بقلم الدكتور أسامة اسماعيل |
تواجه العاصمة الفرنسية عددًا من التظاهرات على خلفية القرارات الاقتصادية والاجتماعية التي اتخذها الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في سياق سياساته الإصلاحية التي انتهاجها منذ توليه السلطة في مايو/ أيار 2017، لإعادة هيكلة المؤسسات الفرنسية على كافة الأصعدة، بما يتوافق مع المصلحة الوطنية الفرنسية والمتغيرات الدولية المتلاحقة.
جاءت التظاهرات داخل المدن الفرنسية على غرار ارتفاع الضريبة المفروضة على أسعار الوقود “الديزل” بمقدار 7.6 سنت لكل لتر و3.9 سنتات على البنزين كجزء من حملة التشجيع على استخدام السيارات الأقل ضررًا للبيئة. كما أشار “ماكرون” إلى ضرورة مزيد من الضرائب على الوقود الأحفوري لتعزيز الاستثمار في قطاع الطاقة المتجددة.(1)
خرجت المسيرات الاحتجاجية من قبل مجموعة أطلقت على نفسها “السترات الصفراء”، يوم السبت 17 نوفمبر/ تشرين الثاني مستمرة بذلك لأكثر من أسبوع؛ حيث قامت بإغلاق الطرق السريعة في معظم أنحاء البلاد لعرقلة الوصول إلى مستودعات الوقود ومراكز التسوق وبعض المصانع. كما انعكس ذلك بشكل سلبي على الإيرادات اليومية لتجار التجزئة التي انخفضت بنسبة 35 ٪.
آليات التعاطي الفرنسي مع التظاهرات
تعاملت الحكومة الفرنسية مع التظاهرات من خلال تبني سياسة الاحتواء والردع السلمي وفقًا للقانون وبما يتوافق مع المصلحة الوطنية للشعب الفرنسي والدولة تجلى على النحو التالي:
إدانة أعمال الشغب؛ أعرب الرئيس ماكرون عن تاكيده عل حق المواطنيين في التعبير عن غضبهم وحقهم في التظاهر، كما صرح المتحدث باسمه عن تحذير ماكرون للحكومة من استمرار هذه الفوضى ومآلاتها العكسية على الاقتصاد الفرنسي ومناخ الاستثمار ، لذا يتعين على الحكومة الرد على هذه الأحداث.(2)
التعاطي الحذر مع التظاهرات؛ حاولت الحكومة الفرنسية احتواء التظاهرات من خلال السماح لهم بالتجمع قرب برج إيفل، كما تم إغلاقه في وجه الجمهور حفاظًا على سلامتهم، وبالرغم من ذلك رفض السلطات امتداد التظاهرات إلى سمحت السلطات في باريس بالتجمع ساحة الكونكورد القريبة من الجمعية الوطنية وقصر الإليزيه الرئاسي.(3)
الدعوة للحوار السلمي؛ دعت الحكومة الفرنسية إلى الحوار والتهدئة رافضةً استمرار أعمال العنف والشغب داخل المدن الفرنسية وفي محيط العاصمة باريس من قبل الحركة “السترات الصفراء”، وخاصة مع استمرار التظاهرات لأكثر من أسبوع، وامتداها لخارج الحدود الفرنسية بما في ذلك جزيرة ريونيون في المحيط الهندي.
