تدبر في سورة المطفّفين: «الناس» بين «التطفّف» و«التعالي»…د. نعمان المغربي

تدبر في سورة المطفّفين: «الناس» بين «التطفّف» و«التعالي»…د. نعمان المغربي

        سورة المطففين هي آخر رسالة قرآنية لـ«الطاغوت» المكي. فهي آخر ما نزل بمكة المكرّمة، الإبراهيمية نِسْبَةً، قبْل هجرة رسول الله (ص) إلى يثرب المنوّرة.

  • المقولات المركزية:
 

 

–      «التطفيف»: جَعْل الشيء طفيفًا. هي تَحْقير «الطاغوت» للإنسان، وللمستضعفين، بجعلهم «مَبْخُوسين»، دون المقام الإنساني، المقام الاستخلافي للإله سبحانه.

–      «الاكْتِيَالُ»: هو تقدير القيمة الإنسانية بالأفعال.

–      «الاكتيال على الناس»: هو «تقدير» الناس بأفعال «بَخْسية».

–      «السّجينُ»: هو تقدير «سِجْنُ» «التطفيف» لـ«المطفِّفِ» و«المطفَّف» معا، في الدنيا؛ ولـ«المطفِّفِ» وحده في ﴿يَوْم الدِّين، يوم الجزاء.

–      «العليّة»: هي نقيض «السّجِّينيَّة». هي «الإرسالُ» عندما يَشْهَدُ «المقرّبية» المحمدية-العلوية.

«العليّة» هي «تعالي» الإنسان، فهي نقيض «تطفيف» قيمته «الطّيْريّة»[1].

  1. سورة المطففين آخر رسالة للطاغوت في مكة:

         آخر رسالة قرآنية، إلهية، لـ«الطاغوت» المكي، لم تكن «تكفيرية»، أي منددة بدينهم الشركي، المحرّف لدين إبراهيم التوحيدي، بل كانت منددة برَتْلِهم المَعاشي التطفيفي للإنسان، والمفرز لـ«الاستضعاف». فـ«التّطفيف» هو الذي أتى بـ«الشرك»، ومراكمات «الرَّيْن».

         وهنا تلتقي سورة المطفّفين مع سورتيْ الماعون والمَسَد، في التركيز الإسلامي على أهميّة المعاشيِّ، وأوْلويّة مُحَاربة «التّكذيب بالدّين» ﴿المَاعُون، وإعلان «الوَيْل» ﴿لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾ (سورة المطفّفين الآية 1)، ﴿اَ۬لذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ اِ۬لدِّينِۖ﴾ (سورة المطفّفين الآية 11). فـ«التّكذيب بالدّين» إنّما هو تكذيبٌ بالرسالة المعاشيّة للإسلام، وهي التخلي عن «التّطفيف» المتمثّل في «دعّ اليتيم» وعدم «إطعام طعام المسكين»،.

         صحيح أنّ «الوَيْل» «التّطفيفي» في الدّنيا، «تتعلّق آثاره المشؤومة بأذْيالِ الجميع»[2]، بالظالمين والمظلومين، بـ«المطَفِّفين» و«المطَفَّفين». ولكنّ ذلك «الوَيْل» في الآخرة لن يشمل إلاّ هؤلاء «المكذّبين» بالعدل الإلهي في المجتمع، «المكذّبين» ﴿بِيَوْمِ اِ۬لدِّينِۖ، يوم الجزاء، أو بيوم دين العَدْل الاجتماعي: ﴿وَيْل يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ (سور المطفّفين، الآية 10).

  1. التّطْفيفُ هو جعل «الناس» «طفِيفِين» وجودا ومَعاشا:

ليس هناك تكرار في القرآن الكريم، كما تبَيَّن لنا في عديد التجارب التدبيرية.

         فـ«التطفيف» أوْسع مِن «البَخْس». و«البَخْس» أو «الكَسْبُ التطفيفي» هو – كما اكتشفنا في سورة هود هو قسم الفائض الوزني لكسْب العامل: ﴿وَيَٰقَوۡمِ أَوۡفُواْ ٱلۡمِكۡيَالَ [الإنساني] وَٱلۡمِيزَانَ [المعاشي] بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ﴾ (هود، 85).

         فـ«البخس» هو جزء مِن سيرورة «التطفيف»، أي الجزء المَعاشي، أما «التطفيف» فهو «إخسارُ الإنسان»، بل «الناس»، إذ هو سيرورة  «تطفيفيّة» باتجاه طبقات أخرى، أي سيرورة مجتمعية لا فَرْدية منعزلة. «البَخْسُ» هو تطفيف لأشياء الناس، ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ (الشعراء، 183)، أما «التطفيف» فهو «اكتيال» لـ«الناسوتية» ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ (سورة المطففين).

