|
||
|
المقدمة اللاّهوتيّة للسّورة:
تبدأ السورة الكريمة بمقدمة لاهوتيّة، بواقعة أن كل ما في الكون يُسبِّح لله تعالى حتى الكافرين أنفسهم دون أن يشعروا، إذ أن أجسادهم خاضعة لسنن المَلِكِ الذي لا ملك غيره، فهي تُسَبِّحُ لله تعالى وتخضع وتسجد لكي تَبْقى. إنه «قدّوس»، منزه تماما عن النقائص، فهو الكمال والجمال، ونحن لن نكون مقدّسين بأي درجة من درجات الكمال والجمال، إلاّ إذا استمددنا ذلك منه، وإلاّ كنّا أدنى قيمة من الحيوان والموادّ.
إنه «حكيم»، ومن أهم تجليات حكمته (وكلها هامة) أن اختار لنا من أجل تقديسنا رسولا منّا، هو أقدس الإنس وأقدس المخلوقات، حبّا لنا ولفلاحنا.
ولكنّه «عزيز»، لأننا إذا خَالَفْنا أوامر قُدوسيّته وصَدَفْنا عن معالم حَكِيميّته، سوف لن يَخْسِر هو، بل سنخسر نحن، ويبقى المَلِك القهار:﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾﴿يُسَبِّحُ لِلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾(الجمعة، 1).
هذه المقدمة اللاّهوتيّة تبدأ بالعالَميّة، لكي تكون «الأُمِّيَّة»، أي الجامعية الإنسانية، وهي بِنت «العالميّة» (﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾)، هي بداية الوجود المحمّدي وغايته الميمنية– الرحيمية، المَنْطقية، السّيوحية/القدّوسية.
- رسول التقديس وتعليم الحكمة:
لقد بعث الله تعالى من أصل جوهرنا الإنساني فينا رسولا رحيما (صلى الله عليه وآله)، فهو الأكثر إنسانية فينا. ولذلك لم يكن لأمة دون أمة، ولا لقوم دون قوم من الناس، بل لكل ﴿الْأُمِّيِّينَ﴾[1](الجمعة، 2)، وفيهم جميعا. وهو ليس للأمم، أي للأقوام دون عقول أفرادها، بل بالأصح هو لكل ﴿الْأُمِّيِّينَ﴾، أيلأفراد الأمم فردًا فردًا، بعيدا عن إقصاء الأمم لأفرادها: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ: أَن تَقُومُوا لِلَّـهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾(سبأ، 46). فلا يمكن للفرد أن يكون متلقيا للحكمة إذا فكر بتفكير الأكثرية والآباء والغوغاء، وإنما أكثر إذا كنا أفرادا في الأمة (=أميّين) أي أُمَّة أفرادٍ متفكرين.
إنه المَقْدِس/المقدَّسُ الأكبر بواسطة فضل القُدُّوس: يقدِّسهم (=﴿يُزَكِّيهِمْ﴾، الآية 2)، ويقرِّبهم إلى الحَكِيميّة: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، بواسطة القرآن الكريم: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ (الآية 2)، تتلالى مَعالِمُهَا التربوية واحدةً بعد أخرى. وهو رسول الأمة الرسالية الأخيرة إلى يوم القيامة: ﴿وَإِنَّ هَـذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ (المؤمنون، 52).
وهؤلاء ﴿الأُمِّيُونَ﴾، أي أفراد الأمم جميعا، ليسوا كلهم دون قراءةٍ وكتابةٍ، وإن هناك ﴿آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ (الآية 3)، من أهل العلوم والقراءة والكتابة والتَّالين لكتب إلهية سابقة، مَرحلة تتلو أخرى بعمق. فلما نزلت سورة الجمعة سأل الحاضرون رسولَ القُدُّوسِيَّة والحِكْمَة، صلى الله عليه وآله، عن هؤلاء الـ﴿آخَرِينَ مِنْهُمْ﴾، فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثا، كأنه مُتَكتِّم على هؤلاء الآخرين، ومشفق عليهم من الابتلاءات والإيذاءات التي ستحلق بهم، ثم وضع «يده على سلمان الفارسي وقال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء»[2].
