بقلم د. نعمان المغربي: (مختص في علوم الأديان المقارنة_تونس) |
مدار مواقع نجوم الكيان:
السورة القصيرة هي تلخيص لسورة طويلة أو أكثر، والسورة الطويلة هي تحليل معمق لسورة قصيرة أو أكثر.
كنا قد تناولنا في سورة الشمس مدلول «الشمس» فيها. وكذلك في سورة يوسف. كما تناولنا في سورة الشمس مدلول﴿وَضُحَىٰهَا﴾ وأكدنا أن الله سبحانه لا يمكنه أن يقسم بما هو أدنى، بل ينبغي أن يقسم بما هو عاقل(لا بما هو غير عاقل)، وبما هو خير (أي بالأرقى في العاقلين). وبَيَّنَّا أن ﴿الضُّحَى﴾ هو منطلق نهار «الشمس» بعد «فجرها» (مبتدأ الدورة التاريخية للرسالة المحمدية). وذلك ﴿الضُّحَى﴾ انما هو الشاهد الأول على تلك الدورة بعد ﴿الفجر﴾ أو أمده الشهادي. وذلك ﴿الضُّحَى﴾ إنما هو مصداق ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾. فوزر ﴿المرحمة﴾ باليتامى والزمنى والأرامل، ومن في معناهم، ووزر تأويل الرسالة المحمدية وهداية الناس، ووزر «إغناء الناس» ومقاومة الفقر البشري والفقر البيئي، سيضعه الله تعالى عن النبي(ص) إذ يشاركه فيه الشاهد الأول (الإمام علي عليه السلام)، فالشهداء التالون ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي﴾. فلقد «أنقضت» تلك الأوزار «ظهر» النبي الكريم الذي لم يتحمل مثله أمانة البشرية وكل الكائنات بنفس كاد «يبخعها» (الكهف، الآية6) وكادت تذهب ﴿عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ (فاطر، الآية 8).
أما ﴿الليل ﴾ فهو ابن طير مخصوص لغويا، وأهل البيت هم طير الحرية المخصوص. ول «ليلهم» الذي يسري لإعلان ثورة تحرير العالم وطيرانه دون رجعة إلى«المشيئة» (ابن منظور، مادة ل ي ل ): وهو الابن الطيري الأبابيلي الأخير الذي سيحمل«الوزر» المحمدي لملء الأرض «عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا». و﴿إِذَا سَجَى﴾ أي إذا «سكن ودام» (ابن منظور، مادة :س ج ا). فذلك «الليل» (عليه السلام) سيدوم «حتى تسكنه أرضك طوعا، وتمكنه فيها طويلا»، فستمتد دولة الصالحين (مع أبي الصالحين) حتى تساوي مدة دولة الظالمين (إن لم تتجاوزها)، وهو نفسه معمر، ساكن بيننا ودائم، حاضر كحضور الشمس فوق السحاب وفي تبخر ماء البحر مطرا.
وعندما يقسم الله به ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾[1] (سورة الفجر، الآية4)، إنما يقصد إسراءه ليلا من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة معلنا ظهوره لقيادة ثورة الإنسانية على الظلم والظلام اللَّذَيْن سَجَيَا قُرُونًا طويلة جدا، وعلى طيران البشرية بعد طول«الإخلاد» إلى الأرض، (سورة الأعراف الآية 176).
1-مختزل مواقع النجوم بالكيان السوري: الضحى_الشرح:
يقوم الكيان السوري الضحى_الشرح على ثلاثية:
● مسعى الفلك الرسالي الخاتم.● مسعى «إغناء الناس جميعا» (العدل على كل العالمين في كل الأرض). |
-جدول مساعي الوزر المحمدي المحورية
2-مسعى المرحمة:
لم يكن الله تعالى ليترك مخلوقاته دون رعاية وعناية وتربية لكي تحيا وتبقى:﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا عَلَى ألله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِى كِتَٰبٍۢ مُّبِينٍۢ﴾.
