يبدو المشهد السياسي الحالي علي غاية من الضبابية و عدم الوضوح و هو ما يمثل تكتيكا تعتيميا مقصودا انتهجته القوي المتنفذة في صنع القرار حتي يتسني لها الدفع بزمام الأمور الي مألات تحددها التوازانات الداخلية الاقليمية و الدولية خاصة و المنطقة تشهد صراعا جيواستراتيجي محتدم بين عواصم القوي العظمي لاعادة اقتسام النفوذ علي النطاق العالمي قد تفتح علي تسويات تؤدي الي جميع الاحتمالات و من بين اخطر المألات التي قد تدفع اليها قوي الهيمنة في اطار تقاطع المصالح هي تمكين القوي الرجعية و الظلامية و عرابيها من الاجهاز الكامل علي مكتسابتنا الوطنية و إرساء نمط جديد من الحكم , فهل يكون للشعب التونسي و نخبه التنويرية ليبرالية كانت او يسارية الكلمة الفصل في اغيير مصيره لا سيما و نحن امام مرحلة مفصلية في تاريخنا المعاصر تمثل فيها الانتخابات الرئاسية اللحظة القصوي لاعلي درجات التكثف السياسي علينا ان نتعامل معها بكثير من الجدية و المسؤولية .
فعندما تكون الرؤية مشوشة في اذهان الجميع نخبا و جماهيرا فان البوصلة الوحيدة التي قد ترشدنا إلي السبيل الأسلم هي الاستماتة في الدفاع عن مكتسبات دولة الاستقلال الحديثة التي بدأت تتلاشي شيءا فشيئا تحت وطأة المد القروسطي المتحالف عضويا مع بارونات الفساد و الوصولية و بات يشكل تهديدا جديا علي التونسيين و حتي علي المكسب الوحيد الذي حققوه غداة جانفي 2011 و نقصد بذلك مكسب الحريات ( خاصة تلك المتعلقة بحرية التعبيير و حرية التنظم ) و الذي تمكنت القوي المؤمنة بالجمهورية من فرضه و حمايته بإستماتة استثنائية من مخالب حكم اليمين الديني و توابعه الفائزين بانتخابات المجلس التأسيسي , و دفعت مقابل ذلك فاتورة باهظة الثمن ( اغتيالات , سحل , إعتقالات , هجوم علي مقر اتحاد الشغل , تهديدات ميلشيوية , هرسلة , احداث الرش ,….) و تمكنت هذي القوي مجتمعة بعد ان عدلت بوصلتها من تعديل موازين القوي السياسية و فرضت علي اليمين الديني تراجعا ظرفيا علي فرض مشروعه و ترجم ذلك عمليا بانتخابات 2014 و قبلها بفرض تعديلات جوهرية علي الدستور الجديد الذي أريد أن تكون الشريعة مصدره الأساسي نصا و تأويلا . لكن الانتهازية و سوء التقدير إضافة إلي احتدام النزاع بين التشكيلات الطبقية قديمها و حديثها حول الاستحواذ علي السوق الوطنية و تامين مصالحها المشروعة منها و الغير مشروعة إيجاد من خلالها اليمين الديني الذي يتقن فنون المناورة من تدوير زوايا تلك الصراعات و التحكم في نسقها من وراء الستار ( مساومات , ملفات ابتزاز , تسويات ..) و بدهاء تكتيكي تمكن و بكل اقتدار من فرض صك الطاعة و الولاء للمرشد الاعلي علي شريحة هامة من المرتبكين و الوصوليين و الخائفين مما نجم عنه اعادة لتشكيل المشهد السياسي تميز اساسا باختراق كبير و تفكيك ممنهج لما يسمي بالعائلة الوسطية و إحداث بلبلة في خزانها الانتخابي خاصة لدي تلك الفئات التي تؤمن – الي هذا الحد او ذاك – بقيم العصرنة و الحداثة .
و قد ساهمت بعض النخب التقدمية بسلوكها الطفولي المغامر و نزوعها الطهوري الاطلاقي الي تقديم خدمات مجانية في هذا الاتجاه اضافة الي عدم النضوج الكافي للطلائع السياسية لما يسمي بالعائلة الوسطية التي تميزت بنرجيستها المفرطة و الرغبة في التموقع الانتهازي مما خلق حالة من الاستقطاب الحاد شقت قواعدها .
و مع الارتفاع المهول لمنسوب التقهقر الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي ترافق مع جموح خطير للانحراف بالسلطة و استغلال استعراضي لاجهزة الدولة وصل الي حد لم تعد تراعي فيه – في مستوي بعض المحاكمات – ابسط شكليات الإجرائية و تم ذلك بطريقة هاوية و صبيانية لم تحدث حتي في اعتي الدكتاتوريات شراسة و ذلك في اطار تصفية حسابات فئوية ضيقة بين الأطراف المتكالبة علي السلطة لا علاقة لها بمصالح الشعب و الوطن .
إن وكلاء اليمين الديني من بعض ممن يدعون العصرنة و المتعطشين للسلطة بأي ثمن و الذي تقودهم نزعة ماضوية ما قبل حداثية غذت أوهامهم بأحقية “البلدية ” بالحكم و ما يعنيه ذلك من ارتباط بالباب العالي معتقدين ان العصرنة و الحداثة و ادارة الحكم تكمن في ترديد البغباء لبعض الكليشيهات الاجرائية و المحاسبتية التي تسوق لها دوائر المال العالمية و الصالحة لكل مكان و زمان .و هم –و بوعي منهم او بدونهم – انما يؤسسون لتمكين اقصي اليمين الديني لتمرير مشروعه و هدم المعبد علي رؤوس التونسيين جميعا من خلال الإعداد لمرحلة انتقالية لتكريس توتاليتارية دينية مغلفة بشكل مدني تختزل نزعة شمولية لشكل جديد من الحكم مبني علي اخضاع الافراد لاجهزته و السيطرة علي جميع مظاهر الحياة الاجتماعية و مناحيها عبر افتراضات ايدولوجية تحكمية مكرسة للاطلاقيات المعتقدية و تفرض تدريجيا حالة من الإجماع المفروض بالإكراه تعيد التونسيين من دائرة المواطنة إلي دائرة الرعية و ذلك عبر تنمية البيئة الحاضنة و اعادة تشكيل التركيبة النفسية و الذهنية و السلوكية و تصريفها في بني ملائمة لذلك المشروع بما يمتلكونه من امكانيات مادية و لوجيستية رهيبة .
ان دعايتهم تنصب الآن علي خلق زعامة سياسية واهية تسعي إلي قبول المواطنين بمحض إرادتهم الحرة الي التسليم بها و ايجاد نوع من المقبولية الشعبية مؤيدة لها كمقدمة موضوعية لتاسيس نظامهم الفاشيستي الديني المبني علي الميليشيات و الاجهزة السرية و الدعاية الواسعة التي يؤمنها حزبهم الايدولوجي العقائدي القوي بمعية روافده لتعبئة عموم الشعب علي التعاطي مع التراث بقدسية مطلقة و التحفيز علي الاقتصار العاطفي علي المعتقدات الدينية و الولاء لها دون تفكير تكريسا تاما للتفكير الدائري المغلق الذي يري في الدولة الدينية القديمة ممثلا كخير مرشد لتحديد السلوك في الحاضر وو المستقبل عبر تفويض إلهي خارج عن ارادة البشر تنتهي إلي ضرب كل تلك المكتسبات التي راكمها الشعب التونسي عبر تاريخه و نضاله الطويل و عبر دولة الاستقلال الحديثة .
و عليه فان القوي التقدمية عامة و اليسارية خاصة