يقال لا حكم للنوايا الحسنة في السياسة.ومن الصعب التيقن بخطوات اللاعبين الكبار خاصة أولائك أصحاب التاريخ المر, والذي يكتب في صفحاتهم حين الحديث عما صار وماذا جرى، تماما مثل الزيارة الى أرض السعودية والإجتماع السري في (نيوم) بين نتنياهو وولي العهد السعودي محمد بن سلمان والذي أثار الجدل بشكل أساسي في عملية نشر وجوده وتوقيته ومضمونه.
وما بين النفي والتأكيد الذي أصبح واقع حال لكل الحكومات العربية, نلاحظ أن التسريبات كانت مدروسة وفي وقتها فالمطبخ السياسي الصهيوني مزدحم لذلك أعطتهم الرقابة العسكرية الضوء الأخضر للنشر بالرغم من أن الزيارة سرية ولا يعلم بها حتى كبار أعضاء الحكومة، بمن فيهم بيني غانتس ووزير الخارجية غابي أشكنازي.ففي نفس وقت أقلاع الطائرة من الكيان المحتل، كان وزير الدفاع بيني غانتس يعلن عن لجنة التحقيق الحكومية في شراء غواصات للبحرية الصهيونية وتورط نتنياهو.
أما من ناحية الرياض, فكان الظهور الإعلامي لمستشار الأمن السعودي الأسبق بندر بن سلطان مثيرا للتساؤل و بأن المملكة ذاهبة الى التطبيع، كذلك لم تكد تمض سوى 48 ساعة على إعلان وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود بأن بلاده تؤيد بشكل كامل تطبيع العلاقات مع الكيان, حتى يعود في اليوم التالي وينفى أي زيارة تطبيعية بين الطرفين .
ولنسجل هنا، أن خبر اللقاء السري المسرب جاء بعد هزيمة ترامب الإنتخابية, وبعد فوز جو بايدن ، ويشي بأنه من الواضح لكلا الجانبين الصهيوني والسعودي أن الرئيس الأمريكي المقبل لن يواصل المسار الذي إتخذه دونالد ترامب في غالبية القضايا الإستراتيجية. وعلى المطبعين ان يفهموا أن البيروقراطية الأمنية والإستخباراتية الأمريكية مسيسة بمعنى أنها مأهولة بالموالين للحزب الذين يحددون مصالحهم على أنها نفس مصالح الديمقراطيين. لذلك ستأخذ اللعبة أشكالا مختلفة .
وأكثر من تقرير إستخباراتي أفاد أن العلاقة الخاصة التي تتشكل بين الكيان الصهيوني ودول الخليج كانت في طور التكوين قبل فترة طويلة من دخول الرئيس الخامس والأربعين البيت الأبيض. بدأت في أعقاب العمليات الإقليمية التي تعود إلى التسعينيات وإشتدت حدة في أعقاب الربيع العربي منذ حوالي 10 سنوات. وإستمرت بسقوط الأنظمة في العالم العربي ، إلى جانب التهديد من كل من إيران والخط الإنعزالي المتزايد في إدارة أوباما، وخلال رئاسة ترامب ساعدت على إثبات ذلك علنيا.
فما ماهية أسباب الزيارة لكل من الكيان المحتل.. والسعودية:
* بالنسبة للسعودية الأزمات السياسية داخليا وخارجيا و فشل سياساتها في المنطقة خاصة في لبنان واليمن وقطر وتركيا وإيران، والأوضاع الإقتصادية والإجتماعية الصعبة ،والتطور الكبير والمتصاعد في العلاقات العربية و”تل أبيب” الأمر الذي سيضعف دور المملكة إذا ما تأخرت في اللحاق بركب تلك الدول.
* الوضع الخاص للأمير محمد بن سلمان، بعد فوز بايدن ، إذ يشعر بن سلمان بخسارة المظلة الأمريكية التي كانت تحميه من كل التجاوزات التي مارسها في الداخل ضد المعارضين السعوديين وخاصة قضية قتل جمال خاشقجي، وملفات حول الديمقراطية، وإنتهاكات حقوق الإنسان. والتخوف على مستقبل ولاية العهد، كما زاد من مخاوف الرياض أن لبايدن علاقة ممتازة مع ولي العهد السعودي السابق محمد بن نايف الذي تم تهميشه ولذلك فإنه لم يتبق لإبن سلمان إلا السعي لتوفير دعم صهيوني إستباقا لأي قرار أمريكي بإزاحته .
