الجمعة , 27 ديسمبر 2024
أخبار عاجلة

بهارُ ايران، سياسة وأشياء أخرى…بقلم د. الهذيلي منصر

العام الجديد أو النوروز لمنطقة واسعة في آسيا من ضمنها ايران يبدأ ربيعا والبهار هو الرّبيع بالفارسية. جميلة فكرة أن يكون الرّبيع فاتحة عام جديد. هذا أبلغ لجهة البرمجة الذهنيّة والوجدانية من أن تكون البداية شتويّة مثلا. هناك طقوس ترتبط بالنوروز بعضها ديني عقدي وبعضها قومي ولكن وفي الخلفية، هكذا أجتهد، يحضر الى هذه الطّقوس بعد الطبيعية التي تنشرح وتزهو خلال فصل الرّبيع. أعياد النوروز عادة قومية ثقافية فيها من الاستغفار والاستبشار الدينيين وفيها من العزم على التجاوز والتجدّد وفيها من إعادة ربط الصّلة بالطبيعة وحركتها وكلّ هذا خير.
قد تشكّل السّنة الإيرانية الجديدة للايرانيين منعطفا حيويّا وبارزا. أرى أنّها ستكون بالنسبة لهم سنة حسم أو سنة فاتحة على حسم كبير. حسم ماذا؟ حسم المسألة الإيرانية. منذ 79 تحضر ايران في الإعلام الدولي فقرة قارّة ولا تُذكر قلاقل وكوابيس السّياسة الّا وتحضر ايران كابوسا مزعجا مؤرّقا. منذ الثورة والى يوم الناس هذا حديث لا يهدأ عن ملالي واسقاط نظام ملالي وحصار ومعارضين ايرانيين وحروب وشيكة تعصف بإيران. كلّ هذه الأجواء توشك أن تتوقّف الآن لأنّ السّياق الدولي برمّته يتغيّر وما عاد القويّ قويّا وحده وما عادت أمريكا ذلك الربّ الأوحد وما عادت اسرائيل ذلك العملاق المتجبّر. الواحد لمّا يعود الى الوراء قليلا وينظر متأمّلا مسيرة الإيرانيين والورطات التي نجحوا في تجاوزها والألغام التي فكّكوها يشعر أنّه بحضرة شعب خاصّ وأمام قدر تاريخي استثنائي.
مئات الخطط وضعت لاستهداف مشروع الإيرانيين الناجم عن ثورتهم الضخمة ولكن هناك دائما ما يُربك الخطط وهناك عناصر تستجدّ فجأة لتقلب الموازين. هكذا دائما. هناك ذكاء ايرانيّ ولكن هناك ما يمكن تسميته حظّا أو سعدا أو بركة أو صدفة أو مددا وليست العبرة في هذا وفي غيره بالتسميات. هناك دوما ربيع يطلّ، ربّما من فرط اعتقاد في الرّبيع وتبجيل له. لا يعرف الوجدان الايراني العميق اليأس. من يتربى على اشعار حافظ ومولوي والعطّار لا ييأس ذلك اليأس الشالّ للحركة.
الحرب في أوكرانيا التي لم تخطّط لها ايران ولم تقرّرها ولم تشحن في اتّجاهها، هذه الحرب هديّة لإيران فهي تنقلها الى مستوى غير مسبوق من النفوذ والحضور المؤثّر في الأحداث. قبل هذه الحرب كانت ايران مهدّدة بجدّ: خنقها الحصار وتعملق الدولار مجهزا على عُملتها وفعلت وسائط الإتّصال الحديثة في أجيال ايران الشابة فعلا ضخما وأصبح المجتمع منقسما حدّيا. خلال السنوات القليلة الماضية كان انسداد مخيف وكان تأليب وكانت أعتى الماكينات تشتغل لتركيع ايران. الآن واقع آخر فايران ثالثة مع روس وصينيين والتنسيق بين