«المُوسَى» و «الوِسَايَةُ» مقُولةً في القرآن الكريم…بقلم د. نعمان المغربي

«المُوسَى» و «الوِسَايَةُ» مقُولةً في القرآن الكريم…بقلم د. نعمان المغربي

مقدمة إشكاليّة:

«موسى» هو «بطل» القرآن الكريم. فقد جاء ذكر هذا الإسم به 136 مرّةً، بينما جاء ذكر «محمد» 5 مرّات. فإذا كان «موسى» بالنص القرآني هو موسى بن عمران المصري-الشامي، فسيكون الإشكال الكبير: «إذا كان بَطل القرآن / الرسالة الإلهيّة الأخيرة هو موسى بن عمران المصري- الشامي، فسيكون أهم رسول على الإطلاق وأعظم إنسان على الإطلاق هو موسى بن عمران المصري-الشامي».

أمّا إذا كان «موسى» بالإطلاق، من باب ﴿وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾، ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍۢ﴾، فسيكون «الموسى» هو صاحب «الوَسْي»/ «الوساية»، أي الصفة المشبَّهة من «وَسِيَ»، أي «الاستواء»[1]. فهو «القائم»، المقيم للناس على «الصراط» «السوي»، فهو المصلح، والمنقذ، من ﴿ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾، و رَأْسُهم محمد (ص):﴿ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(الزخرف، 43 ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ( الأنعام، 162و163).

  1. «الرّؤية» «الوَسْيَويّة» الأرقى عن الله تعالى: ضرورة إرساء «الجبل»:

         ﴿ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾، (الأعراف، 143).

كلنا «نجيء» اللهَ تعالى، بتفاوتٍ وجودي ومُجَاهَديّ، ل ميقاته، سواءً في الصلاة وغيرها. وهو يكلمنا، جميعا، الله تعالى سواءً بالنص القرآني، أو بالآيات الطبيعية والاجتماعية: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ ، حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ﴾؛ ﴿سَنُرِيهم آياتنا في الآفَاقِ وَفِي أَنفسهم﴾؛ ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة المُكَذّبين﴾. فحاشاه – أيُّ «موسًى»- أن يطلب من الله تعالى رؤيةً غير موضوعيّة، كما فعل الشعبُ اليعقوبيُّ (الشعب الشامي-المصري[2]): ﴿يَسۡـَٔلُكَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيۡهِمۡ كِتَٰبا مِّنَ ٱلسَّمَآءِۚ [أي ليس للأرض]، فَقَدۡ سَأَلُواْ مُوسَىٰٓ أَكۡبَرَ مِن ذَٰلِكَ. فَقَالُوٓاْ: (أَرِنَا ٱللَّهَ جَهۡرَة)، فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ بِظُلۡمِهِمۡۚ. ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ فَعَفَوۡنَا عَن ذَٰلِكَۚ، وَءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ سُلۡطَٰنا مُّبِينًا﴾ (النساء، 153). فهل من المعقول أن نطلب من النملة اكْتِناهَ كل الأرض وكلِّ العالم؟! وهل من المعقول أن نطلب من الكائن الإنساني المختلف جَوهرًا عن الكائن الخالق أن «يَرَاهُ» بالمعنى الرؤيوي الذي «يرى» به كائنا إنسانيًّا مماثلاً له في الجوهر، أي «أنسنة» الله تعالى و«إخضاعه» لأهوائنا؟!!

«الرؤية» حقّ. ولكنّنا لم نَرَ نواةَ الذرَّة، بل رأينا حَركتها وسحابَها، ولم نَر الذّرة بقدر رؤيتنا لحركتها ولقيمها الأرْقَاميّة. ونحن «نَرى» الكوكب والنجم قبل ولادتَيْهما، لأننا رأيناهما عَقلاً وتعدَادًا.