* صحيفة غلوبس الصهيونية قالت أن اللقاء هدفه بيع السعودية منظومات سلاح إسرائيلية رغم القرارات برفض حصول السعودية على سلاح نوعي بالقول أن النظام السعودي يمكن أن يسقط ويصل هذا السلاح إلى الأيدي “الخطأ”. رغم أن كيان إسرائيل يمارس ضغوطا على نواب في الكونغرس لتمرير قوانين تحظر تزويد السعودية بسلاح “كاسر للتوازن”.
* قد يراهن إبن سلمان على اللوبي الصهيوني في امريكا ، بعدما أصبحت دول الخليج أقل إعتمادًا على الترتيبات الأمنية الأمريكية ، ومحاولة إضفاء الطابع الرسمي على العلاقات مع كيان إسرائيل الآن كقوة موازنة للضغط الأمريكي.وهو رهان ليس في محله وستكون الخسارة وخيمة .
* الوهم بالتهديد الإيراني الذي هو دخان إعلامي وستار سياسي يتم إستخدامه منذ عام 1974 رغم التدخلات الإيرانية في المنطقة والتي لا تقل عن التدخلات التركية او الروسية او الصينية مثلا ! فهل التدخلات الصهيونية هي الأسلم ؟؟والمتوقع من بايدن بإعادة فرض الاتفاق النووي الإيراني المعدل وقضية العقوبات ، ولا نظن أن هنالك اي عمل عسكري ضد ايران ..الا اذا كانت لحظة جنونية من قبل ترامب .وهو أمر ليس في صالح أحد . خاصة و أن محادثات الزيارة كانت أيضاً حول تعامل إدارة ترامب مع إيران في الشهرين المتبقيين من ولايته.
*رغم خطة بايدن حول حل الدولتين في القضية الفلسطينية إلا أن هنالك إختراق كبير في العلاقات بين القدس والرياض. قد نشهد إتفاقا ما سواء في شكل معاهدة سلام كاملة أو إنهاء العداء المتبادل كما كان الحال مع السودان ، ومن شأنه أن يغير الديناميكيات الجيوسياسية في المنطقة…يوافق التصريحات من المقاومة الفلسطينية بأن إسرائيل تسعى بذلك الى ما هو خطير في المنطقة .
* ولي العهد أبن سلمان لن يقدم على التطبيع إلا بعد أن يعرف موقف بايدن النهائي منه، وإلا يكون كالقفزة في الهواء لكنه سمح بالكشف عن إستقباله نتنياهو للتدليل على “نواياه”.
*سبق للكيان أن وقع على إتفاق لتصدير جزء من نفطه عبر أنبوب “إيلات عسقلان” وجاهر الكيان أنه معني بنقل النفط السعودي عبر أنبوب بري طوله 750 كلم يربط منشأة “بقيق” في الشرق السعودي بمرفأ إيلات ومن هناك عبر الأنبوب إلى أوروبا. بحيث لا يمر عبر قناة السويس، مما يمس بعوائد القناة ومكانة مصر الجيوإستراتيجية وهذا يضع السيسي بين فكي الكماشة .
* أثيرت قضية ضربات الحوثيين في اليمن على منشآت نفطية ومواقع أخرى في السعودية. ووقع مثل هذا على منشآت شركة النفط السعودية أرامكو في جدة واهتمام الرياض بشراء أنظمة إسرائيلية للحماية من مثل هذه الهجمات .وكذلك قضية مدينة الكلام المعروفة باسم “مدينة المستقبل” في السعودية ، كمدينة رقمية متطورة ، تلقى نتنياهو تفسيرات من ولي العهد، حول ماهية هذا المشروع .
* و صهيونيا لا يغيب عن المحللين ان نتنياهو معني بتوظيف محمد بن سلمان في المنازلة الداخلية الصهيونية لتقليص الإهتمام بقضايا الفساد القديمة والجديدة التي أثيرت ضده بعد اتهام وزير الدفاع غانتس لنتنياهو بذلك صراحة. فالزيارة مكسبا سياسيا خاصا له، ليعزز حضوره السياسي الداخلي والخارجي ويكمل مسار تمزيق العالم العربي ويضعف موقع المواجهة ويحدث ضعفا في الموقف الفلسطيني ويؤدي الى مزيد من استهداف قوى المقاومة في المنطقة، كما أنه يمنح نفسه قوة أمام الرئيس الامريكي الجديد.
نعلم أن الشعب السعودي يعارض التطبيع كحال جميع الشعوب العربية والإسلامية، وربما قد نشاهد هذه الشعوب تنتفض بالملايين في الشوارع لمعارضة هذا المسار السياسي وأن مهزلة التطبيع لا قيمة لها أمام الشعب الفلسطيني الصامد المقاوم على أرضه.
لكن بلا شك أن الحكومات العربية ستكون هي الخاسر الأكبر. كما أنها ستترك لتواجه مصيرها بنفسها …
* كاتبة اردنية