     وعندما «نكتال» على الناس، يكون «اكتيالنا» لأنفسنا بـ«قتْلها»، أي قَتْل «الحياة» الحقيقية فيها. وبذلك يكون جزاء «الاكتيال التطفيفي» مِن جنسه: ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ (المدثر، 19):﴿وَيۡلٞ لِّلۡمُطَفِّفِينَ (1) ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكۡتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسۡتَوۡفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمۡ أَو وَّزَنُوهُمۡ يُخۡسِرُونَ (من الآية 1 إلى الآية3)

  1. يوم القيامة هو يوم إدانة تطفيف الإنسان:

         ليس لـ«مطففي» الإنسان والمستضعفين إيمان برب «العالمين»، أي ربّ للجميع. فهم يريدون ربّا خاصا بهم يحتكرونه، كما يريدون، فإذا تاق هواهم لأمر نزل الوحي بما شاؤوا لفرديتهم وفئتهم. ولذلك كانوا «مطفّفين» في مخيالهم وفي سياستهم، فيميزون بين الناس في الرواتب دون معايير منطقية.

          إنه ﴿ِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. ولذلك لا يهمُّه إنْ كان «المطفّف» مسلمًا ظاهريا، أم غير مسلم. فهو ﴿رحمان﴾ للجميع. ولذلك يعاقبه الله تعالى حتى المسلمَ «المطففَ» على «إخساره» الإنسانيّةَ.

      إن ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هو يوم قيام الله سبحانه وتعالى نصرة لـ«الناس» بما هم مجموع، ونصرة لـ«تثويب» الإنسان و «تعليته»، فهو يوم إدانة «تطفيف» القيمة الإنسانية.

  1. «الرَّيْنُ» و«المَحجوبية»:

         «الرَّيْنُ» هو بتعريف ابن عربي (رض): «صَدَأٌ»، مَرضيّ يَلْحًقُ النفس، بترسيخ من الأفعال الشّرّية، و«كدر جوهرها، وغيرها من طباعها»[3]، و« والرين حد من تراكم الذنب على الذنب ورسوخه تحقق عنده الحجاب وانغلق باب المغفرة»[4]. وفي تفسيره (رض) لـ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَۖ (المطففين، الآي 15). قال «﴿كَلَّا، أي: ارتدعوا عن الرين {إنهم عن ربّهم يومئذ لمحجوبون} لامتناع قبول قلوبهم للنور وامتناع عودها إلى الصفاء الأول الفطري كالماء الكبريتي مثلاً، إذ لو روّق أو صعد لما رجع إلى الطبيعة المائية المبردة لاستحالة جوهرها بخلاف الماء المسخن الذي استحالت كيفيته دون طبيعته»[5]. وهو ينْعكس على نَفْسِ «المطَفّف» فتُراكِمُ عليه، في كل عمليةٍ «تطفيفيةٍ» «رَيْنًا».

     فـ«الرَّيْنُ» إنّما هو الانعكاس النفسي لـ«البَخْس» الكَسْبِي، ولـ«الكَنْز» النَّقْدِيّ (أو «الوَرقي» بلغة سورة الكهف، أو «المالي» بلغة سورة المسد).

  1. «العِلِّيَّة» و«تعلية» الإنسان نقيضا لـ«التطفيفيّة»:

         ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَٰبَ اَ۬لْأَبْرَارِ لَفِے عِلِّيِّينَۖ (المطففين، الآية 18). «عِلِّيِّينَ»، هو جَمع «عِلِّيّ»، نِسْبَةً مبَالَغة إلى العُلُوّ. و«العلُوّ» هنا، هو نقيض «السِّجِّين» أو «السِّجْن» العظيم جدًّا. فإذا كان «التّطفيف» وَرَتْلُهُ الاجتماعيُّ التفاوتي-الإخساري، «سِجْنٌ» عظيم في الدنيا لـ«المطفِّفين» و«المطفَّفين»، وهو «سجنٌ» عظيم أبدى للمطفّفين فقط في الآخرة، فإنّ «العَدْلَ» و«الرَّتْل» الاجتماعي لـ«تَعْلِية» الإنسان/«النّاس»، بـ«قرْية» «تَعْلية» الإنسان/«النّاس» باتجاه «إرْسال» كلّ «الأغلال» النفسيّة والاجتماعيّة والمَعَاشيّة.

         قرية «العِلِّيِّينَ» هي سَيْرورة أفعال «التّعالي» «النّاسِيِّ»، كَسْبًا ونَفْسًا وتبادُلاً، من أجْل رفْع كلّ «الإصْر» الإنسانيّ، و«رفْع» «الأغلال» السياسية والمَعَاشيّة والنفسيّة والخياليّة.

