على الرغم من المخاوف الأمريكية المسبقة من النجاحات التي يمكن أن تحققها طالبان مع بدء الإنسحاب الأمريكي من أفغانستان , ومع تأكيد السفيرة غرينفيلد على أن “العالم لن يقبل سيطرة طالبان على كابول والحكومة ، أو إقامة أي حكومة في أفغانستان يتم فرضها بالقوة” , وأنه لا بد من “تسوية سياسية شاملة تفاوضية تستند إلى عملية يقودها ويملكها الأفغان” … ويبقى السؤال , مالذي يدفع الرئيس بايدن والقادة العسكريون في الولايات المتحدة وبريطانيا والدول الحليفة ، لقبول الهزيمة أمام طالبان ؟ وبتنفيذ إنسحاب مذل , بعد عشرين عاماً لتواجدٍ عسكري لم يقض على الإرهاب ولم ينتج سلاماً أو إتفاقاً سياسياً , ولم يحقق الإستقرار.
فالحرب الأفغانية التي وُصفت بـ”الحرب الأبدية”, وبحسب المصادر الإعلامية الأمريكية , كلفت وزارة الخزانة الأمريكية أكثر من تريلوني دولار , وخسارة حوالي 2500 جندياً أمريكياً , و1150 من جنود حلفائها ، وأمام سرعة الإنسحاب والمفاجئة بسرعة تمدد طالبان وسيطرتها على غالبية المدن والمناطق وعلى الحدود مع ايران وطاجكستان , فما هو الهدف الحقيقي لإنسحاب واشنطن ومن يدور في فلك هيمنتها….
سلوك أمريكي مشين وأكاذيب استمرت عشرون عاماً للغزو الأمريكي الوحشي , ولتدمير الإقتصاد الأفغاني ومقدرات الدولة ولإفقار الشعب الأفغاني , ولإغراق البلاد والعالم بتجارة المخدرات , ولجعل الحياة هناك تبدو مستحيلة , ويعود السؤال إلى المربع الأول , ما هي أسباب الغزو الأمريكي قبل السؤال لماذا هو الإنسحاب الأمريكي .
بات من المؤكد أن واشنطن تدفع أفغانستان للسقوط في براثن طالبان مرتين , وسبق للرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي قوله : دخلت أمريكا إلى أفغانستان “لمحاربة التطرف ولتحقيق الاستقرار, وتتركها بعد عشرين وقد فشلت في كلتا المحاولتين” , وأكد أيضاً قبيل بدء الإنسحاب في مقابلة مع وكالة أسوشيتد برس : أن التطرف اليوم في “أعلى مستوياته”، وأن القوات المنسحبة تترك ورائها “عار وكارثة” وأمة مزقتها الحرب.
فعلى غرار انسحاب الولايات المتحدة ، وعلى اختلاف حجوم تواجدها العسكري انسحبت بريطانيا وجميع قوات الـناتو , بصمت وبهدوء وسرعة ومن دون مكاسب وحتى من دون مراسم.
وحدها تركيا تخطط لإنتشارٍ كبير, ولمهمة حماية مطار حامد كرزاي الدولي في كابول – بحسب وزير الدفاع التركي خلوصي أكار- , ولإقحام نفسها في الصراع , أهو التكليف الأمريكي , أم أطماع أنقرة ببسط نفوذها في اّسيا الوسطى؟…
ففي 14 حزيران وعلى خلفية اجتماعات G7 , التقى الرئيسان التركي والأمريكي في بريطانيا , وأكد أردوغان أن “الأيام المقبلة ستشهد تعاوناً وفيراً ومثمراً” , في الوقت الذي كان الوزير بلينكن يؤكد في اللقاء الصحفي مع نظيره الإيطالي , أنه بات من الضروري إيجاد “الحل” لعودة المقاتلين الأجانب في سوريا إلى دولهم , فهل تم الإتفاق على إرسالهم إلى أفغانستان , وبذلك يمكن تفسير التقارب الأوروبي مع تركيا , والرضا الأمريكي , بتكليف تركيا لرعاية وصول الإرهابيين من سوريا وغير مكان إلى أفغانستان , من خلال صفقة أمريكية – أطلسية –أوروبية , وهذا بدوره يفسر التحضير التركي لإرسال الدفعة الأولى لحوالي ألفي إرهابي يعملون تحت أمرتها في شمال وغرب سوريا إلى أفغانستان مقابل ثلاثة اّلاف دولار شهرياً …
إن التماهي ولعب الأدوار ما بين قطر وتركيا في خدمة المشاريع الأمريكية , تكفل بإشراف قطر على المحادثات الأفغانية مع طالبان , فيما ستتكفل تركيا بالإشراف الميداني مع طالبان…
ومع ذلك يبدو أردوغان يقامر بكل ما يستطيع لتجنب الغضب الأمريكي في عهد بايدن … وسيكون العالم ممتناً لتركيا إذا ما نجحت في إحلال السلام والاستقرار هناك , ولكن كيف لها أن تكون عامل استقرار بدون حشودٍ عسكرية كبيرة وتمويل كبير, من سيدفع تكاليفها وإرهابييها ؟, أم ستترك لها فرصة الإعتماد على أموال الغاز في تركمانستان ونفط كازاخستان , أم ستضطر إلى سرقة معامل كابول ونفطها وثرواتها وابتزاز ملف اللاجئين الأفغان , على غرار ما فعلته في سوريا , وفي جميع الأحوال لن تكون مهمة تركيا سهلة في منطقة آسيا الوسطى ، فتوسيع رقعة السلطنة , وبعد الجنود ومراكز السلطة عن الباب العالي , كانت من أهم أسباب ضعف وإنهيار الإمبراطورية العثمانية , ناهيك عن نظرة طالبان للأتراك على أنهم مرتدون وترتدي نسائهم لباس البحر كالأوروبيين , ويعترفون بالمثليين , فيما تسعى طالبان لإعلان دولة إسلامية متشددة تجمع داعش وطالبان , وعليه ما تعتبره تركيا من “مزاياها” و”إيجابياتها” سيكون غير كافٍ هناك.
