ما نشهده اليوم في الساحة السياسية التونسية وما نعيشه يوميا من صراع خفي تارة وعلني تارة أخرى بين مختلف القوى السياسية وبين مؤسسات الدولة نفسها الممثلة في البرلمان ورئاسة الجمهورية والحكومة(المستقيلة ) يجعلنا لا نخفي مخاوفنا الحقيقية من الانزلاق نحو اعتماد الإستقطاب الثنائي و الإنقسام اللعين بين أبناء البلد الواحد .. فبلادنا لا تستطيع تحمل مزيد من الأزمات والفتن. ونحن الآن أمام الكم الهائل من الأزمات المتراكمة على مختلف المستويات، تتحمل النخبة السياسية مسؤوليتها في توجيه المسار إلى الاتجاه الصحيح أو السقوط المدوي المصحوب بموجات من العنف ستأتي على الأخضر واليابس و سيكون الشعب الضحية و الخاسر الأكبر في كل الأحوال.. بوعي أو من دون وعي من النخبة السياسية يجعل المشهد السياسي يتجه عموما إلى مزيد من الاستقطاب الثنائي الحاد ونحو الفرز والانقسام قد يؤدي إلى المواجهة وإدخال البلاد في دوامة من العنف (لا قدر الله)، الأغلبية لايدركون بأن البلاد تعيش على وقع أزمات اجتماعية واقتصادية ثقيلة، وفي ظل وضع إقليمي معقد ، تواصل النخبة السياسية انغماسها في معارك جانبية غالبيتها وهمية ومفتعلة و البعض ينظر للممارسة السياسية في تونس على أنها بحث عن الغنيمة والتموقع المصلحي وضرب الخصوم على قاعدة المصالح الضيقة و تصفية الحسابات السياسية ..
إن أزمة تونس تكمن في نخبها التي تتحمل الجزء الكبير من المسؤولية لأنها عجزت عن الفعل الإيجابي وظلت حبيسة معارك وهمية بين العائلات الأيديولوجية بعيدا عن مطالب الشعب وتطلعاته وهمومه. بل عمدت في العديد من المناسبات إلى استحضار صراعات قديمة لتصفية حسابات نحن في غنى عنها.
سيناريوهات المشهد البرلماني و السياسي بعد الجلسة العامة للنظر في لائحة سحب الثقة من رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي، ورغم سقوط اللائحة وبقاء الغنوشي في منصبه ورغم كل المحاولات التي هدفت إلى إسقاطه إلا أن حسابات الفوز والخسارة على المستوى السياسي لا تؤخذ بظاهر الأمور، على الرغم من سقوط لائحة سحب الثقة ، إلا أن حركة النهضة اليوم لا تعتبر فائزا في المعركة بقدر ما يمكن اعتبارها ناجيا من أسوأ نتائجها، فالأصوات التي صوتت ضد الغنوشي مع احتساب الأصوات الملغاة والبيضاء تعني حسابيا أن النهضة وحلفاءها لا يملكون الأغلبية البرلمانية مقارنة ب “97صوتا” مع سحب الثقة ، هذا على مستوى موازين القوى، أما على المستوى السياسي التصويت لا يعتبر تجديد ثقة للغنوشي لرئاسة البرلمان مقارنة بأن ما يقارب نصف البرلمان رافض لوجوده على رأس المؤسسة الأولى في البلاد و بالتالي سقوط اللائحة ليس انتصار لجهة معينة و كذلك سقوط الغنوشي ليس إنتصار لطرف معين، ولا يمكن ان نتحدث عن إنتصارات شخصية او فئوية في ظل ان البلاد في حد ذاتها لم تنتصر على الصراعات السياسية و الأزمات المعقدة ، فعن اي إنتصارات تتحدثون ؟
كل هذا الإنقسام و التشرذم البرلماني نتيجة برلمانا فسيفسائيا لا أحد يملك فيه الأغلبية المريحة، فعلى مدار ما يقارب السنة تغيرت التحالفات بين الكتل البرلمانية مرارا حتى ضاعت بوصلة الفرز وأصبح أعداء الأمس أصدقاء اليوم، والعكس صحيح.. ، سيناريوهات الجلسة العامة لسحب الثقة من رئيس البرلمان قد ترسم مشهد الخارطة السياسية و التحالفات القادمة و اصبح البحث عن الوحدة الوطنية شبه مستحيل و ان تم ذلك ستكون توافقات مغشوشة ولن تصمد طويلا..و ستؤثر على التحالفات وعلى المشهد السياسي في البلاد، سواء على الأمد القصير أو المتوسط أو البعيد, حين يكون من الصعب تشكيل حكومة وحدة وطنية و حزام سياسي قوي لتصمد أمام الكم الهائل من الأزمات السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية في ظل هذا الإنقسام الواضح و الإستقطاب الثنائي و الصراعات السياسية العقيمة..
قراءة لآخر المتغيرات في المشهد السياسي التونسي على ضوء هذا التصعيد، وتضاؤل فرص احتواء تداعياته، تنذر في مجملها إلى مقاربات تبدو محاورها محكومة بهاجس الانزلاق نحو المجهول.. تجعلنا نتساءل : متى تنتهي هذه الأزمة؟
في خضم هذه المتاهة السياسية المعقدة لابد من الدعوة إلى أخلقة الحياة السياسية ووضع هدنة سياسية من خلال حوار وطني شامل بين كل الأطراف على قاعدة تغليب المصلحة الوطنية والترفع عن الحسابات الشخصية الضيقة ، قبل فوات الأوان..!! كيف نسمح لأنفسنا نحن أبناء البلد الواحد بمختلف توجهاتنا بأن تتدخل في شؤوننا قوى معادية لإستقرار بلادنا بإفتعال ازمات ومكايدات لتبقى تونس رهينة الفوضى و الصراع الداخلي بين شعب واحد في بلد واحد، بعيدا كل البعد عن منطق الإيديولوجية العقيمة و العمياء.. عودوا إلى رشدكم ايها السياسيون و أنقذوا هذا الشعب المسكين و أنقذوا تونس الجريحة من هذا العبث الخارجي و الداخلي..
يبقي السؤال مطروحا : ماهي سيناريوهات المرحلة القادمة ؟