بقلم: عبد الحق خالــد – كاتب من الجـزائـــر |
“.. هناك أكثر من خمسة آلاف مؤسسة (5000) ما بين ثقافية وجامعية ومعهد ومركز دراسات في الوطن العربي، ولو اشترت كل مؤسسة نسختين من كتاب قريب من تخصصها لحدثت طفرة في عالم النشر والتأليف..” محمد العبيكان – ناشر سعودي- .
في هذه الأيام “النّحسات” لا صوت يعلو على صوت المعدة، فأنّى اتجهت ببصرك وسمعك لا ترى إلا موجة حـرّ خانق وحرائق أتت على الأخضر واليابس، ولا تسمع إلا حديثا عن الغلاء الفاحش الذي مسّ أسعار المواد الأساسية (بطاطا، سميد، زيت، و الوقود ليس آخرها …) فألهب جيوب هذا المواطن التعيس الذي أشقاه الاستقلال بإنجازاته العظيمة! في انتظار ما سيحمله الدخول الاجتماعي القادم من مفاجآت؟.. في هذه الأيام التي تتباهى الجزائر فيها بكونها “عاصمة للثقافة العربية”(1) على ما قيل عن طريقة تنظيمها وضعف الدعاية لها وطنيا وعربيا، حتى إننا لم نحس لها أثرا رغم انقضاء قرابة الأحد شهرا من انطلاقتها.
في هذه الأجواء المشحونة والتي تنذر بشرّ مستطير، أليس من اللّغو إن لم نقل السُخف الحديث عن الكتاب مهما كانت قيمة هذا الكتاب وفائدته المـتوخـاة للفرد والمجتمع؟ ألم يكن حرياً أن نُسوّد الصفحات نتساءل من خلالها عن مصير المواطن وهو يقف عاجزا عن ابتياع “البطاطا وبقية الضروريات” لإعالة أهله وعياله؟.
الحقيقة أن السبب المباشر الذي حدا بي إلى تسجيل هذه الوقفة ليس هو السّجال الذي احتدم في الساحة الثقافية وحتى في ساحات أخرى حول الكتاب وما يدور في فلكه، طباعة وقراءة وسعرا… لأن هذا النقاش لم يكن بريئا إلى حد بعيد، لم يكن حبا في هذه البضاعة أو حرصا على إيصالها إلى الناس حلوة سائغة حتى تعم الفائدة. وإنمـــا كانت تحـــرك أصحابه رغبة قوية في عدم تفويت فرصة العبّ مــن هـــذه المـلاييـــر الضخمة (550 مليـار سنتيــــم) المـرصودة لهــذه التظـاهـرة، كــلّ بمـا أهلتــه مـواهبــه و “معارفه” لتحقيق هذا الحلم!.. وإنما السبب هو اللقطات الإشهارية التي بثتها ذات يوم مؤسستنا العمومية للتلفزيون عن الأمية وخطرها وعن عدد الأميين في الجزائر، وعن الجهود الجبارة والبرامج المتعاقبة المسطّرة من طرف الدولة “منذ الاستقلال” للقضاء على هذا الغول! وهنا سرعان ما رقصت الأرقام المخيفة أمام عينيّ وقفزت كروح مرعب يملأ العقل والنفس خوفا وفزعا… لماذا؟
لأن الذي أعرفه شخصيا، هو أن الكتاب عندنا في الجزائر وحتى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي – أي قبل ذيوع الإذاعة والتلفزيون ووسائط التواصل الجديدة- كان أهم وسيلة للتثقيف ونشر المعرفة والوعي، ومن منّا لا يتذكر المعارض الكبيرة لفترة السبعينات والثمانينات في مناطق مختلفة من الوطن أين بيعت الكتب بأسعار جد مقبولة وأحيانا زهيدة؟ لأن الدولة كانت تدعم الكتاب بنفس القدر الذي كانت تدعم به المواد الأساسية، تشجيعا للناس على القراءة والتثقف!.. ولكن هذه الأهمية تراجعت بسبب ظروف متشابكة معقدة مع بداية التسعينات، ودخول الجزائر في دوامة العنف أو ما سمي فيما بعد بالعشرية السوداء؟ رغم الإبقاء على شعار الانفتاح الاقتصادي والحق في التعددية الإعلامية والفكرية!.. وأما في هذا العقد الأول من الألفية الجديدة فحدّث ولا حرج… لقد غدا الكتاب من سقط المتاع! كما قال الشاعر…