وكان مصداق ذلك محمديا أن الله تعالى لم يترك يتيمه محمدا بعد وفاة الصِّدِّيقَة آمنة بنت وهب (عليها السلام) ورعاية الصِّدِّيق عبد المطلب و الصِّدِّيق عِمْرَان أو المغيرة(كنيته أبو طالب) عليهما السلام. وقد سمى عبد المطلب (شيبة الحمد عليه السلام) أبناءه بأسماء الأسد والمحاربة ليوَطِّنَهم نفسيا على حماية الصِّدِّيق أبي محمد (لأنه سيلد أعظم الخلق ومخلِّصَهُم): الزبير والحمزة والحارث والعباس… أما«مذحج» (الذي سمى نفسه : عبد العزى ليصارع النبوة ومعناها النصير في لغات اليمن، و «المغيرة» ومعناها الشديد المراس في القتال. ثم استمرت تلك الحماية مع الطفل والشاب محمد(ص)، فكانت حراسته بينهم تناوبية كل ليلة.
وقد رأى الطفل والشاب «الْمَرْحَمَةَ» الإلهية، ففهم معنى الرحمة:«أدبني ربي فأحسن تأديبي»، فتخلق بأخلاق الله الرحمية_الرحمانية. فواصل في مؤسسة المرحمة التي أسسها والدوه المقدسون (قصي، عبد المناف، شيبة، عبد الله، عليهم السلام). فكان طيلة حياته أعظم راحم. والرحمة ليست بمعنى الشفقة، بل بمعنى الاعتراف بالآخر إنسانا وغير إنسان فكان ﴿رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (سورة الأنبياء، الآية 107)،﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ﴾ (سورة آل عمران،الآية159).
3-مسعى الفَلكالرسالي الخاتم (السماءالرسالية المحمدية):
ذلك ما سمته سورة البلد: «النجد الثاني» أو«نجد ﴿بِآيَاتِنَا﴾» ليس بمستطاع العارف المتقدم، بإمكانياته السلوكية_الكدحية الذاتية أن «يهتدي» إلى النبوة بعد وصوله ذاتيا إلى الصِّدِّيقية بمجاهداته العميقة.
كان يجاهد ليرتقي أكثر، بعد وصوله إلى أرقى مقامات الصِّدِّيقية في تاريخ الكدح الإنساني التي لامقاما صدِّيقيا بعدها إلا النبوة العظمى. كان يحس بدهشة متعاظمة أمام اللاهوت، ورغم ألم البحث العشقي كان يدعو: «اللهم زدني فيك تحيرا!»، فأهل الحيرة «هم الذين نظروا في هذه الدلائل واستقصوها غاية الاستقصاء إلى أن أداهم ذلك النظر إلى العجز والحيرة فيه من نبي أو صديق». فكانت الجذبة الإلهية العظمى بالشهود المحمدي الذي تكامل حتى السدرة الانتهائية[2]. هنالك رحمه معشوقه الله تعالى ، فمد له حبل الهداية النبوية، واجتباه نبيا، رسولا خاتما: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا [عن النبوة العظمى] فَهَدَى﴾.
وهو يؤكد لمجتباه، أنه ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾، فعطاياه العظمى لأعظم آدمييه سوف لن تقف عند حد: ﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ (سورة الإسراء، الآية 20)، فـ﴿الْأُولَى﴾ التي هي عطية النبوة يوم 27 رجب بالسنة 13 قبل الهجرة، ستكون ﴿لَلْآخِرَةُ﴾ مقاما أرقى منها.
