بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي |
رغم أنها ليست المرة الأولى التي تحبس فيها المخابرات المصرية قيادة حركة حماس، ومعها قادة الفصائل والألوية العسكرية الفلسطينية، داخل أروقة الفنادق أو في غرفٍ مغلقةٍ لإتمام المفاوضات واستكمال الحوارات الداخلية، ومحاولة إنهاء حالة الانقسام البغيضة بينهم، إذ سبق لها لعشرات المرات استضافة ممثلي القوى الفلسطينية جميعها، صغيرها وكبيرها، وجمعتهم لأيامٍ عدةٍ في فنادق القاهرة، بمن فيهم ممثلين عن السلطة الفلسطينية وحركة فتح، الذين يلبون دعوتها، ويستجيبون لرغبتها، ولا يعارضون مشيئتها، ويعلنون مباركتهم لجهودها وتأييدهم لمساعيها، رغم العقبات التي يضعونها، والشروط التي يفرضونها.
وكانت المخابرات المصرية تزف إثر الحوارات بشرى الاتفاق، وتبث بنود المصالحة، وتعد الفلسطينيين بغدٍ مشرقٍ وفجرٍ واعدٍ ومستقبلٍ جميلٍ، وتبشرهم بأن أيام الانقسام قد ولت، وأن تداعياته قد انتهت، ومظاهره العامة ستتلاشى وتزول، وستكون للفلسطينيين حكومة مركزية، وسلطة وطنية، يشارك فيها الجميع، ويلتحق بها الكل، وستكون انتخاباتٌ متعددة، ومؤسساتٌ أمنيةٌ وطنيةٌ مشتركة، وستتوحد الأجهزة، وستعمل الوزارات، وسيعود الوزراء إلى مكاتبهم في قطاع غزة، يزاولون أعمالهم بحرية، ويتابعون مهامهم بمهنيةٍ ومسؤوليةٍ.
وكانوا في كل مرةٍ يبشرون بانطلاق عملية إعادة إعمار قطاع غزة، وإعادة الحياة إلى طبيعتها، وخلق مشاريع اقتصادية حيوية كثيرة، تجلب الرخاء والراحة للمواطنين، وتخفف عنهم، وترفع الأعباء الملقاة على كواهلهم، وتخلق لهم آلاف فرص العمل الجديدة في مختلف المجالات، وذلك بعد رفع الحصار المفروض عليهم، وإعادة فتح بوابات السفر والنقل التجاري، ورفع الفيتو عن كثيرٍ من السلع والمواد الصناعية والعمرانية، التي تدخل في قطاعي البناء والصناعة، فضلاً عن وعودٍ أخرى كثيرة بتسهيلاتٍ كبيرة، وإغراءاتٍ كثيرة، وأحلامٍ ورديةٍ يتمناها الفلسطينيون ويطمعون يوماً في تحقيقها.
لكن أهل غزة خاصة والفلسطينيين عموماً كانوا يستيقظون من أحلامهم على واقع زيف المصالحة، وسراب الاتفاق، ووهم التفاهمات، إذ ما إن يعود المتحاورون إلى مناطقهم التي جاؤوا منها، حتى ينقلبوا على ما وقعوا عليه، وينكروا ما اتفقوا عليه، ويتبارون فيما بينهم في إطلاق التصريحات وتوجيه الاتهامات، وتحميل الآخر مسؤولية نكث الاتفاق ونقض التفاهم، ولعل الكثير من التصريحات المتبادلة عدوانية ومستفزة، وقاسية وغير مبررة، اللهم إلا من أجل التملص من قيود الاتفاق وضوابط المصالحة.
أما في هذه المرة فقد يكون الأمر مختلفاً، والنتيجة مغايرة لما تعودنا عليه في التجارب المقيتة السابقة، فقد سهلت الحكومة المصرية لأكبر عددٍ من قيادات حركة المقاومة الإسلامية “حماس” العبور إلى قطاع غزة، بعد أن أخذت ضماناتٍ إسرائيلية بعدم المساس بأيٍ منهم، أو اعتراض طريقهم، أو عرقلة اجتماعاتهم أو التشويش عليها، حيث ستكون هناك اجتماعاتٌ مفتوحةٌ للمكتب السياسي لحماس بحضور ومشاركة أغلب أعضائه، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الحركة، التي أعطيت الفرصة الكافية والوقت المطلوب والحرية الكاملة لإتمام اجتماعاتها، وإجراء مناقشاتها ومشاوراتها الداخلية، كي يخرج رئيس مكتبها السياسي بعد أيامٍ قليلةٍ لن تطول بالتأكيد، بقراراتٍ مصيرية، ستكون بالتأكيد مختلفة عن سابقاتها، وستتمتع بقوة التنفيذ وإرادة الفعل التي افتقرت إليها في نسخها القديمة.
