“المثقف الآن وردة حمراء في عروة بذلة النظام” يوسف القعيد
على سبيل التقديم:
يصعب الحديث عن “أدوار للمثقف” العربي عموما والمغربي على وجه الخصوص من دون تحديد هوية هذا المثقف الذي نتحدث عنه، ومرجعيته الفكرية، المعرفية، المذهبية، الإيديولوجية والسياسية… كما ان التباس وتداخل مفهومي الدور والوظيفة يجعلنا ملزمين بطرح سؤال ما المقصود بالدور الخاص بالمثقف هل هو وظيفة ام مهمة ام ابداع؟
وبما ان المثقف هو نتاج صيرورة تاريخية، فالأمر يجعلنا نتساءل هل هو من يكتب للإجابة عن شروط المرحلة التاريخية ومخاضاتها وتحولاتها ام من يسعى الى نفي المخاضات والالتباسات عن التاريخ؟ ام هو ذلك المثقف الذي يكتب ضد مسار التاريخ ليستبدل بذلك الحقيقة والموضوعية بالإيديولوجية بما هي تزييف للواقع وقلب للحقائق وتبرير للسلطة… ؟
ماهية المثقف والتباس ادواره:
لعله من نافل القول التأكيد على ان الحديث عن دور للمثقف يجر بالضرورة الى تعريفه اولا قبل الاطلاع على ادواره سواء التي أداها في الماضي أو التي توكل اليه مستقبلا.
إن النبش في التراث العربي يوصل الى نتيجة مؤداها ان كلمة “مثقف” لم تحمل الدلالة التي استخدمت في العصر الحديث، بينما اخد اللفظ شكله المستعمل حاليا – كما يشير الى ذلك محمد عابد الجابري – في فرنسا في حدود القرن 19. وعموما فالمثقف لا يتحدد وضعه بنوع علاقته بالفكر والثقافة، ولا بكونه يتخذ من العمل الفكري سبيلا لضمان عيشه، بل يتحدد بالنظر الى الدور الذي يلعبه داخل المجتمع، إما كمعترض أو ناقد لمشروع او مبشر بآخر او على أقل تقدير كصاحب قضية. هنا اود ان أوضح ان المثقف ليس هو من يوجد الثقافة فهي موجودة بدونه، اما هو فيعمل على نقلها من حالة السكون الى حالة الحركة دون ان يجزم بانه هو موجدها (اي الثقافة).
ان المثقف، حسب الجابري، هو ذلك الذي يلتصق بهموم وطنه وبهموم الطبقات “المقهورة” و”الكادحة” وهو بذلك يقصد “المثقف العضوي “، الذي نحتفظ له بتمثل عن مثقف السبعينات والثمانينات والذي كانت اطروحاته وآراؤه حاضرة في مناقشات ومرافعات الطلبة في الجامعات والملتقيات، مثلما كانت آراؤه تناقش داخل المقرات الحزبية عند الحديث عن الصراع الطبقي ومداخل ثورة البروليتاريا، وهو نفس المنحى الذي ذهب اليه غرامشي الذي رفض تعريف المثقف بانه هو حامل تصور النشاط الفكري او الذهني كمسالة او كخاصية متأصلة لطبيعة اجتماعية بعينها، اذ يعتبر غرامشي ان العمل اليدوي لا يخلو من فكر والعمل الذهني لا يخلو من جهد عضلي ومن تم فخاصية اعمال الفكر هي خاصية مشتركة بين كل افراد المجتمع يقول غرامشي في هذا الصدد “ان كل الافراد مثقفون في نظري… ولكن ليس لكل الافراد وظيفة المثقفين في المجتمع” فالمثقفون، اذن، –حسب غرامشي –يمارسون دورا حيويا في تكوين وبناء الايديولوجيات، لهذا ميز بين “المثقف التقليدي” الذي ينتسب الى الحقبة التي تسبق ولادة هذه الطبقة الجديدة وهو من يعتبر نفسه ينتمي لفئة قائمة بذاتها في استقلال تام عن الطبقات الحاكمة، انه مرتبط بنمط او اسلوب انتاج فهو يولد مع طبقة ذات دور اساسي في عملية الانتاج لهذا ارتبطت هوية المثقف التقليدي بثورات البورجوازية، وبين “المثقف العضوي” اي ذلك المرتبط بطبقة معينة حيث يقوم بتنظيم وظيفتها الاقتصادية انه “الاسمنت ” الذي يربط البنية الفوقية بالتحتية للمجتمع يقول في هذا الصدد: ” ان كل فئة اجتماعية ترى النور في بادئ الامر على ارض وظيفة اساسية، في عالم الانتاج الاقتصادي تخلق عضوا، في نفس الوقت الذي ترى النور فيه شريحة او عدة شرائح من المثقفين الذين يزودونها بتجانسها وبوعي وظيفتها الخاصة، لا في المضمار الاقتصادي فحسب وإنما في المضمار السياسي والاجتماعي ايضا… ” عن كتاب جان مارك بيوتي ” فكر غرامشي السياسي “ترجمة جورج طرابيشي ص 17-16(ملحوظة: غرامشي يستثني طبقة الفلاحين).
