عجائب أهلنا بتونس لا تنتهي شطحاتها، فيها ما يثلج الصدور، فتنتعش به النفوس، وفيها ما يحزن القلوب، ويدفعها إلى الأسى دفعا، ومفاجآتهم لا تنقطع في مجال السياسة والدين، ولو فتحنا بابهما على مصراعيه لذلك ما تفرّدوا به، لأخذت طرائفهما منا وقتا ومجالا، من الأفضل استهلاكه فيما يفيدنا أكثر.
ثورة الربيع العِبْرِيّ، وهذه الصفة أليق بها من العربي، باعتبارها لا تمتّ إلى الثورات بصلة، لا من جهة هيكلتها وغياب قيادتها، وما وقع كان حراكا محتشما بقلّة عدد مشاركيه، لو تُرِك لقدرِهِ لما عسُر على الدكتاتور بن علي إخماد جذوته، وإن كنّا تفطّنّا فيما بعد، أن الذي حرّكها ودعّمها إعلاميا قوى خارجية، وبإرادة أمريكية وموافقة فرنسية وبريطانية، على أن يقع التخلص من ذلك العهد الذي استنفد صلاحياته عندهم، بتلك الطريقة الدّرامية السيئة الإخراج.. وما كان بن علي ليهرب من تلقاء نفسه، وهو العسكري المليء سِجِلّه بالضحايا والدّماء سنتي 1978 و1984، شخصان فقط يعرفان جيّدا ما وقع، ويتحملان مسؤولية تاريخية في كشف حقيقة ليلة 14/1/2011، وما جرى فيها من إرغام بن علي بالقوّة، على الخروج من القصر الرئاسي بقرطاج.
فهذه أولى عجائب الثورة بتونس، أما التي جاءت بعدها ف(العريضة الشعبية للحرية والعدالة والتنمية)(1) التي فازت ب26 مقعدا في إنتخابات المجلس التشريعي، الذي اسسها الهاشمي الحامدي، صاحب قناة المستقلة، صاحب المواقف والمبادرات والعلاقات المثيرة للجدل، قام بتغيير اسم عريضته إلى تيار المحبّة(2)، لعلّ ذلك يزيل عنه غيمة غضب واستهجان شخصه، من طرف شرائح واسعة من الشعب التونسي، لذلك لم يلق قبولا ووقع طرده – تقريبا – من جميع المحافظات التي زارها، فلم يسعفه أهلها في شيء سوى صيحات الصدّ وعدم القبول به، وتيّار محبّته بعنوانه الخاوي على عروشه، لا يملك صفة تيّار حتى بالمعنى الرّمزي للكلمة، جاء من بريطانيا بفكرة محبوكة، واعتقد أنه بواسطتها سيجلس على كرسي الرئاسة، والشعب التونسي سيصدّق أنه عثر على حزب يحرّك إسمه لواعج الحب والمودّة بين أفراد شعبه، لكن الخطّة سقطت بسرعة وفشل فشلا ذريعا، فلم تنفع عريضة ولا تيّار وذهبا جميعا إلى مزبلة التاريخ.
