خلال الحرب الباردة تمتع حسن الترابي باعتباره زعيماً إسلاموياً إخونجياً بدعم وتمويل سعودي، وجاء ذلك ضمن النهج السعودي- الأمريكي لتوظيف الحركات الدينية ضد أي مد اشتراكي أو مؤيّد للسوفييت، وعندما تأسس بنك فيصل خريف 1977 ثم بنك البركة في السودان، فإن البنكين قاما بتقديم مكافآت وتسهيلات للمنتمين لـ «الجبهة الإسلامية القومية» التي أسسها الترابي عام 1976، ما أكسب هذا التنظيم قوة.
في نهاية السبعينيات صار الترابي حليفاً لجعفر النميري، ووصل لمنصب مدعٍّ عام ووزير العدل، والنميري كان قد وصل للحكم عام 1969، فبدأ بشعارات أقرب للقومية والاشتراكية، ثم نفّذ استدارة 180 درجة، فأيّد صلح السادات مع الكيان الصهيوني، وصار مقرباً من واشنطن، وتحالف مع الإخونج والإسلامويين بزعامة الترابي، وبدأ برفع شعارات لـ «تطبيق الشريعة»، حسب تفسيره ومعه الترابي، فأصدر قوانين أيلول 1983، التي أساءت للموروث الديني ذاته، كما دمرت حياة المواطنين، وكانت فاتحة مآس وعنف وقطع وجلد وإعدامات، وتم شنق المفكر «محمود محمد طه»، وأدّت هذه التصرفات إلى صب مزيد من الزيت على النار، فاندلعت الحرب الأهلية الثانية بين الجنوب والشمال، وأنهت اتفاق أديس أبابا المُوَقع في 1972.
انتهى حكم النميري ومعه الترابي في 1985، تحت تأثير غضب شعبي في انتفاضة نيسان، واستلم الحكم قائد الجيش، محبوب الإخوان والرجل الذي عاش في أحضان قطر لاحقاً عبد الرحمن سوار الذهب، فسلم السلطة على عجل، ثم خسرها في 1989 عبر انقلاب حمل اسم «ثورة الإنقاذ»، كان خلفه حسن الترابي ومعه حليفه الجديد العقيد عمر البشير، الذي أطاح بنظام الحكم المنتخب (الصادق المهدي- أحمد الميرغني) متهمين إياه بالنكوص عن تطبيق الشريعة، ومخربين الاتفاق الذي كان قد تم مع الجنوبيين.. ثمّ لعب الترابي دور المهندس الفكري للنظام الجديد، وتولى وزارة الخارجية كأول مناصبه مدة محدودة، ثم تولّى في أوقات لاحقة رئاسة البرلمان بين عامي96و98، وتولى أيضاً منصب الأمين العام للمؤتمر الوطني الحاكم.
في التسعينيات تم فتح السودان أمام أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وسيد إمام، بعد أن كانوا قد أدّوا مهمتهم التخريبية لمصلحة «السي آي إيه» في أفغانستان في الثمانينيات، وصار السودان العزيز، ومع الأسف، راعياً لكل الحركات السلفية الجهادية، ومنها تنظيم «الجهاد الإسلامي» المصري وكذلك «الجماعة الإسلامية»، ودعمت الخرطوم كل عمليات التخريب والإرهاب والاغتيالات في مصر والجزائر التي حصلت في عقد التسعينيات، كان حينها الترابي يُبدي -زوراً- رفضاً للتدخل الأمريكي بذريعة تحرير الكويت، كما رفع شعارات التقريب بين الطوائف وتوحيد «العمل الجهادي» (وهذه قصة طويلة).. وكل ما سبق لم يكن سوى فقاعات صابون تستر هوساً وأطماعاً بالسلطة، ولم تخدم سوى واشنطن ومخططاتها في الحقيقة، ولم يكن شيء منها جاداً، بل محض تجارة ورقص على الحبال لحصد المكاسب.
