عندما أقول أنني بدأت تساورني شكوك تزداد عمقا وتأكيدا من مقالة الرئيس قيس سعيد عندما قال في مناظرته لوجه من وجوه المافيا في تونس، أن التطبيع خيانة عظمى، ثم ما لبثت كلماته أن تلاشت تماما، أما عمليات التطبيع التي تمّت أمام أنظار السلطة ولا أعتقد أن الرئيس قيس سعيد غير مطّلع عليها، ولا ارى لتلك الحجة مبرّرا يدعوه إلى عدم اتخاذ أي قرار من شأنه أن يجسّد مقالته الشهيرة التي توّج بها حملته الانتخابية وكان لها صدى واسع النطاق أعطاه مزيدا من الزخم الشعبي ليحمله على جناح الفوز السّاحق على منافسه المافيوزي.
ومن خطوات التطبيع الأولى لأكاديميين واعلاميين وفنانين تونسيين، انتقل الوباء في عهد الرئيس قيس إلى الرياضة في محاولة لجعله أمرا واقعا، خصوصا مع الضغط القانوني الأولمبي الذي يعاقب بشدّة كل من يرفض اللعب ضد منافس صهيوني، وجاء تهكّم الإعلامي الصهيوني (إيدي كوهين) من تصريحات رئيس الجمهورية قيس سعيّد عندما قال “إن التعامل مع الاحتلال الصهيوني خيانة عظمى” . وكتب ” وين قيس سعيّد قال التطبيع خيانة عظمى ههه ثاني نهج تطبيعي خلال أسبوع واحد فقط بعد آرون كوهين الصهيوني الذي لعب في قلب تونس الخضراء، الاتحاد الرياضي التونسي يلعب رسمياً مع دولة إسرائيل ..)(1)
فضمن منافسات كأس الإتحاد الدّولي لكرة المضرب (Fed Cup 2020) في (هلسينكي) في (فنلندا). قبلت اللاعبة التونسية أنس جابر اللعب ضد اللاعبة الإسرائيليّة فلادا كاتيك، كما لعبت زميلتها شيراز بشري في مواجهة اللاعبة الإسرائيليّة (لينا غلوشكو)، ثم لعبتا معا مباراة ثنائية ضد الثنائي الإسرائيليّ ضمن البطولة نفسها، وهذا مؤشّر خطير، دلّ على الوهن الحاصل في تطبيق شعار التطبيع خيانة عظمى، ليظهر في صورته الحالية، مجرّد كلمة اقتضتها مناظرة سباق الرئاسة التلفزي، أو بدواع عاطفة سكنت في مشاعر الرئيس قيس، ويبدو أنها لم تجد طريقا للتنفيذ.
وقد دفعت مشاركة اللعبتين التونسيتين في تلك الدّورة، وزارة الشؤون الخارجيّة لإصدار بيانٍ نُشِر عبر صفحتها في فيسبوك، جاء فيه “تؤكّد وزارة الشؤون الخارجية أنّ أيّ شكل من أشكال العلاقات مع الكيان الصهيوني حتى وإن تعلّق الأمر بمقابلات رياضية، مرفوض”.
واعتبر البيان “أنّ خوض المنتخب الوطني للتنس سيدات مباراة مع منتخب كيان الاحتلال الإسرائيلي في إطار بطولة كأس الاتحاد الدولي للتنس المُقامة حاليا بهلسنكي، يعتبر تجاوزاً لتعهدات تونس والتزاماتها التاريخية إزاء القضية الفلسطينية العادلة”.(2)
ولم يكن البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية التونسية كاف، ليوقف زحف حركة التطبيع، الذي يبدو أنّ التخطيط له يمضي على مهلِ، خُبث من رسموا خارطته في شتى المجالات، لعلّ أخطرها أن تنظمّ وزارة أو هيئة حكومية رسمية إلى سوق التطبيع، دون أدنى نظر إلى ما سيشكّله ذلك من تداعيات سيئة، على السياسة الخارجية التونسية، وتغيير طابعها ما بعد 14/1/2011 الملتزم بالقضية الفلسطينية، والوفاء بتعهداتها الشعبية التونسية، التي قدّمت ولا تزال ما في وسعها من تضحيات، ومواقف ثابتة بشأن نُصْرتها.
فقد تفاجأنا بمشاركة وزير الدفاع التونسي (عماد مميش) في اجتماع للناتو حول أوكرانيا، بحضور ممثل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وكشفت وسائل إعلام أمريكية عن مشاركة 43 دولة من داخل الناتو وخارجه في الاجتماع، بينها تونس وإسرائيل، وعقد الاجتماع الذي دعا إليه وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، في قاعدة (رامشتاين) الجوية الأمريكية في ألمانيا.(3)
الذي لا يعلمه الكثيرون، أنّ تونس حصلت على صفة العضو الأساسي غير الحليف في منظمة حلف شمال الأطلسي الناتو في سنة 2015، عندما أعلن عن ذلك الرئيس الأمريكي (باراك أوباما) اثناء استقباله الرئيس التونسي الأسبق ( الباجي قايد السبسي)، وهذا الذي حصل من الرئيس التونسي الراحل، يُعَدّ خيانة كبرى للشعب، بتوريط بلاده في تحالفات لا ناقة له فيها ولا جمل، ومن هنا يأتي تفسير حضور الوفد التونسي إلى الإجتماع بالقاعد الأمريكية بألمانيا، بصفته عضوا أساسيا غير حليف.