أما ما تناهى إلينا من تأسيس حركة الحشد الشعبي فمما لم يكن يتوقعه أحد، حتى إن كثيرا من المشتبهة عليهم عجائب تونس السّياسية، اعتقدوا أن فكرته مستوحاة من الحشد الشعبي العراقي، وبالتّالي حكموا عليه بالتّشيّع، مما أثار حوله (مخاوف حقيقية يعيش على وقعها الرأي العام الوطني بتونس بعد ظهور “الحشد الشعبي” الذي وصف بالخطر” الداهم الذي يهدد أمن واستقرار التونسيين”، وسط تحذيرات من طبيعته ومن يقف وراءه، وعن أسباب ظهوره في هذا الظرف الذي تعرفه البلاد.) وحتى تتبدّد هذه المخاوف( دحض رئيس مجلس قيادة الحشد الشعبي التونسي، (أنيس ڨعدان)، في حوار خاص لـ”عربي21″، كل الاتهامات والمخاوف، مؤكدا أنه حراك مدني، ولا علاقة له بالحشد العراقي.)(3)
وأضاف رئيس مجلس الحشد الشعبي: (والحشد في تونس تم اختياره للإبتعاد عن الأسماء المبتذلة، التونسي أصبح له احتراز من كلمة “تونس، وطن، قلب تونس، نداء تونس..” وهي لا تعبر عن التونسيين، الحشد الشعبي لا يمكن تحميله أكثر من الدلالة اللغوية، فهو جمع استقطاب للشعب التونسي، أما في العراق، فهو مسلّح، لكنه شأن داخلي، وهو العكس تماما، فنحن في تونس ائتلاف مدني يعترف بالدولة، وتحت طائلة القانون.)(4)
وكأنّ هذا المتكلّم باسم هذا الكيان نسي، أن الشعب أيضا لم يعد راضيا عن الجبهة الشعبية والتيّار الشعبي، حتى يضيف إليها الحشد الشعبي، وجهله بالحشد الشعبي العراقي الذي تأسس بفتوى مرجعية عليا استجاب لها الشعب العراقي فهبوا شيبا وشبابا علماء وعامة لإنقاذ العراق من داعش الإرهابية، ولولا هؤلاء الأحرار، لسقطت بغداد بيد أقوى تنظيم في الإرهاب التكفيري، وحتى لا ينخدع أحد بكلام هذا الرّجل، فيعتبر أن الحشد الشعبي العراقي خارج إطار القانون، ألفت نظره بأن الحشد الشعبي تأسس شرعيا، بفتوى من السيد السيستاني حفظه الله، وأُدرِج مستقِلّا ضمن القوات العراقية، المدافعة عن العراق في إطار القانون، فهو بالتّالي قانوني 100%، وليس كالحشد الشعبي في تونس، بيضة لا ندري عما ستُفقّس، هذا إذا صلُحت من أساسها، والأمثلة عديدة هنا لست بحاجة لذِكْرها.
وتأتي تسمية هذه المبادرة بالحشد الشعبي، لتحدث ضجّة في جميع أوساط الشعب التونسي، ليصل صداها إلى الإخوة العراقيين فيرحّب منهم بهذا التأسيس، وفي اعتقاده أنه شبيه بحشد العراق، فينعكس ذلك سلبا على هؤلاء المؤسسين في تونس، فوق سلبية التسمية، من حيث كونها بعيدة كل البعد عن جميع دوافع وأهداف وتشكيل الحشد الشعبي العراقي، فما الذي دها هؤلاء إلى استعارة هذه التسمية؟
لو كانت عفوية في استعمال المصطلح اللغوي للحشد الشعبي، ففي ذلك دلالة على أن من أطلق هذه التسمية، هو أبعد ما يكون عن السياسة ومجالاتها، وقد حكم على مشروعه بالفشل الذريع مسبقا، أمّا إذا كانت التسمية مقصودة، والهدف منها إشاعة أن هذا التيّار مناصر للرئيس قيس سعيد، فيَحْمِلُ من خلال تسميته هذه مجالا، لإتهام الرئيس بالتشيّع وإتباع إيران، وهذا ما تحاول أطراف نهضاوية معادية له، تلفيق هذه التّهم عليه، من بينهم فيلسوف النهضة أبو يعرب المرزوقي.
عندما تضيق آفاق التسميات الرّحبة في لغتنا على ذوي الفكر السياسي في تونس، يلتجؤون عادة إلى استنساخ التسميات الغربية، على أساس أن أصحابها ذوي سبق في عالم السياسة، لكنّ هذه الحالة فاجأت الجميع، وأبقت على تساؤلات عديدة ستكشف عنها الأيام، ليبقى الدّافع والجدوى معلّمين بنقطة استفهام كبيرة إلى حين.
المصادر
1 – و2 – تيار المحبّة https://ar.wikipedia.org/wiki
3 – و4 – الحشد الشعبي بتونس: نحن حراك سلمي والأحزاب بلا مستقبل
https://arabi21.com/story/1379228/