في حالة أيّ رسول، هناك شَرْطٌ لكيْ يُصبح النبيُّ «موسًى»، هو أنْ يَجعل لنفسه «جَبَلاً». و«هَارون» في اللغة العربيّة-السريانية هو «الجَبَلُ». فلنْ يستطيع الرسول أن يصلَ مرتبة «الوِساية» إلاّ اذا استطاع  أن «يَصنع» (في مقابل «صنع» الله تعالى له) «هارونًا»[3]. فيجب أن «يَنظُر» ﴿إِلَى الجَبَل﴾ المُفْتَرض، بتربية «وَسْيَوِيّة»، ﴿فَإِن اسْتَقَرَّ مَكَانهُ﴾، أي أصبح «جَبَلاً» راسخًا، ثم أصبح بعد رسُوخه ورسُوِّهِ ﴿دَكًّا﴾ أي «فتى» في قيمة الخدمة الإلهية للناس وفي العبادة المطلقة لله تعالى (بالآن نفسه، فلا سابقيّة لكل واحدة منهما على الأخرى)، هُنالك يُطَمْئِنُ الإنسانيّةَ على أنّه «أتمَّ» و«أكمل» رسالَتَه الإلهية إذ جعل لها «خَليفتَهُ» واستمرارها، وهُنالك «يَخِرُّ» ﴿موسَى صَعِقا﴾ مِن الوجد وثِقَل المسؤولية على أمانة «الخلافة» الإنسانيّة ومن «الفرح» بالمنّ الإلهي عليه بـ«إتمام» الرسالة و«إكمالها»، فقد أصبح «فعلاً» ﴿أوّل المُؤْمِنِين﴾ بمرحلته، إذ أكمل كل «الابتلاءات». فيجب على كل «مُوسًى»، أن «يستخلف» هارونًا: ﴿وَقَالَ مُوسَىٰ [أيُّ موسًى من «المَوَاسي»] لِأَخِيهِ هَٰرُونَ﴾ (الأعراف، 142).

ولذلك فإن «الموسى» الأعظم، سيدنا محمدًا (ص)، لَنْ يكون ﴿أوّل المُسْلِمِين﴾ في التاريخ الإنساني إلاّ إذا أكمل رسالته وأتَمَّها بـ«صُنع» «هارُونِه»، عليٍّ بن أبي طالب (ع): ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ [إلى هاروتك، إلى جَبَلك، وأعْلم الناس بذلك النزول الأخير «الجبليّ» مِن نزولات رسالاتك] مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ﴾ (المائدة، 67). ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ [يوم «ميقاتِكم» و«ميقات» رسول الله وهارونه بالغَدير] وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِيناۚ﴾ (المائدة، 3). فهو ﴿رَبِّ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ﴾ (الأعراف، 122)، ولا وجود لهذا –ضرورةً- إلا بذاك.

فلا يمكن للمحمّدية أن تكتمل بدون «نَظرها» في «صُنع» «جَبَلِها» و«استقراره مكانَهُ» و«اندكاكه» تواضعًا في الذات الإلهية ولمخلوقاتها: «أنتَ مني بمَنزلة هارون [أيّ «هارونٍ»، أي «جَبل»] مِن موسًى [مِنْ أيِّ موسًى]»، (رواه مسلم والترمذي). فتبارك الله تعالى الذي «سَوَّى» أعظم «موسًى»، ليَصْنَعَ «على عينيه» أعظمَ «هارون »!!

  1. «الوِسايَةُ» تَتَطلّبُ «عَصًا» لـ«فَلْق» «البَحْر» التَّفَرْعُني:

    • النص القرآني هو ﴿آيات﴾/ رموزٌ وعلامات:

جاء في سورة يوسف أن كلَّ النص الإلهي الوحياني إنما هو ﴿آيات﴾، أي علامات وعِبَرٌ وسُنَنٌ: ﴿الٓرۚ، تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ﴾ (يوسف،1)، ﴿قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّا [بلغة عربية واضحة، وبلغة مُعْرِبَة] لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾ (يوسف،2)، أي لعلكم تعقلون «اليُوسفيةَ» و«الوَسْيَ» و«اللَّوْطَ» و«النُّوحِيّةَ» و«العَوْسَ». ﴿وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِ﴾ (يوسف،6)، من تأويل ذِكْرِنَا «اليوسُفية» وللآيات «النوحيّة» و«الإبْـ-راهيمية» و«الوَسْيَوِيَّة»، وغيرها: ﴿لَقَدۡ كَانَ فِي قَصَصِهِمۡ عِبۡرَة لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِۗ﴾ (يوسف، 111). فهي ليست مفتريات خرافةٍ أو «أسطورةٍ»، وإنما «اقتفاءٌ»، أي «قَصَصٌ»، ينبغي إعادة خلقها بإبداعية.