مسألة انضمام بلادنا لحلف النّاتو بأيّ مستوى كان ولو كان صغيرا، هي سقطة من سقطات الرئيس الراحل الباجي وزمرته المهووسة بزعامة أمريكا والغرب، والخاضعة لإملاءات دولهم، ولو تعلّق الأمر بخلاف مصلحة تونس، وقد تبيّن أن هؤلاء فاسدون ومُغتنموا فُرص باطلة عاطلة، تحيّنوها عندما أمسكوا بالسلطة، وكادوا يذهبون بالبلاد بسياساتهم إلى الهاوية، وعليه يبدو أنّ الوقت لم يفت بعدُ، للتخلّص من تبعات هذا الانتماء الغير مشرّف، ومن تدثّر بقوة غيره وهنت منه القوّة.
سؤال أودّ توجيهه للرئيس قيس سعيد: إذا كنت فعلا ترى التطبيع خيانة عظمى، فلماذا لم تتّخذ إلى اليوم قرارات صارمة بهذا الشأن، لتقطع الطريق على هؤلاء المطبّعين، الذين لن يرْدَعهم عن حركاتهم التطبيعية الرخيصة شيء، سوى قانون صارم يجرّم التطبيع، ولا يترك مجالا لمطبّع للقيام بخيانته للأمة وقضيتها المركزية، ثم ينفذُ منها سالما فيكون مثالا لطامع غيره، ثقتنا لا تزال قائمة وستبقى كذلك في حال واحدة، وهي الاسراع بمحاربة الفساد والفاسدين، وظهور نتائج ملموسة بخصوص ملفها الشائك، كما لا يجب فصل التطبيع عن ملف الفساد فكلاهما شرّ يجب محاربته وتخليص تونس منه.
التطبيع خيانة عظمى في أي مجال كان، ولا قيمة لشعارات اللجنة الأولمبية التونسية ولا الدولية في عدم الخلط بين الرياضة والسياسة، والشعوب التي تفقد قيمها وتفرّط في قضاياها سوف لن تنفعها الرياضة ولا الرياضيين، حياة بلا مبادئ استحمار للشعوب وصرفها من المشاركة في الحياة السياسية والمدنية بفعالية، إلى اصطبلات معدّة للسّوائم، وهذا السّوق نرفضه بكل ما أتوينا من قوّة كرمة شعوبنا وأمّتنا فوق كل شيء، ومن هانت عليه كرامته، باء بغضب من الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكل من حافظ على قيمته وكرامته.
أليس ما قامت به اللجنة الأولمبية، والجامعات الدولية لمختلف الرياضات، بمنع الرياضيين الروس من المشاركة في مختلف المنافسات الدولية(4)، من مؤثّرات السياسة في الرياضة وتطويعها للمصلحة جهة دون أخرى، لهو من الممارسات الخطيرة التي نتجت عن الأزمة الأوكرانية، وكشفت بشكل سافر لا غبار عليه أن الغرب لا تهُمّه غير مصالحه، ومستعدّ للدّوس على أي قيمة رفعها، لتكون شعارا يقدّسه غيرهم، بينما ظهر بلا قيمة عندهم، هكذا إذا هو الغرب في خداعه وبهتانه، كالشيطان يوحي إلى أوليائه وأتباعه زخرف القول غرورا، فاتقوه ما استطعتم إلى ذلك سبيلا، فهو لا دين له ولا صدق في كلامه ووعوده، ومتّبعوه كمن تاهوا في صحراء، فاستبدّ بهم العطش، حتى أشرفوا على الهلاك، وفيُخيّل لهم السّراب ماء، كلّما قصدوه ازدادوا ظمأ وبعدا عن النجاة.
قِيَمُنا فوق الرياضات، وعزّتنا في التمسّك بديننا، وكرامتنا في الثبات على مبادئنا، من المعيب أن نستبدل كل هذه الذّخائر القيّمة بألعاب ليس لها وزن في الحساب الأخرويّ، أو أن ننتمي إلى حلف عسكري، ثبت بما لا يدعو مجالا للشك، أنه عدوّ للإسلام والمسلمين، فأين تذهب تونس في هذا المنحدر الخطير؟
المصادر
1 – إعلامي صهيوني يسخر من التونسيين بسبب منتخب التنس النسائي
https://www.ifm.tn/ar/article/16198
2 – أنس جابر، الخارجية التونسية تحتج على خوض نجمة التنس وزميلاتها مباريات مع إسرائيليات https://www.bbc.com/arabic/sports-51403184
3 – وزير الدفاع التونسي يشارك في اجتماع للناتو بحضور إسرائيل
https://www.echoroukonline.com
4 – خدعونا فقالوا.. لا خلط بين السياسة والرياضة
https://www.alroeya.com/3-12/2273981-