اما اليوم فقد التبست ماهية المثقف واختلطت ادواره، خصوصا وان التركيز على المثقف العضوي قد يحجب عنا الهويات والأدوار الاخرى للمثقف، الذي عادة ما ينتعش في لحظات الالتباس والصراع على اعتبار انه يعيش مخاضات هذا الالتباس و هذا الصراع…
مما شك فيه اننا نتفق على ان المثقف ليس واحدا ومن تم فدوره لن يكون واحدا وكذا مرجعيته لن تكون كذلك وبالتالي فوسيلته لن تكون واحدة كما ان أفقه لن يكون هو ايضا واحدا…. وللاستدلال على ذلك نستحضر مثال الحقل الثقافي المغربي الحالي الذي يشهد صراعا ثلاثي الاقطاب:
1. قطب المثقف الحداثي: والذي يدافع عن القيم الحداثية وعن الهوية العرقية (الامازيغية على وجه التحديد).
2. قطب المثقف الاصولي المتدين: الذي يدافع عن نظرته الذاتية للدين.
3. قطب مثقف المخزن/الدولة: والذي يدافع عن الدولة.
هذا الواقع ادى الى نتيجة حتمية تمثلت في تقلص دور “المثقف العضوي”، الذي تحدث عنه غرامشي، مما أدى الى تفجر صراع اصطدامي بين المثقفين. الذين اصبح لكل منهم دور مختلف تماما عن الاخر بحكم انشغالاته، التي اوجزناها عند حديتنا عن اقطاب الصراع الثقافي، كما تعززت أدوار جديدة لم تكن مألوفة من قبل وهي:
1. دور الدفاع عن أجندة “العقل الأمني والإعلامي للدولة” وهذا ما اصبح يقوم به “المثقف الدولتي/المخزني”.
2. دور رسم مآلات يوتوبية متفردة او ما يطلق عليه عادة “الخلاص اليوتوبي” وهذا ما يحسن فعله المثقف الاصولي/السلفي.
3. دور الدفاع عن قضية عرقية غير قابلة لأن تكون محط تنازل انطلاقا من مقولة “الحق الطبيعي”وهذا ما تجند له المثقف الحداثي/العرقي.
خلاصة القول ان هناك صعوبة أولا في تحديد دور تام ونهائي للمثقف، نظرا للالتباس الحاصل في طبيعة المثقف المتحدث عنه، إضافة الى الاختلاف الحاصل في مرجعية كل مثقف الفكرية، الايديولوجية، المذهبية والسياسية… وبالتالي اختلاف انتمائه الاجتماعي، هذا ما أفرز، بالضرورة، اختلافا في الآفاق والوسائل والمرجعيات ومن تم الأدوار وحتى الأنانيات.
دور المثقف بين الوجود والعدم:
إن كون المثقف ناقد اجتماعي ومنتج للمعرفة، بالنظر الى انه لا ينظر الى الثقافة على أنها معرفة فقط، وإنما هي سلوك ايضا، مادام هذا المثقف يسعى الى إجراء عملية تحويلية تستهدف تحويل المعرفة الى رأي , لكن هذا العمل لا يمكن عزله عن العلاقة الجدلية التي يربطها المثقف بالسلطة التي غالبا ما تجعله امام خيارين لا ثالث لهما: فإما أن يعرض عليه (أي المثقف) التخلي عن فاعليته ودفاعه عن القضايا الحقيقية، ومن تم تحويله الى مجرد “بوق “او أداة لتزييف الوعي وترسيخ الواقع كما هو، مع العمل على التخفيف من مستوى سخط وغضب ورفض الجمهور لهذا الواقع. وإما ان تدهسه عجرفة السلطة وتحجر عليه مجابهة مشروعه الفكري بوعي الواقع، ومن تم يصعب عليه تعزيز قيم الحرية وبناء منظومة للحقوق والواجبات (أحيل هنا كمثال على ذلك الى محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد اللذين اورد بعضا من روايتهما الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه “المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد”) علما انه في عصرنا الحالي أصبح المثقف التقني هو من يفرض صيغة للصراع مع السلطة متجاوزا بذلك حدود البلد الذي يعيش فيه.