  • «البحر» التفرعني و«العصا»:

         «البحْر» في سورة البقرة الآية 50 إنما هو « البحر الأسود الزعاق الذي هو المادة الجسمانية لانفلاقها بوجودكم انفلاق الأرض من النبات»[4]: ﴿وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ﴾ (البقرة، 50). فلم يكن هذا «الانفلاق» إلا بـ«نظركم»، أي بـ«تدبيركم» الإيماني  و«اسرافيليتكم»[5]. و سيكون «ذو القرنين» (ع)  «إسرافيليا» كذلك : ﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾[6].

 

«البحْر» هو القاعدة «القروية» (=الاجتماعية) «التفرعنية» في أعلى موجاتها التاريخية: ﴿وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ [=من كل «مدينة» تفرعنية، و«بَحْرها» المتلاطم حيث] يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ، يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ. وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآء [=«بحر»] مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيم. وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ [=كذلك «البحر»]، فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ، وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ﴾ (البقرة، 49 و50).

وقد كان ذلك، لمَّا ﴿وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ﴾ : «النفس الأمارة المحجوبة بأنانيتها المستعلية على ملك الوجود ومصر مدينة البدن التي استعبدت هي وقواها التي هي الوهم والخيال والمتخيلة والغضب والشهوة والقوى الروحانية التي هي أبناء صفوة الله يعقوب الروح والقوى الطبيعية البدنية من الحواس الظاهرة والقوى النباتية. ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ﴾ يكلفونكم المتاعب الصعبة والكدّ والأعمال الشاقّة في جمع المال وادّخاره بالحرص والأمل وترتيب الأقوات والملابس وغيرها مما يكدح فيه الحرّاص من أبناء الدنيا ويستعبدونكم في التفكر فيها والاهتمام بها وضبطها وتحصيل لذاتهم التي هي عذاب لمنعها إياكم عن لذاتكم. ﴿وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ﴾ التي هي تلك القوى الروحانية عن العاقلة النظرية، والعاقلة العملية اللتين هما عينا القلب النظرية اليمنى والعملية اليسرى، والفهم الذي هو سمع القلب، والسرّ الذي هو قلب القلب، والفكر والذكر ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ﴾ القوى الطبيعية المذكورة بمنع الطائفة الأولى عن أفعالها الخاصة بالقهر والاستيلاء وحجبها عن حياة نور الروح ومددها وأقدار الطائفة الثانية عن أفعالها وتمكينها»[7].

ويكون انفلاق «البحر» «التفرعني» على مَراحل إثني عشر: ﴿فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ، أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡبَحۡرَۖ، فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرۡق كَٱلطَّوۡدِ ٱلۡعَظِيمِ﴾ (الشعراء، 63). فـ«البَحْر» التفرعني، يتحوَّل إلى «بحر» مِن «أعيُن» الخير والعَدْل والقسط، كل «عَيْن» «تنفجر» بقيادة «سِبْط» من «الأسباط» المحمدية الإثني عشر: ﴿فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ [=من «الموسى»، من «عصيان» «الوَسْيَويين» للفرعونية] ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡناۖ. قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاس مَّشۡرَبَهُمۡۖ﴾ (البقرة، 60). فكان «التحول» من «البحر» المِلح/الفرعوني، إلى «البحر» العَذب/«الوَسْيَوي»، المتخلّق من «العيون»[8].

و«العَصَا» في المَقْطَع «البَقْرِيّ»/«الباقر» للقرآن الكريم[9] إنما هي «العِصْيَانُ» سَواء كان للشيطان أو لله تعالى: ﴿وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ. فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡناۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاس مَّشۡرَبَهُمۡۖ. كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ﴾، ﴿وَإِذۡ قُلۡتُمۡ: (يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ طَعَام. وَٰحِد، فَٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُخۡرِجۡ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۢ بَقۡلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَاۖ). قَالَ: (أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيۡرٌۚ ٱهۡبِطُواْ مِصۡرا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلۡتُمۡۗ.) وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلۡمَسۡكَنَةُ، وَبَآءُو بِغَضَب مِّنَ ٱللَّهِۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ. ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ﴾ (البقرة، 60 و61). فإذا كانت السورة تفسّر بعضَها بعضًا، فبالتبعية يفسّر بعضُ المقطع من الآيات بعضه الآخر.

فالآيتان تتناولان «العصيان» الأوّل (الآية 60)، فهو عصيان لـ«التفرعن»، و«استسقاءٌ» ديني، وَسْيَوِيّإثنيْ عشريّ، يَضْمَنُ «المَأكل» و«المَشْرَب» العَدْليّيْن وإيقاف «الفساد».

