بعد إطلاق المتّهمين بسرقة أموال الشعب فتحي الزغل يكتب: أنا اللّص الذي عنه تبحثون

بعد إطلاق المتّهمين بسرقة أموال الشعب فتحي الزغل يكتب: أنا اللّص الذي عنه تبحثون

قيل لنا أنّ عدلاً سيُخيّم على بلدنا بعد الثّورة … ففرحنا.

ثمّ قيل لنا أنّ الواسطة لن تجد لها مكانا في بلدنا بعد الثورة… ففرحنا.

ثم قيل لنا أنّ المال لن يغيّر في الأحكام الصّادرة عن عدلنا… ففرحنا.

ثم قيل لنا أنّ أصحاب الثّروات الطّائلة متساوون مع الفقراء من هذا الشعب أمام عدلنا … ففرحنا.

ثم قيل لنا أن لا تَدخّل في القضاء… فاستبشرنا.

ثم قيل لنا أن قضاتنا متمرّسون محنّكون، ضدّ الفساد متوحّدون… ففرحنا.

ثم قيل لنا أن لا علاقة و لا “قناة” بين عدلنا ومجرمينا سوى قناة القانون… فطربنا.

إلاّ أنّ تلك القضيّة الّتي تعرف الآن بقضيّة الفساد الكبير لم يظهر للمتابعين من بلدي ومن خارج بلدي، كلّ ما تقدّم، في ما حفّها من أحداث وفي مآلاتها الظاهرة لكلّ الناس. تلك القضيّة التي علّق عميد المتكلّمين في القضاء فيها بأننا سنذهل لو يكشف لنا ما وجدوه في منزل كبيرهم عندما داهموه فجأة. الحركة التي رأيناها منه ومن جهازه، رحمة منه علينا كل أفراد الشعب المغبون… والتي تملّكنا فيها عطفه علينا ورِفقُه بنا درجة صار الحسّاس منّا يجهش بالبكاء على حالنا وحاله. فقد قيل لنا فيها أنّ الأدلّة واضحة، وأنّ الجريمة مكتملة الأركان، وأن الشكّ لا يراود من يدرس في السنّة الأولى قضاء في أنها ستؤول بالمتّهم وبمن ساعدوه في جريمته في عقر دار السجن، ولسنوات طوال أيضا وليس لقليل منها. فهي قضيّة لا يختلف اثنان من مجانين وطني بأنّ صاحبها مفسد للذّوق، وللمال العام، وللشرف، وللأمانة، ولخزينة الدولة، ولمال الشعب، ولمال التلفزة الوطنية. كما ورد في الدّعوى القضائيّة.

إلّا أننا اليوم، ورغم تلك التصريحات، وما تسرّب من تحقيقات، وما وصل إلى الشعب من حيثيّات… قالوا أنها في طريقها إلى تبرئة ذاك المتّهم بعد إطلاق سراحه من الإيقاف التّحفظي. ومن ثمّ اتهام هؤلاء المجانين، و ذلك – وحسب الّلوائح الصّادرة عن عدلنا الميمون -لانعدام الضّرر … أي انعدام الجريمة أصلا …

نعم، وما أكتبُ لكم هو حقيقة ما حدث فعلا… فهل يفهم هؤلاء المجانين أكثر من القضاة الذين مرّوا بسنوات وسنوات وهم يدرسون، ويدرسون، ويدرسون كيف يقيمون العدل بأقلامهم وكيف ينجزون العدالة بأحكامهم؟

زد على ذلك، كيف نقارن ما ذهب إليه مجانين، وهم الذين لا يعلمون الحيثيّات ولا يعلمون الأركان؟ ولا يعلمون المستجدّات؟ ولا يعلمون حتى “الوساطات”؟… بل إنهم مجانين، لا يعلمون كيف تتحوّل تهمة مثلا في بعض الأحيان؟ إلى سبب اعتذار من الجاني نفسه بعد اقترافه جنايته؟… فعلا إنهم مجانين، لا يدركون معنى العدل الحقيقي ولا معنى العدالة الواقعي… فهم – ولأنهم مجانين – يتصوّرون ويعتقدون في أنّ إقامة العدل لا يكون إلا بزجّ السّارق في السجن، والفاسد في الزنزانة، و بالاقتصاص من الناهب بسلبه ما نهب… ولا يرون أن في إطلاق سراح السّارق رحمة لهم ولسهراتهم العائليّة، ولطفا بهم وبتربية أبنائهم.

