بعد عشر سنوات من التدحرج والإنحدار يبدو أننا بلغنا القاع، فإذا كان الوضع الاقتصادي سجّل انهياراً مرعباً في هذا العقد مع الزمن تدحرجت معه كل المؤشرات واشتعلت الأضواء الحمراء في كل مفاصله وشرايينه…وإذا كان الوضع الاجتماعي قد شهد بدوره انهياراً مروعاً حيث تصاعدت نسب الفقر والتهميش وطارت أرقام البطالة وانخرمت القدرة الشرائية للمواطن… إذا كان الأمر بالنسبة لأوضاع البلاد الاقتصادية والاجتماعية على هذه الشاكلة فإن المُمسكين بزمام الأمور ظلّوا يتناوبون على العبث بمقدرات البلاد و بمصالح العباد ، فالشعوب تختار من يحكمها كي يوفر لها سبل العيش والحياة الكريمة، لا ليحقق مصالحه وطموحاته السياسية والأيديولوجية في الحكم وبناء نموذج وهمي لا يسكن سوى خياله المريض.. حتى عمّ الغضب كل أرجاء البلاد وانتفض الشعب و أماط الغطاء عن طبخة فاسدة تعفّنت وانتشرت رائحتها الكريهة معلنة سقوط منظومة كاملة استغلت الديمقراطيّة لتحقيق أهدافها السياسيّة وللتموقع على الساحة ومن ثم الإستحواذ على الحكم و السلطة و على الدولة بكل أجهزتها وعلى كل آلياتها وأدواتها.. وحتى المسار السياسي الذي كان يتباهى به البعض فقد ظلّ على مدى السنوات والشهور يتلقى ضربات موجعة… كانت آخرها الضربة القاضية التي أسقطت المنظومة الفاشلة والمفلسة.. فشل منظومة الحكم في بناء دولة القانون وتحقيق التنمية وصون كرامة التونسيين ؛ كلها عوامل أسهمت في ترسيخ الوعي بأن تلك الحصيلة تتحملها منظومة أنانية احتكرت السلطة والثروة على حساب مصلحة البلاد و العباد..
لا يحتاج تشخيص الأزمات السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية إلى كثير من التعمّق والبحث والتحليل، فجميع الأسباب باتت واضحة وصريحة، لكن المشكلة الرئيسة كانت ولا تزال في حلول تلك الأزمات.. مشكلتنا في تونس أنّ بناء الدولة طيلة السنوات العشر الماضية لم يكن في حالات عديدة غاية القوى السياسية أو الحزبية أو الاجتماعية، بقدر ما كان حاجة لبعضها للتسلّط و التعامل مع الدولة بعقلية الغنيمة، وبالتالي تم بناء منظومة “أنانية_ غنائمية” تستحوذ على كل شيء، في دولة لا تملك من يراقب ويحاسب في مؤسساتها ، وهذه كلها نتاج طبيعي أفرزتها وبلورتها وقادت إليها منظومات الفساد السلطوي التي لا تخضع لأي قانون، ولا تجد من يحاسبها أو يراقب أعمالها..مما جعل الدولة تبقى في دوامة من الفشل والشلل السياسي الحاد.. و بالتالي ؛ محاسبة الفاسدين و تفكيك منظومة مافيا المال والسياسة التي تتحكم في مصير تونس هي الأولوية القصوى من أجل إنقاذ ما تبقى من الدولة..