أمّا «العصيان» الثاني (الآية الموالية) فهو «ارتداد» عن «الرَّتْل»[10] المعاشي والديني العَدْلي:  ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَام وَاحِد﴾، وضَرْبُ «العزةِ» الجماعية وقتل الأنبياء وإثني عشريتهم مما أنتج «العدوان»: ﴿ذَلِكَ مِمَّا عَصوا، وَكَانُوا يَعْتَدُون﴾.

إنّ تلقفَ «العصا» «الوَسْيَوِيّة» صُنْعَ «السِّحْرِ» الاسترهابيِّ الخادِم لـ«التّفَرْعُن»، إنّما هو قدرة المقاومة الثقافية الإيمانية على لإيقاف الهيمنة الإعلامية والفنيّة الاستكبارية: ﴿وَأَلۡقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلۡقَفۡ مَا صَنَعُوٓاْۖ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيۡدُ سَٰحِرۖ وَلَا يُفۡلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيۡثُ أَتَىٰ﴾ (طه، 69)، ﴿وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَلۡقِ عَصَاكَۖ فَإِذَا هِيَ تَلۡقَفُ مَا يَأۡفِكُونَ﴾ (الأعراف، 117).

قال سيدنا ابن عربي (رض): «﴿قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ ﴾ * أي: خلها عن ضبط العقل* ﴿فَأَلۡقَىٰهَا﴾* أي: خلالها وشأنها مرسلة بعد احتظائها من أنوار تجليات صفات القهر الإلهي *﴿فَإِذَا هِيَ حَيَّةٞ تَسۡعَىٰ*أي: ثعبان يتحرك من شدة الغضب، وكانت نفسه عليه السلام قوية الغضب، شديدة الحدة، فلما بلغ مقام تجليات الصفات كان من ضرورة الاستعداد حظه من التجلي القهري أوفر كما ذكر في (الكهف)، فبدل غضبه عند فنائه في الصفات بالغضب الإلهي والقهر الرباني، فصوَّرَ ثعبانا يتلقف ما يجد. ﴿ قَالَ خُذۡهَا﴾* أي: اضبطها بعقلك كما كانت* ﴿وَلَا تَخَفۡۖ﴾ *من استيلائها عليك وظهورها فيكون ذنب حالك بالتلوين، فإن غضبك قد فنى، فيكون متحركا بأمري وليس هو مستورا بنور القلب في مقام النفس حتى يظهر بعد خفائه *﴿سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلۡأُولَىٰ* أي: ميتة، فانية، صائرة إلى رتبة القوة النباتية التي لا شعور لها ولا داعية، ولإماتته عليه السلام إياها في تربية شعيب صلوات الله عليه وجعله إياها كالقوى النباتية سميت «عصا»، ولهذا قيل: وهبها له شعيب عليه السلام»[11]، فهي تربيتُهُ الإلهية له.

«﴿فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ أي: اتّفقوا فيما تبارزونهما به فتكونوا متفقي الكلمة متعاضدين ﴿ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ أي: تخيلاتهم ووهمياتهم «﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ في التركيب والبلاغة وحسن التقرير وتمشية المغالطة والسفسطة وهيئة ترتيب القياس الجدلي كأنها تسعى، أي: تمشي «﴿خِيفَةًعن غلبة الجهّال ودولة الضلال، كما قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: ” لم يوجس موسى خيفة على نفسه، إنما خاف من غلبة الجهّال ودولة الضلال “. ﴿ قُلْنَا لَا تَخَفْ شجعناه وأيّدناه، بروح القدس ﴿ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ، أي: ما في ضبط عقلك من النفس المؤتلفة بشعاع القدس المضيئة بنور الحق ﴿ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ۖ ما زخرفوا وزوّروا من الشبهات والتمويهات الباطلة والأباطيل المزخرفة بالحجج النيرة والبراهين الواضحة ﴿ إِنَّمَا صَنَعُوا وتلقفوا ﴿كَيْدُ سَاحِرٍ أي: تمويه وتزوير»[12].

