يطلع علينا بين الفينة والأخرى من يتباكى على قرون التجمد الحضاري خارج التاريخ في ظل الاحتلال العثماني، بذريعة أن ما تلاه كان تجزئة واحتلالاً وتبعية للغرب، والمؤسف أن بعض هذا الأصوات محسوبة على محور المقاومة، وتتبنى موقفاً مناهضاً للصهيونية وللهيمنة الغربية على المنطقة. لذلك لا بد من تصويب السجل التاريخي والسياسي هنا نظراً لخطورة مثل هذا الطرح، لا سيما عندما يصدر عن جهات ذات مصداقية وطنية ما عدا ذلك…
أولاً، كان التأخر الحضاري الذي فرضه العثمانيون، والانكماش السكاني والضعف العسكري والسياسي والاجتماعي المواكب له، هو العامل الرئيسي الذي مكّن الغرب من احتلال شمال إفريقيا برمته، ومن التغلغل في المشرق العربي، لا سيما التغلغل الصهيوني في فلسطين في ظل عبد الحميد الثاني. ففكرة أن العثمانيين حمونا من الاحتلال الغربي عبارة عن هراء.
ثانياً، كان العثمانيون في معظم القرن التاسع عشر حلفاء لغرب أوروبا في مواجهة روسيا، وحلفاء للأوروبيين في مواجهة مشاريع النهضة العربية، ولننتبه جيداً أن جيوش خمس دول أوروبية (كافرة؟) احتلت بلاد الشام وأخرجت إبراهيم باشا منها وسلمتها للخلافة العثمانية، فما سمح باستمرار الخلافة العثمانية في القرن التاسع عشر هو الغرب الكافر نفسه، في مواجهة القومية العربية، العدو الحقيقي للغرب.
ثالثاً، عندما نشبت الثورة العربية الكبرى، كانت “الخلافة العثمانية” قد أطيح بها، وكان الاتحاد والترقي قد وصل للسلطة عام 1908، ورسمياً عام 1909، وكان مشروع التتريك قد أسفر عن وجهه الدموي، وكانت النزعة الطورانية قد أصبحت قانوناً رسمياً بعد أن كانت تتخفى بعباءة دينية، فقصة أن العرب ثاروا على العثمانيين ليست دقيقة، فالمعركة كانت مع الاتحاد والترقي.
رابعاً، حقيقة تعاون قيادة الثورة العربية الكبرى مع الاحتلال البريطاني يجعل من تلك القيادة خائنة لمبادئ الثورة العربية نفسها، ولا يجعل من مشروع الوحدة العربية والتحرر من أي احتلال، سواء كان عثمانياً أم غربياً، فكرة “خيانية”.
خامساً، من ينشرون الحنين للمشروع العثماني الرجعي المتخلف المحمي من قبل الاستعمار الأوروبي خلال القرن التاسع عشر يقدمون غطاءً للهيمنة التركية المعاصرة على بلاد الشام والعراق، فانتبهوا.
سادساً، بعض الأخوة في محور المقاومة ممن يقدمون مثل هذه الطروحات يصبون في خانة محاربة الهوية العربية لبلادنا وبالتالي يصبون في مشروع “الشرق أوسطية”، سواء تحت غطاء إسلاموي أم مشرقي أم صهيوني أم غربي، لا يهم، لكنهم يحملون معول التهديم الذي يتقاطع مع المشروع الأمريكي-الصهيوني، عن حسن أو سوء نية.
سابعاً، اعتبارات السياسة والتحالف السياسي شيء، والتهجم على الهوية العربية شيء آخر، ومن يتحالف معنا على رأسنا وعيننا، لكنه يجب أن يفهم أنه يتحالف معنا كعرب، لا كشيء آخر، ويجب أن نفهم نحن العرب أننا من دون مشروع عربي خاص بنا سنبقى هشيماً تذروه الرياح…