فبعد مقام ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك﴾ بين كل العالمين، إذ لا تقبل صلاة المسلم لله تعالى إلا إذا صلى على النبي(ص)، وتلك مِنَّة عظمى لم يَحْظ بها أي ابراهيم ( أي صاحب سماء رسالية تاريخية)، ستكون أمام من هداه الله تعالى إلى النبوة مقامات آخرة لا تنتهي، لأن الله تعالى أبدي :﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ [=الأولى] وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ[=العطية الآخرة ]﴾ (سورة الإسراء، الآية 80)،
﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ[=مِن ابنك الخاتم تعلق برفع ذلك في العالمين] نَافِلَةً لَّكَ [=المهدي هو امتداد و نافلة لمقامك التاريخي]﴾ (سورة الإسراء، الآية 79)، فسيكون ذلك ﴿اللَّيْلِ﴾ (=الإبن) ﴿ مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا﴾ (سورة الإسراء،الآية 80) لإتمام نوره على الإنسانية. ففي«مخرج الصدق» [العطية
الآخرة] ﴿عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾ (سورة الإسراء، الآية 79).
4- مسعى«الإغناء»والعدل المعَمَّمَيْن:
رباه ربه على أن يرى كيف يغنيه الله تعالى. فخديجة بنت خويلد عليها السلام، أغنى أغنياء قريش، أهدته كل مالها بمحض إرادتها في تصريح علني منها لكل قريش بساحة البيت الحرام، فَنَمَّى ثروتها، واصبح من ثمة أغنى أغنياء العالم. ثم هيمنت سماء دورته الرسالية التاريخية على جل العالم وثرواته، ثم ستهيمن على كل العالم مع «ذي القرنين»، عليه السلام[3]، فيكون محمد (ص) مسؤولا على كل ثروات الأرض والكون،﴿عائلا﴾ لكل البشرية بفيض الرحمة الإلهية. فهو لكل ﴿العالمين﴾ ، أي لكل الموجودين، وهو مطالب بأن يكون صاحب «العدل الإنساني الأرقى/المطلق»: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث﴾. ولذلك كان رده على من شك في ذلك:«ويحك! ومن يعدل إن لم أعدل؟!».
نص دستوره على القضاء المطلق على الفقر:«وأن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحا[فقيرا]»، واستطاع في المرحلة الثانية من وزارة المعاش لسيدتنا الزهراء أن يغني الجميع من فضله:﴿… إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ﴾. فكان أعدل الناس في التاريخ، والأكثر إغناءََ لهم، ولم يكن بدولته فقير واحد ولا مكتنز واحد[4]. ومن لم يتخلق بمسعاه الإغنائي، فلا يحارب الفقر والعطالة عن العمل والتفاوت الجهوي والتدهور البيئي والتبعية للاستكبار معاشيا، فليس محمديا فعلا، وإن سمى نفسه «إسلاميا» . فسيكون من«الباخسين» الناس أشياءهم، ومن «الكانزين»/«السارقين» الذين يجب أن تُقْطَع أياديهم
التمكُّنية/الدُّولِيَّة(=الاحتكارية)حتى يُمْكِن تمكين الجميع.
***
يدعو الله تعالى سائق هامش السائق في القرآن الكريم وفي العربية هو: صاحب «الاستراتيجيا» (باللغات الأوروبية) السماء الرسالية التاريخية الأخيرة، والأعظم، إلى «الكدح» المتواصل، حتى إكمال مسعى المرحمة، وإكمال مسعى التكامل البشري السلوكي-العرفاني بشمس النبوة، وإكمال مسعى الإغناء والعدل المعَمَّمَيْن الدائمين: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ [من أحد المساعي الثلاثة وقتيا] فَانْصَبْ [في أحد المسعيين الآخرين]، وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَب﴾، ﴿عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ [الذي تعشقه]مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾ (الإسراء، الآية79 ). فلا يأس مع الكدح /النصب:﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[في أمدك وآماد الشاهدين الإحدي عشر]. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[مع«ليلك»الذي يسر من مدينتك ليُسجيَ العدل والقسط مكان القسوة والظلم]﴾.
. [1]”أسرى” مشى في الليل أو سافر في الليل . فهل أن ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾(سورة الفجر، الآية4)، معناها:«أقسم بليل اليوم إذا مشى في الليل»؟!!إن هذا جهل بالعربية!
. [2]ابن عربي ، الفتوحات المكية ج1،ص 271.
. [3] أنظر تدبرنا في سورة الكهف.
. [4] أنظر تدبرنا في سورة التوبة وسورة البقرة.