3.2. وظيفة «العصا» الوَسْيَوِية:

إنّ «العصا» إشارة إلى نفس «الموسى» «التي يتوكأ عليها، أي: يعتمد عليها، في الحركات والأفعال الحيوانية، و يهش بها على غنم القوة البهيمية السليمية، وَرَقَ الآداب الجميلة والملكات الفاضلة والعادات الحميدة، من شجرة الفكر. وكانت نفسه من حسن سياسته إياها ورياضته لها، منقادة لتصرفاته، مطواعة لأوامره، مرتدعة عن أفعالها الحيوانية إلا بإذنه كالعصا. وإذا أرسلها عند الاحتجاج في مقابلة الخصوم، صارت كالثعبان يتلقف ما يأفكون من أكاذيبهم الباطلة ويزورون من حبال شبهاتهم التي بها تحكم دعاويهم، وعصي مغالطاتهم ومزخرفاتهم التي تمسكوا بها عند الخصام في إثبات مقاصدهم، فتغلبهم وتقهرهم»[13].

      إن «العصا» «الوَسْيَوِيّة» في: ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ﴾ « إشارة إلى نفسه، أي: التي هي في يد عقله إذ العقل يمين يأخذ به الإنسان العطاء من الله ويضبط به نفسه. ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا ﴾ أي: أعتمد في عالم الشهادة، وكسب الكمال، والسير إلى الله، والتخلق بأخلاقه عليها، أي: لا يمكن هذه الأمور إلا بها. ﴿وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي﴾ أي: أخبط أوراق العلوم النافعة، والحِكَم العملية، من شجرة الروح بحركة الفكر بها، على غنم القوى الحيوانية. ﴿ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ﴾ من كسب المقامات، وطلب الأحوال، والمواهب والتجليّات. وإنما سأله تعالى لإزالة الهيبة الحاصلة له، بتجلي العظمة عنه، وتبديلها بالأمن، وإنما زاد الجواب على السؤال لشدّة شغفه بالمكالمة واستدامة ذوق الاستئناس»[14].

وأمّا «فَلْق» «العصا» لـ«البَحْر» و«ضربه» فإنما هو قَدرة «العصيان» (=المقاومة) الإيمانية المستمدة من الطاقة «الشمسية»[15] بـ«الوَسْيَوِيّة» (=المهدوية) على «شقّ» «البَحْر» المَهُولِ لـ«الاستكبار» و«التفرعُن» البشريّين/المتشيطنيْن؛ و«التشيطُن»[16]، هو الحركة الشيطانية، لكنّها تشبه «الجبال» لأنّ ﴿كَيْد الشَّيْطَان كان ضَعِيفا﴾، فـ«الجبل» الحقيقي هو «هارونُ» «الوسايةِ» وهو «خلافة» المحمديةِ.

قال سيدنا ابن عربي (رض) في تفسيرهُ لآيتي سورة الشعراء 61 و62: «﴿فلما أتبعهم فرعونالنفسِ في التلوينات حاشراً جنوده من «مدائن» طبائع الأعضاء، حاذراً من ذهاب رياسته وملكه، ممتلئاً من غيظ تسلّط القلب واتباعه واستيلائه على مملكته وأعوانه، فكادوا أن يظفروا بهم، ضرب موسى القلب بأمر الحق عند تقابلهما وتعارضهما بـ«عصا» القوة القدسيةِ «البحرَ الهيولاني»، فانفلق إلى الحقوق والحظوظ. ونجا موسى وقومه بطريق التجريد، وأخرج أعداءهم بالمنع عن الحظوظ والإجبار على الحقوق من جنات اللذات النفسانية وعيون أذواقها وأهوائها وكنوز مدخراتها وأسبابها ومقام الركون إلى مشتهياتها، إلى أن خرج موسى وأهله من البحر بالمفارقة، وغرق فرعون النفسِ وقومُه أجمعون»[17].

3_ «رتْلُ» مقولة «الموسى» و«الوَسْي» في القرآن الكريم:

﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةۖ﴾ (الشعراء، 67). هذا يعني أنّ «مُوسى» هنا مجرّد «آية» تَجْريدية، مجرد «علامة»/«إشارة» تعقلية. فـ«المُوسى» إنما هو «مَوَاسٍ»، أي هو كثير بالمصاديق.