لقد بدأنا نسمع في الآونة الأخيرة، وفي خضم التحولات السوسيوسياسية التي بدأت تعيشها المجتمعات وخصوصا العربية منها، عن تراجع لدور المثقف، بل ان هناك من بدأ يتحدث عن نهايته، بل موته، ولعل الدافع الى مثل هذا الحكم – من وجهة نظري على الأقل –هو الصورة التي رسمت للمثقف الذي آثر الفرجة على الفعل فلم تعد الساحة السياسية آبهة به في وقت اشتدت الحاجة اليه، إلا انه فضل الإنعزال عن الخوض (استحضر هنا كيف تم استوزار الفنانة “ثريا جبران” وإسناد وزارة الثقافة اليها في وقت كان هناك مثقفون لهم باع طويل في البحث العلمي أمثال عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، عبد الكريم الخطيبي و طه عبد الرحمان… وغيرهم كثير.
فهل هي رسالة سياسية الى هؤلاء المثقفين/المتفرجين مفادها أن ساحة الثقافة لايمكنها ان تكون للفرجة بدون مهرج؟؟؟؟) اضافة الى حجم التحولات ( وهذا هو الاهم) التي لحقت بالمجتمع والتي طالت بنياته الذهنية والسلوكية والاجتماعية، الامر الذي افضى الى بداية تشكل وعي جديد مختلف كثيرا عن الوعي الفردي والجماعي الذي عاشته الشعوب ابان انفتاحها على خطابات اليسار عموما , لكن انسحاب المثقف الملتزم والعضوي والممانع سواء في ذلك المثقف الأكاديمي او المعرفي/الرمزي او الاحتفالي/الجماهيري/السياسي/النقابي…. ( هذا الانسحاب ) ادى الى ظهور فراغ، وكما هي عادة الاغريقين الذين كانوا شديدي الحساسية من الفراغ، الذي عبر عنه هيروقليطس قائلا “الطبيعة تخشى الفراغ”، سيظهر بديل عن “الخطاب الثقافي” ألا وهو “الخطاب الاجتماعي”، لهذا اصبح المجتمع يعيش الآن دورا باهتا للفكر الحداثي في مقابل حضور طاغ للخطاب الاصولي اليوتوبي، وبذلك أصبحت حداثة الدولة مهددة، ولعله من نافل القول الاشارة الى ان العلاقة بين المثقف والسياسي قد اعتراها برود لابد من رصده واستيعابه في مساره التاريخي، وهو ان المثقف الآن لم يعد ذلك المناضل الحركي الذي يحضر بكثافة للاجتماعات وليس هو ذلك الذي يؤم الجماهير خاطبا فيهم فالمرحلة اقتضت على ان يتحول هذا المثقف الى دوره الطبيعي آلا وهو دور انتاج المعرفة التنويرية ويمكن استحضار نموذج الدكتور محمد عابد الجابري الذي فضل في لحظة تاريخية مفصلية أن يسلم مفاتيحه الحزبية والصحفية لأصحابها، وأن يتفرغ للبحث العلمي والفكري… إلا انه -ومن وجهة نظري – لابد من التنبيه الى ان التنازل والاستقلال ينبغي ان يحفظ للعلاقة بين المثقف والسياسي بريقها وإلا حدث فراغ: ليس بمعناه الفيزيائي المادي، بل الشامل لمختلف مجالات وميادين الوجود الانساني.
والملاحظ الآن ان الوعي الجمعي للدولة يشكو فراغا نظرا لالتباس قنوات التأطير وغياب مراقبتها… وهذا ما يجعلنا نرسم افقا مظلما للدولة مستقبلا.
ان الفضاء الآن يحتضن الكل، ووحده المثقف ذو الخطاب القوي والمبدع والبعيد المدى، هو الأجدر بأن يلعب دوره، اما تغييب كل الخطابات فإنه يقود الى المثقف الواحد، الذي يرسخ للفكرة الواحدة، مما يتسبب في “موت الثقافة والسياسة ” ومن تم “موت الدولة ” لأننا سنصبح إزاء عنف عشوائي غير مؤطر وغير مفكر فيه، كما هو الحال الآن في مجموعة من الاقطار العربية التي عاشت الربيع العربي.
رشيد عوبدة