إن الإنسحاب الأمريكي الهادئ أمام أعين طالبان يشير إلى عدم اهتمامها بمحاربة القوات الأمريكية ، وتركيزها على مواجهة قوات الحكومة الأفغانية , وقد تتمكن طالبان من فرض سيطرتها على كامل البلاد قبل نهاية العام , فإستعدادتهم للتمدد والتمركز والقتال , تفضح نواياهم وتطلعاتهم لإعلان إمارة إسلامية معمرة – كما يبدو مخططاً ومنتفق عليه مع واشنطن – , لإستقدام وتخزين تنظيم داعش والقاعدة لوقت الحاجة اليها خارج الحدود.
لا يملك الرئيس بايدن بعد عشرون عاماً في أفغانستان جواباً وضمانات يقدمها للأوروبيين , وبات عليهم التفكير بكيفية ضمان أمن سفاراتهم وموظفيهم ومستشاريهم ، وسلامة الطريق نحو مطار كابول , هذا إن لم يسقط خلال وقت قصير, ويبدو كلام جوزيب بوريل ساذجاً , بالحديث عن مناقشات بروكسل والناتو وواشنطن , لكيفية حماية وضمان استمرار وجودهم الدبلوماسي.
على الرغم من حديث طالبان عن إلتزامها بمفاوضات السلام , إلاّ أنها في السابق , لم توقف العنف والتصعيد العسكري في جميع أنحاء البلاد , أثناء المحادثات مع مسؤولي الحكومة الأفغانية في قطر, وعليه تتجه الدعوات اليوم لحث طالبان للبحث عن الحلول والتفاوض مع السلطات الأفغانية بعيداً عن ساحة المعركة… وجاء الرد عبر المتحدث بإسم طالبان “ذبيح الله مجاهد” لوكالة “رويترز” في مطلع الإسبوع :”نحن جادون , وسيتم تسريع محادثات السلام , والتوصل إلى خطة مكتوبة للسلام , على الرغم من يدنا العليا في ساحة المعركة”.
يبدو الإنسحاب الأمريكي , يشي بحربٍ من نوع اّخر , لن تكون فيه القوات الأمريكية على الأرض , وستبقى طائراتها المسيرة وقاذفاتها تضمن سير مصالحها على الأرض , ويبدو أنها تبحث عن مرحلةٍ جديدة على أرض أفغانستان حيث تلتقي فيها مصالح جميع الدول المتنافسة والمتصارعة حول العالم تقريباً.
يبدو أن الولايات المتحدة تحاول جاهدة استبدال “الحرب الأبدية” في أفغانستان بحربٍ هجينة قد تمتد شظاياها الجيوسياسية إلى روسيا والصين وإيران , وباكستان وكافة دول آسيا الوسطى , وتسعى في الوقت الذي تنسحب فيه من أفغانستان إلى إعادة تمركز بعض قواتها في أوزبكستان وطاجيكستان ، بدعم من بعض النخب في الحكومة الأفغانية , بحجة التدخل ضد طالبان إن دعت الحاجة , الأمر الذي تعارضه روسيا والصين , وعليه يبدو أن ما يراه البعض نهاية مرحلةٍ أمريكية , لا يعدو أكثر من بدايةٍ لمرحلة أخرى بنفس الهدف والمضمون.
الوسومافغانستان ميشيل كلاغاصي
شاهد أيضاً
72 ساعة لولادة الشيطان الجديد.. أمريكا بلا مساحيق التجميل…بقلم م. ميشال كلاغاصي
ساعات قليلة تفصل العالم عن متابعة الحدث الكبير, ألا وهو الإنتخابات الرئاسية الأمريكية, و”العرس الديمقراطي” …