إذا كان القرآن الكريم، كتاب الله تعالى للناس، فيجب أن يكون كل ما يَذْكُرُه قابلاً لتطبيق الناس كلهم في كل عصر، وإلاّ فستكون «عصا» موسى خرافةً وسحرًا وعجائبية، وذِكرًا لا نفْعَ له. قال تعالى في نفعية القرآن الكريم: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُۖ﴾ (الإسراء، 9). إنهم يريدوننا أن نَجعل القرآن كما يريده الكافرون به: ﴿وَقَالُوٓاْ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٱكۡتَتَبَهَا فَهِيَ تُمۡلَىٰ عَلَيۡهِ بُكۡرَة وَأَصِيلا، قُلۡ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ﴾ (الفرقان، 5 و6)، ﴿وَمِنۡهُم مَّن يَسۡتَمِعُ إِلَيۡكَۖ وَجَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡراۚ وَإِن يَرَوۡاْ كُلَّ ءَايَة لَّا يُؤۡمِنُواْ بِهَاۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوكَ يُجَٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ(الأنعام، 25). فـ«السّرّ» إنما هو «الغيرة» و«السُّنة» و«الروح».

وإذا كان ما حدث لهذا «المُوسى» القرآنيّ لا وجود له في حياة سيدنا محمد (ص) وأمَدِه حتى يوم القيامة، فلا خير فيه. فيجب أن تكون «عصا» موسَى، و«البحر» الذي شقَّهُ، و«الهارون» الذي «صنعه» «على عيْنِه»، موجودِين في حياة محمد (ص).

وكذلك «رؤية» «المُوسى» لله تعالى بعد «نظره» في «الجبل» (﴿فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ﴾، يجب أن تكون في السيرة المحمدية. فإذا أراد محمد (ص) «رضا» الله سبحانه و«لقاءه»، فعليه أن يُحسن «تثبيت» «جَبَلِهِ» (=«هارونه»)، حتى تستقرّ «إنسانيتنا»: ﴿وَأَلۡقَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمۡ﴾ (النحل، 15). فإذا استقر «هارون» محمدٍ (ص) واكتمل «انزاله» التربوي، آنئذٍ يمكن لرسول الله أن يرى«فؤاده»  اللهَ تعالى في «معراجه» الأكمل: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ (المائدة، 67).

فإنْ لم يكن هذا الظهور المحمدي حاكما على مقولة «المُوسى» و«الوَسْي» كلها في القرآن الكريم (﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾)، فستكون «مُوسوِيّات» القرآن الكريم استعارات من كتابات اليهود. وهذا مُحالٌ لاختلاف الألوهية بين القرآن الكريم والكتاب المقدّس اليهودي الراهن (تجريدية الله تعالى في مقابل ماديّته وحَيْزِيَّته وبشريّتِه)؛ ولاختلاف الموسوية بينهما («طهارة» الموسوية هنا في مقابل «خُبثُها» هناك).

 

جاء في الكتاب المقدّس اليهودي أن يعقوب (ع) تصارع مع الله تعالى حتى مطلع الفجر (سفر التكوين، الآيات 22-30-32). كما جاء أن موسى(ع) قال لإلهه: «لماذا أسأت إلى عبدك؟!»، «يا سيد، لماذا أسأت إلى شعبك، ولماذا لم أجد نعمة في عينيك؟!»، (سفر الخروج). وموسى وهارون: «لم يقدسا الله كما أمرهما» (التثنية، 32: 48-51). لقد فضح سِغموند فرُويد موسى اليهودي وخصائصه الفرعونية –  المصرية في كتابه: موسى والتوحيد.

وعلى عكس ذلك نجد مكانة أخرى لله تعالى في القرآن الكريم ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴿1﴾ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴿2﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿3﴾ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴿4﴾﴾. ونلاحظ أن «موسى» كان «عبدا» لله، وكذلك «يعقوب» الذي يُدْعى: «إسرا- إيل» أي «عبد» الله أيضا.

 

فبدون «الظهور» المحمدي على مقولة «المُوسى» و«الوسْي» في القرآن الكريم، فإننا سنواصل في تهويد هذه الآية القرآنية و أسطرتها، مقصين إياها عن «عَقلها» و«تأويلها» و«لُبّها»، و عن إثارتها «لدفائن العقول» و لـ«إخلاد» الواقع.

 

 

خلاصة:

1_ إن «الموسى» الأعظم، سيدَنا محمدًا (ص)، لَنْ يكون ﴿أوّل المُسْلِمِين﴾ في التاريخ الإنساني إلاّ إذا أكمل رسالته وأتَمَّها بـ«صُنع» «هارُونِه» علي بن أبي طالب (ع): ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ [إلى هاروتك، إلى جَبَلك، وأعْلم الناس بذلك النزول الأخير «الجبليّ» مِن نزولات رسالاتك] مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ﴾ (المائدة، 67). ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ [يوم «ميقاتِكم» و«ميقات» رسول الله وهارونه بالغَدير] وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِيناۚ﴾ (المائدة، 3). فهو ﴿رَبِّ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ﴾ (الأعراف، 122)، ولا وجود لهذا –ضرورةً- إلا بذاك.