قد إتضح أنّ النظام السياسي ، الذي كرّسه دستور 2014، هو المتسبب الرئيسي في الأزمة، التي تشهدها تونس حاليا، حيث تتوزع وفقه السلطة التنفيذية بين طرفين، رئيسيْ الجمهورية والحكومة، مع صلاحيات أوسع للثاني، ، فهو ليس نظامًا برلمانيًا ولا نظاماً رئاسياً قائماً على الفصل بين السلطات، كما في الأنظمة البرلمانية و الأنظمة الرئاسية التي تقوم على الفصل بين السلطتين، التنفيذية والتشريعية..، و التونسيون يجدون أنفسهم ضحية نظام سياسي هجين لا يمكن أن يقود إلاّ إلى إعادة إنتاج ما يُسمى بسياسة التوافق المغشوش بمنطق الغنيمة و لا شيء غير الغنيمة على قاعدة هذا ما يريده الشعب و في الحقيقة الشعب لايريد ان يستمر هذا الوضع المشؤوم مع منظومة الفشل الذريع.. الأزمة التي تعيشها تونس ، أزمة حكم بإمتياز ،، اقتسام السلطة السياسية على قاعدة المحاصصة بين أحزاب متحالفة قد أدى إلى تشكيل حكومات ضعيفة و مسلوبة الإرادة نتيجة ما فرضته الحسابات السياسوية الضيقة ، تلك الحكومات سرعان ما تسقط دون أن تقدر على إنفاذ مشاريعها، لأن رئيس الحكومة لا يمكن أن يكون سوى كبير للموظفين خاضع لنفوذ الأحزاب المتحالفة… التوافق المغشوش بمنطق الغنيمة و تقاسم النفوذ و المحاصصة على قاعدة الولاء والنفاق السياسي والانتهازية اللّا أخلاقية ليست سوى حيلة سياسية و ضحك على ذقون الشعب ..و تحول المشهد السياسي إلى “ديمقراطية بلا ديمقراطية” أو إلى ديمقراطية شكلية ، تبيّن جليّاً أن المشاركة السياسية للمواطن التونسي تقتصر فقط على مجرد الإدلاء بصوته من انتخابات إلى أخرى.، وقد اتضح بعد مُراكمة التجارب أن هذا النظام السياسي الهجين هو سبب الأزمة، وهو يحتاج إلى إصلاحات عميقة ، و ضروري عدم السماح بديمومته..
أمام جشع المنظومة الحاكمة وتعنّتها، ومحاولات اختطاف الدولة وسلطاتها، لم يجد الرئيس قيس سعيّد حلاً سوى تفعيل الفصل 80 من الدستور و إنحاز إلى إرادة الشعب.. و يجب أن يدركوا أن الشعب الذي ثار على القمع والكبت و التفقير و التهميش و الإذلال ، قد دمّر كل حواجز الخوف ولم يعد بإمكان أي قوة كبرى أو صغرى أو جماعة أو حزب أن تفرض إرادتها عليه مرة أخرى.. و ما حدث يوم 25 جويلية ليس خروجا عن الشرعية بل إنقاذاً لها من الطغمة الحاكمة ومافيا الفساد التي هددت أركان الدولة..و لا مستقبل لتونس إلاّ بجمهورية ثالثة، لأن النظام السياسي الحالي ومعه النظام الانتخابي يأخذنا إلى الهاوية، ولا خيار سوى الدفع نحو خارطة طريق تمرّرنا بسلاسة و عقلانية إلى جمهورية ثالثة عادلة وتضامنية وديمقراطية تقطع مع الفشل الذّريع الذي تعيشه تونس من أزمة ثقة في الطبقة السياسية ومؤسسات الدولة وحالة التعفن السياسي في الخطاب والممارسة، وطغيان سلطة الأحزاب وحساباتها الضيقة على منطق الدولة والمصلحة العليا للوطن وتفشي منطق الغنيمة والمحاصصة والفساد السياسي..
من المؤكد أنّه لا اختلاف في توصيف ما حدث بأنّه تسونامي شعبي هزّ أركان منظومة الحكم على وجه الخصوص بل شمل أيضًا الطبقة السياسية برمّتها نخبًا وأحزابًا و مافيات المال و السياسة ورجال أعمال شكلت جزءًا من “السيستام”.. منذ أشهر كان هناك العديد من المؤشرات التي تفيد أنّ هناك شيء ما سيحصل كردّ فعل على فشل المنظومة السياسية التي حكمت البلاد بعد الثورة، فقد تعمّقت الهوّة بين الحاكم والمحكوم وزاد منسوب انعدام الثقة في الأحزاب الحاكمة وفي مؤسسات الدولة كما تفشى الفساد السياسي الذي تحوّل إلى عنوان مرحلة تنامت فيها القطيعة والنقمة بين الشعب و المنظومة الحاكمة ، و بين السياسيين المتصدرين للمشهد وعموم المواطنين في تونس العميقة في مشهد سياسي مشوّه ينخره الصّراع بين المشروعيّة الشعبيّة والشرعيّة السياسية ، تحاصره جائحة الكورونا، و تُغيّم عليه أزمة إقتصاديّة خانقة ، مشهد سياسي متحرّك صنعته النخبة السياسيّة بصراعها العبثيّ ليكتوي بها شعب صار يرفض مفهوم “الإنتقال الديمقراطي” وطول مساره إلى ما لا نهاية له..
