كثيرون يريدون العيش في قمة الجبل، غيرَ مدركين أن السعادة تكمن في رحلة الوصول إليها. هذا ما نُسِب إلى غابرييل غارثيا ماركيز قبل مغادرته عالَمَنا. يبدو ذلك سليماً في إطار التعلُّم والمعرفة وكتابة الرواية والحبّ، إلاّ أنه مخالفاً للحقيقة في تجربة الخروج من سِجن!
ففي خُطط على هذه الشاكلة تكون الرحلة مفعمة بالألم والصبر، وتسكن السعادة في قمة الجبل، المحفور هذه المرة.
لا نعلم، حتى اللحظة، كيف بدأت القصة، وكيف اشتعلت الفكرة في رؤوس أصحابها الستة الابطال . ربما إنها ابتدأت في حوار بصوت مكبوت ساعةَ الخروج إلى الشمس، إن ظفروا بها، أو في تمتمة العَتَمَة قبل النوم، أو خلال تناول وجبات الطعام مع قرقعة الملاعق التي رافقتهم في النفق أو في طوابير دورات المياه.
في البحث عن المكان الأنسب لرأس النفق حكايةٌ، وفي حوار الاحتمالات بشأن كيفية التنفيذ روايةٌ. في خُطّة كهذه يكون تأمُّل المكان ممنوعاً، ويكون البحث عن رأس الخيط مقيَّداً.
ما حدث كان فعلاً قصة تُروى، سيَسيل لُعاب المخرجين السينمائيين في المستقبل لترجمتها عملاً، ليس بعيداً عن قصة 300 مقاتل حموا إسبارطة بعد أن تمركزوا في مضيق، أو قصة عبقرية عن اقتحام أسوار طروادة. هذا هو عملياً السبب الحقيقي في تسمية كل ما يجري: “فلسطين الملحمة”. إنها ببساطة تَعصر الواقع لتُخرج ما في جوفه من المستحيلات، من الإمكانات التي لا نعرف عنها، ولا نتوقّع وجودها أساساً.
من السِّجن الصغير المُحْكَم خرجوا. نجاح في مهمة أولى، قادهم إلى متطلباتِ مُهِمَّةٍ أخرى في السجن الكبير؛ في جغرافيا حاضرة في وجدانهم، لكن أبعادها غير مخزَّنة فيها، يجوبون الأرض بحثاً عن مُسْتَقَرّ آمِن فيها؛ حواجز وحدود ونقاط جيش. خيارات كثيرة، منها ما تمت دراسته في الذهن، إذْ لا ورق لغايات كهذه في السجن. ومنها ما يفرض نفسه في الميدان كالعادة. في الشرق معاهدات موقَّعة، وشعب يحتضن ويفتدي. إلى الشمال قليلاً، هوية لم يبدِّلها الاحتلال. وإلى الشمال أكثر، بَرُّ الأمان الأبعد قليلاً. إلى الغرب، يبدو البحر بعيداً. إلى الجنوب، تبدو شِبَاك التنسيق الأمني مدعاةً للقلق.
في الأعمال السينمائية، التي استحضرها الناس لمقاربة القصة، غاياتٌ مغايرة عما جرى في سجن جلبوع. فمن سجن شاوشانك خرج الموظَّف البنكي الأنيق، المثقّف في جيولوجيا الأرض، باستخدام مطرقة خاصة سُرِّبت إلى السجن، فكانت الرسالة ذكاء الفكرة والصبر سنواتٍ على تنفيذ عمل مكرَّر كل ليلة، والتخلص من الحصى كل صباح. وفي “خطة هروب” تتأجَّج المشاهد بالعضلات المفتولة، والبطل الذي لا يموت، وخبرة مستشار سجون يتعرض هو لتجربة السجن، فكانت الرسالة القوة ومعجزات حلّ الألغاز
لم تُغلِق أقفال السجون، باب الأمل لدى الأسرى الفلسطينيين، في نيل الحرية.
ولم تكن عملية فرار 6 أسرى، صباح الإثنين، من سجن جلبوع، شمالي إسرائيل، عبر نفق حفروه، الأولى من نوعها؛ فتجربة الأسرى للخلاص من السجن حافلة بعمليات الهروب، الناجحة منها، والفاشلة
واذا حاولت ان تعي كيف تم هذا الخلاص من الاسر فلن تسعفك حدة ذهنك ، ولا عمق تحليلك ، ولا بُعد نظرتك ، بل حتى خيالك الواسع سيقف عاجزًا أمام قصة ستة أحرار في القرن الواحد والعشرين حفروا أرض زنزانتهم بالملاعق وهربوا من أشد السجون مراقبة وتحصينا! لا أجد تفسيرًا منطقيًا سوى أن الأرض عرفت أهلها فلانت لهم واضاءت رحمة السماء طريقهم ويسرت لهم الحرية. وهنا لا يسعنا الا ان نتقدم بخالص التقدير بملاعق الشرفاء الذي خلخلت التراب وبقرت كروش السفهاء الظالمين.