فلا يمكن للمحمّدية أن تكتمل بدون «نَظرها» في «صُنع» «جَبَلِها» و«استقراره مكانَهُ» و«اندكاكه» تواضعًا في الذات الإلهية ولمخلوقاتها: «أنتَ مني بمَنزلة هارون [أيّ «هارونٍ»، أي «جَبل»] مِن موسًى [مِنْ أيِّ موسًى]» (رواه مسلم والترمذي). فتبارك الله تعالى الذي «سَوَّى» أعظم «موسًى»، ليَصْنَعَ «على عينيه» أعظمَ «موسًى»!!

2_ إذا كان ما حدث لهذا «المُوسى» القرآنيّ لا وجود له في حياة سيدنا محمد (ص) وأمَدِه حتى يوم القيامة، فلا خير فيه، بينما هو كتاب الخير و «الإحياء»: ﴿ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾. فيجب أن تكون «عصا» موسَى، و«البحر» الذي شقَّهُ، و«الهارون» الذي «صنعه» «على عيْنِه»، موجودِين في حياة محمد (ص) حتى يكون﴿ أوّل المُؤْمِنِين﴾ مرتبة انطولوجية .

وكذلك «رؤية» «المُوسى» لله تعالى بعد «نظره» في «الجبل» (﴿فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ﴾)، يجب أن تكون في السيرة المحمدية. فإذا أراد محمد (ص) «رضا» الله سبحانه و«لقاءه»، فعليه أن يُحسن «تثبيت» «جَبَلِهِ» (=«هارونه»)، حتى تستقرّ «إنسانيتنا»: ﴿وَأَلۡقَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمۡ(النحل، 15). فإذا استقر «هارون» محمدٍ (ص) واكتمل «انزاله» التربوي، آنئذٍ يمكن لرسول الله أن يرى«فؤاده»  اللهَ تعالى في «معراجه» الأكمل: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ (المائدة، 67).

3_ «البحْر» هو القاعدة الاجتماعية التفرعنية: ﴿وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ [=من كل «مدينة» تفرعنية، و«بَحْرها» المتلاطم حيث] يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ، يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ. وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآء [=«بحر»] مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيم. وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ [=كذلك «البحر»]، فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ، وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ﴾ (البقرة، 49 و50).

ويكون «انفلاق» «البحر» «التفرعني» على مَراحل «إثني عشر»: ﴿فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ، أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡبَحۡرَۖ، فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرۡق كَٱلطَّوۡدِ ٱلۡعَظِيمِ﴾ (الشعراء، 63). فـ«البَحْر» التفرعني، يتحوَّل إلى «بحر» مِن «أعيُن» الخير والعَدْل والقسط، كل «عَيْن» «تنفجر» بقيادة «سِبْط» من «الأسباط» المحمدية الإثني عشر: ﴿فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ [=من «الموسى»، من «عصيان» «الوَسْيَويين» للفرعونية] ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡناۖ. قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاس مَّشۡرَبَهُمۡۖ﴾ (البقرة، 60). فكان «التحول» من «البحر» المِلح/الفرعوني، إلى «البحر» العَذب/«الوَسْيَوي»، المتخلّق من «العيون».

4_ إن «العَصَا» في المَقْطَع «البَقْرِيّ»/«الباقر» للقرآن الكريم إنما هي «العِصْيَانُ». وذلك سَواء كان للشيطان أو لله تعالى. فإذا كانت السورة تفسّر بعضَها بعضًا، فبالتبعية يفسّر بعضُ المقطع من الآيات بعضه الآخر.

فالآيتان تتناولان «العصيان» الأوّل (الآية 60)، فهو عصيان لـ«التفرعن»، و«استسقاءٌ» ديني، وَسْيَوِيّإثنيْ عشريّ، يَضْمَنُ «المَأكل» و«المَشْرَب» العَدْليّيْن وإيقاف «الفساد».

أمّا «العصيان» الثاني (الآية الموالية) فهو «ارتداد» عن «الرَّتْل» المعاشي والديني العَدْلي:  ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَام وَاحِد﴾، وضَرْبُ «العزةِ» الجماعية وقتل الأنبياء و و قثل إثني عشريتهم مما أنتج «العدوان»: ﴿ذَلِكَ مِمَّا عَصوا، وَكَانُوا يَعْتَدُون﴾.