ثم إنّ الذي أعلمه وبالتجربة أيضا أن انقلابا خطيرا حصل في حياة الجزائر والجزائريين، بعد ذلك، قلب سلّم الأولويات! غدت معه العلاقة بين الجزائري عموما والكتاب علاقة عداء متأصّل يصعب تبريره؟ واسأل إن شئت الإجابة من “يتسمّون بالمثقفين” كم كتابا يقرأون في الشهر وكم كتابا قرأوا طوال حياتهم؟ ومظاهر الاستهلاك الزائف كثقافة سائدة لهذه المادة كغيرها من المواد “التجميلية” لا يمكن لها بأي حال أن تخدعني عن الحقيقة الماثلة أمام ناظري… وليتحدث من شاء كيف شاء عن استيراد ما يقارب الـــــ”27 مليون دولار” من الكتب عام 2004، فالعبرة ليست بالرغبة في اقتناء الكتاب “كسلوك استهلاكي غير واع”! بل بأثر ذلك على فعالية الفرد في حياته اليومية!؟..
والمتأمل لواقعنا المزري في كل ناحية من نواحيه، يستشفّ ببساطة خطورة الأوضاع التي آلت إليها البلاد، بعد سنوات الأزمة التي خلّفت عشرات الألوف من الضحايا وخسارةً بعشرات الملايير من الدولارات، وهو ما انعكس بكل تأكيد سلبا على الأوضاع النفسية والعقلية لشبابنا الذين دخلوا متاهات البطالة والعربدة والإدمان في رحلة لا تنتهي بحثا عن الذات، وهم كما لا يخفى قوة الأمة وأملها في مستقبل الأيام.. فأصبحتَ ترى الواحد منهم تائها شريدا يحاول يائسا لملمة شتات أفكاره ويجشّم نفسه عناء تصفح صحيفة فلا يستطيع، فكيف بقراءة كتاب ؟..
وفي اعتقادي أن هذه الرّدة وهذا العزوف عن الغذاء العقلي والنفسي، وأعني به الكتاب الذي يساهم إلى حد بعيد في بناء شخصية الإنسانة ورؤيته للكون والحياة، بل وفي بلورة ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه، مردّها إلى عناصر أجملها فيما يلي:
أولا: على رأس هذه العناصر: تردّي الأوضاع الاقتصادية خاصة، والاجتماعية والسياسية، وغياب رؤية استراتيجية لما يجب أن يكون عليه مستقبل الثقافة – وبالتالي الكتاب- في البلاد، وما لهذه الأوضاع من تأثيرات نفسية مدمرة، إنْ على مستوى الفرد أو الجماعة، فلا يُعقل أن يطلب غذاء العقل والروح من لم يجد غذاء البطن… (إنّ أول أثر للفقر هو قتل التفكير) كما يقول الأديب الإنجليزي جورج أورويل .
ثانيا: الزيادة المروّعة في الأسعار والتي مسّت كل السلع والخدمات، ولم ينجُ منها الكتاب – الذي كان الأولى أن يبقى بمنأى عن مثل هذه الإجراءات المحرّرة للأسعار- إذا كنا نريد القضاء فعلا على الأمية والجهل لا العودة إليهما! وعندما يصل ثمن كتاب إلى ثلاثة آلاف دينار وأكثر في جزائر الألفية الثالثة (ولا لوم هنا على الناشرين فقط) تعود بي الذاكرة إلى الأيام التي كانت توزع فيها أعمال “لينين” الكاملة مجانا أو بأسعار رمزية أحيانا فيما كان يسمى الاتحاد السوفييتي، ولماذا أعود إلى عهد ولّى إلى غير رجعة وأمامنا صحيفة “جيلاندس بوسطن” سيئة السمعة (التي نشرت الرسوم المسيئة للرسول الكريم- صلعم)، وهي حسب أسبوعية المحقق (عدد 03 من 02 إلى 08 أفريل 2006) تطبع نصف مليون نسخة ويصل عدد صفحاتها أحيانا إلى مائتين ويبلغ سعرها “17 كورون” أي ما يعادل “300 دينار جزائري” .. و القارئ في الدانمارك مخيّر بين أن يدفع ثمنها أو يأخذها “مجانا”!؟ والكلام بعد هذا لا يحتاج إلى تفصيل .