تعلم القوى الفلسطينية مجتمعة في غزة، ومعها السلطة ورئيسها في رام الله، أن الوقت ليس في صالحهم، وأن الظرف العام لا يخدمهم، وأن الموافقة مفروضة عليهم، إذ أن الخيارات البديلة ليست في صالحهم، فضلاً عن أن تهديدات المخابرات المصرية جادة، ومخاوفها حقيقية، وتحذيراتها للفرقاء للمرة الأخيرة جداً حازمة.
فهي تطالب الحكومة الفلسطينية ورئيسها في رام الله بالقبول بالورقة المقترحة والالتزام بها، بعد أن منحتهم الفرصة لمراجعتها وإجراء التعديل المناسب عليها، وإلا فإن مصر التي تتمتع بتأييد الإدارة الأمريكية ولديها الموافقة الإسرائيلية والمباركة الدولية، ستمضي مع حركة حماس والقوى الفلسطينية في قطاع غزة، دون انتظارٍ للسلطة أو التزامٍ بشروطها، وسترعى اتفاقاً بين قطاع غزة منفرداً وحكومة الكيان الصهيوني، على أن تكون هي الراعية والضامنة للطرفين معاً، وقد يكون لامتناع السلطة في رام الله عن المشاركة تداعياتٌ أخرى أكبر من قدرتها على التحمل، وهي التي تشكو من كثيرٍ من الأزمات.
وفي الجانب الآخر تقول المخابرات المصرية لقيادة حركة حماس ولقوى المقاومة الفلسطينية، التي سهلت لها اللقاء، وذللت لها سبل الانتقال وأجواء الاجتماعات الآمنة، بأن عليها أن توافق على الورقة المقترحة والشروط المبينة، سواء المتعلقة بعودة السلطة الفلسطينية وتمكين حكومتها في غزة، أو تلك المتعلقة بتوقيع هدنة طويلة نسبياً مع حكومة الكيان الصهيوني، مع ما تمليه هذه الهدنة من التزامٍ حديدي بشروطها، وخضوعٍ كاملٍ لبنودها، وتعهدٍ صريحٍ باستكمال مراحلها حتى النهاية، بما فيها التفاوض حول مصير جنود العدو الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية.
لا تخفي المخابرات المصرية في حواراتها مع قوى غزة مخاوفها الحقيقية وقلقها المشروع، بأن البديل عن القبول والالتزام بالهدنة المقترحة هو الحرب، والمزيد من الضغط والحصار، واستئناف سياسة الاغتيال والتصفية، واستهداف قادة المقاومة من مختلف الأجنحة السياسية والعسكرية والأمنية، وتؤكد بأن حكومة العدو جادة في تهديداتها، وعازمة على تنفيذها، وأن الإدارة الأمريكية تؤيدها وتقف معها، وهي التي تحمل لقطاع غزة خاصةً والقضية الفلسطينية عموماً أفكاراً غريبة وتصوراتٍ شاذةٍ، قد تجد المبرر لترجمتها عملياً في حال تعذر الاتفاق، وعاد التوتر إلى قطاع غزة ومحيطه من البلدات والمستوطنات الإسرائيلية.
بعيداً عن التهديد والوعيد، وبغض النظر عن سياسة العصا والجزرة التي يستخدمها العدو وحليفه، أو تلك التي يلوح بها وينقلها الوسطاء والرعاة، التي قد تكون صحيحة وحقيقية، أو كاذبة ووهمية، فإن سكان قطاع غزة في حاجةٍ إلى مرحلة هدوءٍ وراحة، واستجمامٍ واستشفاءٍ، فقد أصابهم الشقاء والتعب، واعتراهم الجوع المرض، ونزل بهم البأس والسقم، وحلت بهم محنٌ وعللٌ، وسكنتهم أدواءٌ وأوجاع، وآن لهم أن يستريحوا قليلاً من عناء النزف المستمر والجهد المتواصل، والفقر المذل والجوع القاتل، ذلك أننا بهم ننتصر وبصبرهم نقوى، وبغيرهم نضعف ونفقد منعتنا الحقيقية، وتتفكك جبهتنا الداخلية، ونصبح نهباً للعدو وعرضةً لهجماته، فهل إلى تضميد جراحهم وكفكفة أحزانهم ومداواة مرضاهم، ومسح الدمعة من على عيون أطفالهم من سبيلٍ.