الثلاثي بلغ مستويات عالية جدا وفي أدقّ التفاصيل: الأمن، العسكر، التيكنولوجيا المتطورة، الأقتصاد، السياسات الدولية وغير ذلك. اختصّت ايران في استعداء الأمريكيين وفضح سياساتهم ولم يُخفها أن تلعن الصّنم المدجج بالمال والسلاح والاعلام. يتحوّل استعداء أمريكيا اليوم الى قاعدة تقريبا وحتى الخليج بدأ يعلن بعض العصيان. ليس هذا بالقليل واستتباعاته ضخمة جدّا سنكتشفها تباعا.
لم تكن للإيرانيين منذ 79 خطط جدّية لمواجهة أمريكا وسياساتها. كانت فقط خطط لمقاومتها والمقاومة غير المواجهة. الآن وهذا طبيعي صار بإمكان الإيرانيين المواجهة والناظر في سياسات ايران التسليحية الجديدة يفهم أنّ الإعداد ما عاد دفاعيّا وإنّما هجوميّا. لماذا نقاوم ونحن نعجز عن المواجهة؟ نقاوم لأنّنا نؤمن بالرّبيع العائد دوما وصبر الإيرانيين أسطوري وأناتهم مُربكة. هم مزاج آخر وتأليف بارع بين اعتقاد في غيب محيط وتاريخ قاس مرير. هم كغيرهم وفيهم من الغثّ والسّمين ولكنّهم يتوفّرون على شريحة واسعة مسكونة بيقين فولاذي واصرار لا يتزلزل وصبر أيّوبي وحلم مجنّح واعتقاد أنّ الغيب يرعاهم ويبارك ما يسعون فيه ولو بعد حين. هذه الشريحة تقوم على عكس مقولات الحداثة تماما، فيها مفكّرون وفلاسفة ومثقفون وفيها مهندسون مقتدرون وفيها نخب علمية متقدّمة جدّا وفيها طلبة بين جامعة وحوزة. هذه الشريحة بنيان مرصوص بهندسة مُبتكرة. المُنتسب لهؤلاء اذا درسناه وتأمّلناه قد نغيّر بجدّ فهمنا للإنسان وتعريفنا له. أمّا الجماعة المشكّلة لهذه الشريحة فقد تعيد تأسيس علوم الإجتماع. ليس صحيحا أنّ العلوم والمعارف غربيّة أو لا تكون. عندما تتجاوز ايران محنها المتراكمة منذ عقود ويطبّع حضورها في العالم سنفتح أعيننا مشدوهين على معارف جليلة وعلى مناهج متينة وسيكون تجديد علمي مُبهر وأحسب أنّ الانبهار مشتقّ البهار والله أعلم.
الغريب أنّ الأمور تسير بالنّسبة لإيران كما أخبر عنها الخميني تماما. لماذا؟ هذا أخطر أسئلة المعرفة وطرحه والبحث في الإجابة عنه قد يستقدم الى المرء كلّ نعوت الشعوذة والجنون. هناك فيزياء أخرى وهناك كيمياء عقول أخرى. هناك سنن التّاريخ وقوانينه ولكن هناك الأمر والأمري. هناك في الإنسان والعالم دوما ربيع يأتي لا محالة ويأتي أمرا اذ لولا الأمر ولو تُرك العالم لحاله وسلوك الانسان فيه فإنّ العالم ينتهي والتاريخ يتوقّف وينقرض الإنسان. حساب الزمن بالربيع عبقرية وبرمجة الذهن على ربيع أبديّ العودة حكمة بليغة. ريح يوسف قانون لا يضاهى.

شاهد أيضاً

كتب د. الهذيلي منصر: فتنة “الحرف” أو في استحالة “البسّ”…كربلاء الأخرى

هناك نصوص عظيمة وأعمال فنيّة عبقريّة وتجارب روحية ودينية عميقة لم تكن لتبلغنا ولم نكن …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024