إنّ «تلقفَ» «العصا» «الوَسْيَوِيّة» صُنْعَ «السِّحْرِ» «الاسترهابيِّ» الخادِم لـ«التّفَرْعُن»، إنّما هو «قدرة» المقاومة الثقافية الإيمانية على إيقاف «الهيمنة» الإعلامية والفنيّة «الاستكبارية» بمواهبها «التّبيينية».

-*-

 

فإنْ لم يكن الظهورالمحمدي حاكما على مقولة «المُوسى» و«الوَسْي» كلها في القرآن الكريم فستكون «مُوسوِيّاته» استعارات من كتابات اليهود. وهذا مُحالٌ، لاختلاف الألوهية بين القرآن الكريم والكتاب المقدّس اليهودي الراهن (تجريدية الله تعالى هنا في مقابل ماديّته وحَيْزِيَّته وبشريّتِه هناك)؛  ولاختلاف الموسوية بينهما («طهارة» الموسوية هنا في مقابل «خُبثُها» هناك).

 

إن  جمهرة من المفسرين، على رأسهم كعب الأحبار و مجاهد و قتادة و ابن كتير و نعمة الله الجزائري، يريدون تهويد «المُوسى» القرآني، و «أسطرة» هذه الآية القرآنية العظيمة لكي يقصونا عن «عَقلها» و«تأويلها» و«لُبّها»، و عن اثارتها لـ«دفائن العقول» و لـ«إخلاد» الواقع.

 

 

جوهر الخلاصة

 

        إن الشبكة الوَسْيَوِيّة بالقرآن الكريم رَتْل خطير جدا. و عليه تتوقف «الإثارة» القرآنية «لدفائن العقول»، بتثوير العقل الإنساني لـ«المستضعفين» في «العَالَمين»

 

و لذلك، يجب تخليصها من «تحريفها عن مواضعها»، وتخليصها من «أسطرتها» الأموية -العباسية-السلفية. وذلك بالبحث في «الظهور» المحمدي، على الوسيوية القرآنية كلها: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾. فيبين لنا النزول الوسيوي إلينا: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ. وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

و بذلك تسترجع إمكانيةُ ثورة «المستضعفين» العالمية «عصا» العصيان النبوي، و«انفلاقَ» «البحر» «الفرعوني»«الرومي»، بـ«انتقاص» الأرض الخاضعة للإمبريالية ﴿مِنْ أَطْرَافِهَا[18].

فإذا لم يكن ذلك، فإن الرتل الوسيوي سيبقى «مقبوضا» عليه مؤبّدا من «السامري»، مازجا «سحرَه» وتضليله التجميدي بـ﴿أَثَرِ الرَّسُولِ﴾ الوسيويِّ.

 

 

 

 

 

 

[1]  ابن منظور، مادة «وَسِيَ».

[2]  كان شعب موسى بن عمران (المصري-الشامي) خَليطًا من عناصر شامية وأخرى مصرية: وآسيا المصرية، وابن عمّ الفرعون المصري والسحرة التائبون هم جزء من «بني» «إسرا-الإيل» الذي إسمه: موسى بن عمران.

[3]  «الهارون» في اللغة العربية-السريانية: «الجبل».

[4]  ابن عربي، تفسير القرآن الكريم، تفسير سورة البقرة، الآية 50.

[5]  «إسراف- الإيل»: مَجْلى «تصريف» الله تعالى للقوى الطبيعية.

[6]  انظر تدبرنا في سورة الكهف..

[7]  ابن عربي، تفسير سورة البقرة.

[8]  راجع تدبرنا في سورة القيامة.

[9]  انظر بداية تدبرنا في سورة االبقرة.

[10]  «الرَّتْل» في الاصطلاح القرآني هو «النّسق» .

[11]  ابن عربي، تفسير سورة طه.

[12]  ابن عربي، تفسير سورة الأعراف.

[13]  م. س.

[14]  ابن عربي، تفسير سورة طه.

[15]  «الشمس» هي الإنسانية المحمدية: ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً.

[16]  «شَطَن»: «بَعُدَ»، «اِلتوى واعوجّ»، «هَلَكَ».

[17]  ابن عربي، م. س، تفسير سورة الشعراء.

[18]  انظر تدبرنا في سورة الرعد.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023