         «الكتاب» الذي يُسطِّرُه «الأبْرَارُ» بأعلامهم الصالحة، التاريخيّة، إنما هو كذلك لأنه «مَشْهُودٌ» بـ«مُقربُون». و«المُقَرَّبُون» هم ﴿أُوْلَٰٓئِكَ مَعَ اَ۬لذِينَ أَنْعَمَ اَ۬للَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ اَ۬لنَّبِيٓـِٕۧنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّٰلِحِينَۖ. وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقًا (النساء، الآية 68). و«الرِّفقة» هي «شهادة المُقرّبين». وبذلك يكون «العِلّيُّون» هم «العَلَويُّون»، أي أنجَبُ تلاميذ رسول الله (ص) وأخلصهم. فلا يُمكن إقرار «تَعْلية» و«تَعَالٍ» للبشريّة، بدون أن يتمثَّل «الأبرارُ» المؤمنون «تعَالي» «المقرّبين». فبذلك يكون «جهادُ» المؤمنين أضمن وأنجع في الأرض، «جهادًا» أصغر، و«جهادًا» أكبر.

         إن «علّيّة الناس»، هي نقيض «تطفيفيّة الناس». فـ«العلّيّة» هي تزكية غير نهائيّة.

         فلا «تثويب»، أي تنمية، للإنسانية بـ«جريمةِ» «التطفيفيّة». وإنما «تثويبها» يكونُ بـ«الإعلاء» (و«التعالي») الذي ينتهي بـ«كدْحه» إلى محل «المُقرَّبين». قال رسول الله (ص): «شيعة علي هم الفائزون يوم القيامة»[6]. وهنا، «المشايعة»، بمعنى مشايعة أفعاله ومشاعره المتعالية. وقال الرسول (ص) أيضا: «اللهمّ وَالٍ منْ وَالاهُ، وعاد منْ عاداهُ»[7]. والموالاة هي –طبْعًا- هي موالاة أطروحته المحمدية في الحياة وموالاة أفعاله (فالموالاة هي أن تكونُ بعد الأوّلِ مباشرةً).

         وقال أقربُ «المقرّبين» (ص): «لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق»[8]. فإذا كان ممنوعًا علينا أن نبغض أيَّ مُسْلم، بل يجب أن نحبه، وإلاّ فنحن آثمون: ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾، «ولا تؤمنوا حتى تحابوا»[9]، فإنّه من باب أولَى وأحْرى، أن نُحِبَّ أقرب المقرَّبين لله تعالى بعد رسول الله (ص)، لأنّه صنيعةُ رسول الله (ص). فـ«العمل الصالح» في منظور الرسول (ص) إنّما نعرفُه بـ«صنيعة» «يَدَيْه» التربويّتين[10].

 خُلاصة:

       «يُطفِّفُ» ﴿الذِينَ أجرموا﴾، في وهمهم، البدايةَ الآدميةَ-الفطريةَ، فيعتبرونها ﴿أساطير الأوّلين﴾ (الأية 13). وما «الأوّلون» إلاّ آدم والأسرة الآدمية؛ في رفضٍ شيطانيٍّ للبداية النّبوية للإنسان.

     فلا «تثويب»، أي تنمية، للإنسانية بـ«جريمةِ» «التطفيفيّة». وإنما «تثويبها» يكونُ بـ«الإعلاء» (و«التعالي») الذي ينتهي بـ«كدْحه» إلى محل «المُقرَّبين».

    إن الله تعالى ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وليس ربا لفئة أو طائفة أو طبقة دون أخرى. ولذلك لا يهمُّه إنْ كان «المطفّف» مسلمًا ظاهريا، أم غير مسلم. فهو ﴿رحمان﴾ للجميع. ولذلك يعاقبه الله تعالى حتى المسلمَ «المطففَ» على «إخساره» الإنسانيّةَ.

       

[1]  راجع تدبرنا في الكيان السوري: الفيل والقريش.

[2]  الطالقاني (محمود)، إشراق من القرآن الكريم، مؤسسة الهدى، طهران 2000، ج4، ص247.

[3]  الطالقاني (محمود)، م.س.

[4]  ابن عربي، تفسير سورة المطففين.

[5]  ابن عربي، تفسير سورة المطففين.

[6]  رواه ابن حجر في «الصواعق المحرقة»، والسيوطي في «الدرّ المنثور».

[7]  رواه الترمذي وابن حنبل، وابن عبد البر في «الاستيعاب»…

[8]  رواه مسلم وابن ماجة …

[9]  رواه مسلم.

[10]  اليدان التربويتان: الترغيب والترهيب.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023