في تنظيم ملتقيات علمية داخل البلاد لا طائل منها أيضا، بل ربما يستفيد الأساتذة الأجانب الوافدين أكثر من تلك الملتقيات عندما يأخذون العبر من الفساد ومن أخطاء البحث العلمي التي نعاني منها. كما تصرف تلك الأموال أيضا في نشر بعض المجلات “العلمية” التي يتحكم فيها بعض الأساتذة الفاسدين (سأعود لهذه المسألة لاحقا) لتبقى أكواما ورقية مهملة على الرفوف ولا تكون حتى مرجعا للطلبة لرداءة ما ينشر بها من مقالات. للتذكير أيضا تتولى المخابر سيئة الذكر أيضا نشر ذلك النوع من المجلات.
حتى الآن يبدو الفساد ماليا فقط. الفساد الأعظم فيما سبق ذكره هو أن ما تم صرفه من أموال طائلة على الملتقيات العلمية المحلية والدولية لا قيمة له في تكوين الأستاذ الباحث وفي سيرته الذاتية وتبعا لذلك في ترقيته العلمية والمهنية، هذا ما تقرّه بعض اللجان الفاسدة في مناظرات ترقية الأساتذة الباحثين، في المقابل تقرّ هذه اللجان بنجاح كل مترشح لتلك المناظرات منخرط أو مشارك في تلك المخابر سيئة الذكر دون أن يكون له أي نشاط أو إنتاج علمي. هل يوجد فساد مزدوج على هذه الشاكلة في أي بلد في العالم؟
على وزارة التعليم العالي تشديد الرقابة على صرف تلك الأموال وحوكمة إدارة المخابر واستبعاد الأساتذة الفاسدين منها وصرف تلك الأموال على تجهيز تلك المخابر ومحاسبتها الدورية على إنتاجاتها العلمية، حتى لا يذهب المال العام في سياحة الأساتذة الفاسدين في الخارج…
الأستاذ “الباحث” مدرس رديء وباحث فاشل
لعل الجميع لا يعلم أن المتحصل على شهادة الدكتوراه حاليا أو الماجستير سابقا يلج التعليم العالي للتدريس بعد المناظرة التي ذكرنا فسادها في مقال سابق، دون أن يتلقى أي تكوين بيداغوجي أو أي نوع من التكوين الذي يجعله قادرا على إيصال المعلومة إلى طلبته، باستثناء المترشحين الذين درّسوا لسنوات طويلة بالتعليم الثانوي قبل الانتهاء من إعداد أطروحة الدكتوراه. نخلص بالقول أن الأستاذ “الباحث” الذي ينجح في المناظرات بطرق ملتوية سيكون مدرسا رديئا وباحثا فاشلا للأسباب التي سبق ذكرها في الأعلى.
كما أصبح يروج في السنوات الأخيرة في الأوساط الجامعية أن سبب “تكدّس” حاملي شهادة الدكتوراه الذين أصبحوا يعدّون بالآلاف، بعد أن كانوا يعدون على أصابع اليد الواحدة، يعود إلى عمايات فساد ممنهجة في تقييم الأطروحات وإسناد شهادات الدكتوراه لمن هب ودب. لكن هب أن تلك الشهادات سليمة “جدا” وأن هؤلاء لهم حق الانتداب للتدريس بالجامعة، كيف تقرر وزارة التعليم العالي انتداب 250 حاملا لشهادة الدكتوراه خلال السنة الجامعية 2020-2021 في رتبة أستاذ مساعد مباشرة والحال أن المئات من الأساتذة الباحثين المباشرين للتدريس منذ سنوات بالجامعة لا يزالون في رتبة مساعدين وهم حاملين لشهادة الدكتوراه أيضا لكنهم ضحايا للجان الترقية الفاسدة؟
منظومة الفساد و”مجلة الحظ”
عودا إلى صرف أموال البحث العلمي في نشر المجلات “العلمية“، سأذكر لكم نوعا من الفساد الذي ينخر إختصاص الجغرافيا (الذي أنتمي إليه) في هذا المجال: يعلم الجميع أن هذا الإختصاص أصبح يدرس في عدة جامعات موزعة على كامل التراب الوطني ويتقدم كل سنة عدد كبير من مدرسيه لمختلف مناظرات الترقية أمام لجنة معينة غير منتخبة عكس ما يقرّه القانون (3 من 5 أعضاء ينتخبهم الأساتذة الباحثون). عند تقديم المترشحين لملفات ترشحهم لمختلف تلك المناظرات وحتى يضمنوا النجاح وجب أن يكونوا قد نشروا ولو مقالا يتيما في “المجلة التونسية للجغرافيا“. بدون ذلك المقال لا أمل لأي مترشح النجاح في المناظرة، حتى ولو كان قد شارك في أهم الملتقيات العلمية المحلية والدولية، التي تصرف من أجلها جل ميزانية البحث العلمي كما ذكرنا سابقا، وأصدر مقالات في أهم المجلات المتخصصة في العالم ونشر كتبا في أشهر دور النشر العالمية الأجنبية ودرّس لسنوات في الجامعة… لذلك أطلقت عليها تسمية “مجلة الحظ“. من المؤكد أنكم تتساءلون ومن يمنع الأساتذة الباحثين من النشر في “مجلة الحظ“. الإجابة ستكون بسيطة لكنها صادمة. المنظومة الفاسدة التي تتحكم في تعيين لجان الترقية هي نفسها التي تتحكم في نشر المقالات بالمجلة، في الاتجاهين، أي أن مكونات هذه المنظومة تتبادل الأدوار والمواقع. أفسر لكم التبادل حتى أكون أكثر وضوحا. من يحظى من المترشحين برضا أحد أعضاء لجنة الترقية يتدخل لدى المكلف بالنشر في المجلة ليقبل نشر مقال المترشح حتى لو كان رديئا ويعده بأن يردّ له الجميل عندما يتبادلان المراكز في منظومة مغلقة وفاسدة، حسب القولة السحرية المأثورة “عديلي ونعديلك“.
عن أي بحث علمي تتحدثون في مناخ فاسد تحكمه المحاباة والجهويات والرشوة وسوء الحوكمة في منظومة يعمل الجميع للمحافظة عليها لأنها تضمن لهم استمرار نفوذهم للتحكم في مصائر النخبة. هذه الكلمة التي أصبحنا نخجل من ذكرها بعد أن عملت على استشراء الفساد حتى في مجالات كنا نخالها متعففة عنه. يجب أن نقاوم الفساد من القمة قبل القاعدة…