لا شك في القول بأنّ سقوط السيستام تمثل إنعطافة تاريخية ستكون لها تداعيات على المستقبل القريب وهو ما يفسر الهيجان والتوتر المسعور الذي صاحب بعض ردود الفعل من قبل منظومة الحكم ورموزها وأدواتها التي يبدو أنّها لم تستفيق من الصدمة ، فعوض أن تستوعب الدرس بشكل موضوعي عقلاني للبحث عن أسباب هذا الحراك الشعبي العقابي المزلزل ومحاولة التكيف مع المعطيات الجديدة هاهي تختار سياسة الهروب إلى الأمام بنفس الآليات القديمة بممارسات عبثية أضرت بالبلاد والعباد و ظلّت حبيسة أوهام انجازات طوباوية وسجينة لحرب مواقع السلطة دون أن تراعي التحولات الاجتماعية ونبض الشارع التونسي..و كلّما اشتد عليهم الخناق الاّ ونادوا بالحوار وبالتالي تونس اليوم وصلت الى مرحلة أخرى حاسمة لا يمكن الرجوع عنها بالحوارات “البيزنطية” ، و إعادة نفس المنظومة الفاشلة والمفلسة إلى الحياة وهي رميم ومحاولة نفخ روح المشروعية فيها عمل ساذج للغاية و بمثابة إعادة إنتاج نفس الفشل الذريع.. حراك 25 جويلية 2021 حمل في طياته رسائل متعددة الاتجاهات، تتمحور كلها حول حقيقة واحدة: لا شرعية إلاّ للشعب..
فلا شرعية تبرر اهتراء منظومة الحكم بهذه السرعة في ظرف زمني وجيز و يُسقطها الشعب ، وهي التي يفترض أنها تعبر عن إرادة الشعب، ولا شرعية تبرر الإصرار على التمسك بنظام فاشل وعقيم تُنادي شرائح واسعة من التونسيين على ضرورة تغييره وإصلاحه، لا بل إن بقاءه كما هو بات يمثل خطراً على ما تبقى من الدولة وعلى مستقبل بلادنا، لأن الشعب لن يصبر على سنوات عجاف أخرى زائفة ومخادعة على غرار التي سبقتها، ما دامت الوجوه هي نفسها والممارسات والأفكار هي نفسها والأحزاب هي نفسها و التحالفات بمنطق الغنيمة هي نفسها وإن تغيرت أسماء بعضها، لأن ذلك سيقود البلاد إلى التهلكة..
أرى أن الوضع الذي تعيشه البلاد على جميع المستويات لم يعد يحتمل مزيدا من الاستمرار، وأن الحل الوحيد لتدارك الوضع هو تنظيم استفتاء شعبي يُسْأل فيه الشعب التونسي عن نوع النظام السياسي الذي يجب اتباعه، و من شأن نتائج الإستفتاء أن توضّح إمّا تعديل الدستور أم تعطيله تمامًا ووضع دستور جديد، والأهمّ أنه سيكون بمثابة مؤشّر هام لتحديد القوى التي ستُشكّل عملية الإنتقال من الجمهورية الثانية إلى الجمهورية الثالثة ، ومعرفة أوزانها الحقيقية، لا بدّ لنا أن نسأل إذا كنّا أمام أزمة حكم أم أزمة نظام وفي الحالتين لا يمكننا إطلاقاً الإستمرار في هذه الحالة المعقّدة..و من الضروري أن تتجدد الشرعية السياسيّة على أساس الثقة المتبادلة والتطلع إلى المستقبل بكل ثبات وإصرار على الإنجاز، بعيداً عن الشكوك والتجاذبات والجدل العقيم والولاءات الضيقة، وأن تعود للتونسيين المشروعيّة وسلطة الإختيار لإستفتائهم الحرّ والمباشر على النظام الانتخابي الذي يناسبهم ونظام الحكم الملائم والقيام بالإصلاحات المأمولة بما يُلبي طموحاتهم نحو قيام دولة عادلة تقطع مع الفشل و الفساد..