المواجهة المباشرة؛ اتهم وزير الداخلية “كريستوف كاستانر” زعيمة اليمين المتطرف “مارين لوبن” بتأجيج الاحتجاجات في العاصمة الفرنسية باريس، مؤكدًا على أن اليمين المتطرف قام بتعبئته المتظاهرين وعليه قاموا ببناء المتاريس على الشانزليزيه، وذلك مع انضمام بعض المتسللين من اليمين المتطرف واليسار المتشدد، وهو ما أوضحه الأمين العام لاتحاد الشرطة “دينيس جاكوب”.(4)
الردع السلمي؛ حالة القوات الفرنسية الالتزام بأقصى درجات ضبط النفس، ولكنها حاولت ردع المتظاهرين نتيجة قيامهم بأعمال الشغب والعنف، من خلال استخدام الغاز المسيل للدموع ومدافع المياه الذين حطموا مطاعم وواجهات متاجر في شارع الشانزيليزيه، كما اعتقلت السلطات 18 شخصا على الأقل بعد الاشتباكات.(5)
الحركة الافتراضية… “السترات الصفراء”
حركة “السترات الصفراء” من الحركات الاحتجاجية التي تم تنظيمها عبر وسائل التواصل الاجتماعية “الفيس بوك”، وانتقلت إلى الاحتجاج الشعبي الميداني. أصبحت الحركة التي تفتقد إلى قيادة موحدة من أهم الحركات المؤثرة حاليًا في المشهد السياسي الفرنسي. فهي نتاج لتراجع القوى السياسية الحزبية التي فشلت في إيجاد مساحة من الحوار بين الحكومة والشعب.(6)
ولدت الحركة في نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2018 على خلفية ارتفاع أسعار الوقود، وتراجع القوة الشرائية للمواطنيين، علاوة على رفضهم هيكلة شركة السكك الحديدية، متوعدة بردع الحكومة الفرنسية عن سياساتها الحالية من خلال شل حركة المواصلات وخاصة في المناطق الحيوية في البلاد.(7)
وقد حظيت الحركة غير السياسية بدعم من بعض الأحزاب اليمينية مثل “الحزب الجمهوري” واليمين المتطرف مثل “حزب التجمع الوطني”. وقد وجهة الحكومة اتهامات إلى اليمين المتطرف بدعمه الاحتجاجات التي نادت للمرة الأولى برحيل الرئيس الفرنسي.
ومع استمرار التظاهرات في جميع أنحاء البلاد طالب “ماكرون” إلى ضرورة الحوار لإيجاد حل لهذه الاحتجاجات، وعليه فقد أعلنت الحركة عن تشكليها وفد رسمي لمقابلة الحكومة وتقديم مطالبهم.
تحركات موازية للسترات الصفراء
لم تكن تظاهرات “السترات الصفراء” تجوب شوارع المدن الفرنسية بمفردها فقد تزامن معها خروج مسيرات منددة بالعنف الجنسي والتمييز ضد المرأة في سياق مبادرة من مجموعة جميعات مُطلقة علىى نفسها اسم “كلنا نحن”؛ حيث يعد أو ظهور لها بشكل رسمي في سبتمبر/ أيلول 2018.(8)
بجانب خروج المُمرضون والمُمرضات في مسيرات “القمصان البيضاء” في محيط وزارة الصحة احتجاجًا على ظروف عملهم الصعبة، والإصلاحات الرعاية الصحية الجديدة التي أُعلن عنها في سبتمبر/ أيلول 2018، وذلك بعد إضافة 4000 منصب جديد باسم مساعد للرعايا الصحية وظيفة تجمع ما بين الممرض والمساعد المكتبي للقيام بأعمال ورقية تخص الأطباء. وقد اعترضت الممرضات على هذا المنصب الجديد باعتباره يتجاهل قدراتهم وكفاءتهم.
ختامًا: يواجه الرئيس الفرنسي تحدي جديد يتمثل في احتجاجات في جميع أنحاء البلاد، من قبل جماعات غير نظامية تم تعبئتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وعليه من المتوقع أن إلا يتراجع ماكرون بشكل كامل على سياساته الإصلاحية التي تبنها لإنها ستترك فجوة كبيرة في الميزانية الفرنسية، كما إنها من المتحتمل تؤدي إلى تشجيع المتظاهرين المدعوميين من قبل القوى السياسية المناهضة له للضغط عليه للتنازل عن السلطة والدعوة إلى انتخابات مبكرة.
لذا يسعى “ماكرون” إلى إعادة تحسين وضع البلاد وخاصًة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي فيما يتعلق بنظام التقاعد، والضمان الاجتماعي، وقطاع الطاقة، وقطاع العمل بشكل عام، فضلًا عن القضاء على البطالة، وليس تحسين القوى الشرائية للمواطنيين، مستندًا بذلك إلى الأغلبية البرلمانية التي تدعمه في تمرير القوانين الخاصة بعملية الإصلاح.