فقد قيل لهم أن العدل شامخ في الوطن، وأنّ الحقّ عالٍ ولا يٌعلى عليه في المِحن؟ و أنّ الرّشوة لم يعد لها وجود في السّرّ وفي العلن. و أنّ خبراءنا – مثل قضاتنا – لا يمكن لهم أن يضعفوا أمام أكبر المبالغ و الهدايا الّتي يمكن أن يقدّمها لهم أيّ مفسد من الشّعب… أو حتّى غنيّ من غير الشّعب… فما كان منّا إلا أن سبَّحنَا الله كثيرًا. فالمؤمن الصّادق – ولو كان غير مجنون – ينطق بالتّسبيح إذا رأى شيئًا عجبًا. فكيف لا نعجب و قد تغيّرت الأقوال في القضيّة وفي عدلنا في يوم و ليلة، ونزعت منه الفساد الذي نخره منذ عقود سبقت… أليس هذا عجبا؟

لكنّ المثير للعجب أكثر، هو غياب السّارق و المسروق في لمح البصر… فيعجب المجانين إلى إطلاق سراح السّارق مثلا… وإنكار تصريح كان يملأ العناوين مثلا.. فماذا سيفعل قُضاتنا مستقبلا في القضايا المماثلة؟ هل سيركنون إلى الرّاحة؟ أم أنهم سيحقّقون في الجرائم الكبرى و يمحّصون و يتثبُّتون، ثم يُحيلونها إلى خبراء ميامين أيضا… ثمّ يُقررّون أن لا جريمة وقعت في حقّ الشّعب، شعب المجانين طبعا؟

ثمّ ألا يحقّ لهؤلاء المجانين ناقصي العقلِ أن يطرحوا أسئلة أخرى؟ ألا يجب أن يكون الشّعب هو الذي يساعد قُضاتَه؟ و يبحث معهم بنفسه عن السّارق و المسروق؟… وفي حالة ما إذا تبخَّرت الجريمة فجأة مثلا… ألا يكون من الوطنيّة و الحكمة أن يُغيّر الشّعب قاعدة الطّالب والمطلوب؟… فيقرُّ مثلا أنّه هو الّذي سرق…أو أنّه هو الذي هرَّب… أو أنَّه هو الذي دلَّس… أو أنّه هو الذي استعمل نفوذه في معاملاته مع المتنفّذين الثقات المساكين… و يكفينا بذلك الله شرّ القتال؟

وبهذه الطّريقة على الأقلّ، نكون قد انتزعنا اعترافًا من الشّعب بأنَه هو السّارق … و الاعتراف سيّد الأدلّة. و نسهّل كثيرا على عدلنا الذي يقول هؤلاء المجانين أنّ الجرائم تتبخَّر في حضرته بعد تمحيصها… ثمّ وبعد ذاك الاعتراف نبني سجونًا كثيرة نُدخل فيها كل فردٍ من هذا الشّعب الذي لا يفهم في العدل و ينادي به ولا ينالُه إلّا في حالات سرقة علبة تونة من مغازة، أو في حالات سرقة رغيف، أو سرقة خبزة لجوعان، وذلك بعد أن يَكتب لنا إقرارًا بالخطّ العريض في صحيفة نعلّقها على صدره …أنا اللّص الّذي عنه تبحثون.

 

 

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023