بقي الترابي جزءاً من النظام حتى نهاية التسعينيات ومطلع عام2000.. ثم وقع خلاف وصراع على السلطة متساوق مع العقوبات الدولية المتعلقة بـ «النشاط الإرهابي».
قام الترابي بتأسيس ما سمي «المؤتمر الشعبي» باعتباره تنظيم معارضاً في 1999، ونشط ضد النظام، لدرجة أنه اتصل بالعقيد «جون قرنق» زعيم الانفصاليين في الجنوب، ورئيس «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، وعقد حزبه معه مذكرة تفاهم في سويسرا 2001، تنص على تقاسم الثروة والسلطة وحق تقرير المصير وتوحيد الجهد لـ«مقاومة النظام» ما فهم منه دمج العمل العسكري!، ثم تطورت المذكرة لاتفاق في شباط 2002، فتعرض الترابي خلال ذلك وعلى إثره للسجن فترات.. في هذا السياق أيضاً، جمعت الترابي علاقات بقادة تمرد دارفور، الذي انفجر في تلك المرحلة من أوائل عام 2000، أي بالتزامن مع خلاف الترابي مع النظام، وكان أحد رؤوس التمرد، تلميذ الترابي والسياسي الإسلاموي والوزير السابق خليل إبراهيم، الذي أسس حركة «العدل والمساواة» عام 2000، وبدأ التمرد عبر إصدار ما سمي الكتاب الأسود الذي يدين «نظام» الخرطوم منذ 89 -والذي يفترض أن الترابي كان مهندسه- بممارسة سياسات عنصرية ضد «القبائل غير العربية» في دارفور، ما يبرر التمرد.. وأثمرت الحرب عن مئات الألوف من القتلى والمشردين، ومن بين الحركات المشاركة في التمرد «حركة تحرير السودان»، التي نشطت أيضاً من عام 2001، قبل أن تشهد انقسامات لاحقة.
قبل أن يموت الترابي في 2016، كان قد ارتدى ثوب «الفقيه التنويري» مدة عقد تقريباً، فأصدر فتاوى بجواز زواج المسلمة من غير المسلم وأحقية المرأة في إمامة المصلين ذكوراً وإناثاً، وأعلن عدم ممانعته وصول مسيحي أو سيدة لرئاسة البلد، كما أنكر عذاب القبر وعلامات الساعة، وعارض قتل المرتد المسالم، ودعا إلى وحدة الأديان..، فتم تكفيره! لكن لم تنتشر حملات الهجوم على الترابي عربياً، كما يحدث مع غيره، لأنه إخواني بالنهاية! بل أحياناً جرت محاولات للدفاع عنه أو تأويل كلامه، ولا شك في أن فتاوى الترابي لم تكن أكثر من مغازلة لجهات غربية، فهو لم يكن صادقاً فيها، ولا متحمساً للدفاع عنها، ولا ورثها تلاميذه.. وكثيراً ما زاغ وناور.
في فترة قيادة الترابي، يُتهم بالتورط في انتهاكات حقوقية عديدة، وجرائم حرب، وعمليات تطهير عرقي، وإحياء العبودية، وتعذيب وقتل المعارضين، والتسبب في فرار أعداد غير مسبوقة من المواطنين للدول المجاورة، إضافة إلى كبح تيارات مثل الصوفية، وتأسيس ميليشيات وجمعيات دينية لفرض تفسير متعصب للدين، ومطاردة النساء وحصار الأفكار.. هذا إلى جانب إعطاء الحرب مع الانفصاليين الجنوبيين طابعاً جهادياً دينياً واستخدام لغة شديدة الطائفية، ما عقّد الأزمة وسهّل مهمة الدور التآمري الخارجي، عوضاً عن أن يكون التلاحم الوطني والمصلحة الشعبية في الوحدة هي الشعارات المرفوعة.. والغريب أن الترابي بعد الخلاف مع البشير صارت له اتصالات واتفاقات مع زعماء الجنوب!.
*كاتب من مصر