ثالثا: الأمية بشكل مريع، ليس بين كبار السن فحسب ولكن هذه الأمية عادت بعد أكثر من أربعين سنة (الآن أصبحت تتجاوز الخمسين عاما) من استرجاع السيادة الوطنية – وكان الأولى القضاء عليها نهائيا كما في دول أخرى لو صدقت النيات – عادت الأمية إذن لتمس فتيانا في عمر الزهور لفظتهم المدارس فاتخذوا الشوارع مأوى لهم والتشرد رسالتهم في هـذه الحياة! … ولن أتحدث بعد ذلك عما أصبح يعرف بـ “أمية المثقفين” في أيامنا، فتلك قصة أخرى.
رابعا: تقهقر الحرف المقروء عن مكانته التي أحرزها أجيالا إثر أجيال، بعد الزحف الشرس والهيمنة المتواصلة للوسائل السمعية البصرية على حساب هذا الأخير، فحسب نفس الجريدة التي أدرجت أرقاما غير رسمية جرى تداولها بمناسبة اليوم العربي لمحو الأمية، تقول: أن الجزائري يقرأ “06 دقائق” فقط في السنة، وهذا الجزائري الذي لا يملك من الصبر ما يقوى به على قراءة كتاب واحد خلال عام كامل، نجده في مقال للأستاذ “نور الدين قلالة” بجريدة الخبر الأسبوعي (العدد 370 من 01 إلى 07 أفريل 2006) يفضّل التلقي السلبي فيشكل مع إخوانه “العرب” ما نسبته 69℅ من مشاهدي الفضائيات ولمدة “4 ساعات” يوميا، ويكون الحب والجريمة والجنس هو مضمون برامج تلك القنوات! وهذا التنصل من “جدّ القراءة إلى سهولة المشاهدة” ليس بحثا عن المهم بل هروبا من الهمّ!.
خامسا: أخيرا وليس آخرا، طغيان الهامش السياسي على مسرح الحياة في البلاد، مما جعل الفرد يعيش في المستوى البيولوجي لا في المستوى الإنساني (تشغل تفكيره على مدار الساعة أسعار السكر و البطاطا، وأساسيات الحياة الأخرى…).
وبعد كل هذا لن أتحدث عن جانب آخر لا يقل أهمية، وهو قضية نشر الكتاب وطبعه وترجمته، وكتاب الطفل جزء أساس فيه؟ ذلك أن أعمالا جليلة هنا وهناك تنتظر الإفراج ومنذ زمن بعيد لتخرج وترى النور..
وليس بخاف بعد كل ما سبق ما للكتاب – عند من يعرفون له ذلك – من قيمة وأهمية، فهو يصنع جزءً رئيسا من تقدم الشعوب والأمم بإسهامه المباشر في تكوين الوعي وتأسيسه، والقطيعة مع الكتاب في بلادنا جزء من أزمة طاغية شاملة أظلت الحياة والأحياء، والمصالحة التي يتحدث عنها الكثيرون مع التاريخ ومع الذات نتمنى أن تمتد لطائفها لتشمل الكتاب أيضا، ذلك أن فلسفة التغيير الثقافي – فيما أرى- يجب أن تعيد النظر في كل ما هو قائم حتى الآن، بدءً بإعادة الاعتبار للإنسان في كل أبعاده – فكرا واتجاها وأسلوب حياة- وانتهاءً بالكتاب طبعا ونشرا وتوعية بدوره وقيمته كذلك (فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان)!؟… وقد يكون في مثل هذه الإعادة إشارة إلى السقوط الفظيع الذي نحياه فعليا منذ سنوات، وأزمة الكتاب ليست أقل مظاهر هذا السقوط.
هوامش:
(1) الجزائر عاصمة الثقافة العربية عام 2007.