وأهم فضاء زمني يستعمله الرسول الأمّيّ (أو «الأُمَمِي») هو فضاء يوم الجمعة، لكي يتلو الآيات ويُزكّي (= يقدّس ويطهّر) ويعلِّم الكتاب والحكمة (= العرف والأعراف). وقد اختار الله تعالى ذلك اليوم، لأن بظهور محمد (صلى الله عليه وآله) رجع الزمان كهيئته يوم خلق آدم عليه السلام، فهو اليوم الذي خلق فيه آدم عليه السلام، وجمع الله تعالى فيه أبويْنا، آدم وحوّاء، عليه وعليهما أفضل الصلاة والسلام، وقد أكمل الله تعالى فيه الخليقة مِنْ قَبْل[3]، وهو الذي سيكون فيه إعلان الظهور المهدوي العظيم. فهو اختيار صادر عن تمثّل تام للاستخلاف الإنساني.
لقد سميت «جُمُعة» لأنها تجمع الناس لرسول الله صلى الله عليه وآله، مَدِينَةِ العِلم والتزكية، وهو جَامعية الإنسانية والرحمة الإلهية، إذ فيها رضا الله تعالى عنا، فمحمد صلى الله عليه وآله صراط الله المستقيم وزمان السعادة الإنسانية. ولذلك ينبغي أن تكون صلاة الجمعة وخطبتها للجمع، لا للتفريق بين الإنسان والوجود، وبين الطبقات أو الأقوام أو الطوائف، وللإجماع على ما في محمد (صلى الله عليه وآله) من جامعية لكل كمالات الإنسان. ولذلك كان من أسمائه، صلى الله عليه وآله: «الجامع».
وما دام الناس والمسلمون سيَكْدحون فيه إلى القُدُّوسية والحَكِيميّة، فعليهم أن يجعلوا من هذا اليوم التِّلاوِيّ/التعليمي – التقديسي – للنفوس «مَسْعَى»[4]، أي التمثل النفسي والفكري والعملي للمطلوب بتوفير شروطه القَبْلية والأثنائية والبَعْدية. فمن الحكمة جعل أعظم جمعة في السنة، أي آخر جمعة في أعظم شهر (شهر رمضان) يوما لاجتماع المستضعفين المجاهدين في كل العالم، مِن كل الأديان، معلنين توحدهم حول الرسول، صلى الله عليه وآله، ضد المستكبرين، تكريسًا للجامعية الإنسانية وتحقيقًا.
ومن هذا المَسْعى ترك كل عمل دنيوي؛ ولباس أحسن الثياب والغسل والتطيب، استعدادًا لتجديد خَلْقنا الجامع، على يدٍ قُدُّوسيةٍ حكيميةٍ، صلوات الله عليها؛ وأن نمشي للمسجد وعلينا السكينة؛ وأن نستمع إلى الرسول – صلى الله عليه وآله-، أو من يمثله [فيكون منه وفيه وإليه] بانتباه، ولا نلغو، وأن لا نخرج من المسجد حتى نفهم أن الرسول، صلى الله عليه وآله، أو من يمثله، قد أتمّ مسعانا الإلهي، فننتشر في الأرض معاشيا ودعويا (باتّجاه بقية الأُمِّيِّين) للابتغاء من فضل الله تعالى (المعاشي والنبوي): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّـهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ (التقديسية والتعليمية التِّلاوِية) فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّـهِ وَاذْكُرُوا اللَّـهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(10)﴾.
- كونوا مع رسول التقديس والحكمة ولا تتركوه وحده!
لم يُثْقل الله تعالى علينا، وهو الرحمان الرحيم، فعندما بعث لنا محمد، صلى الله عليه وآله، لم يطالبنا بأن نجلس إلى ركبتيه الكريمتين كل يوم، بل طالبنا بأن نجلس إليه – واجبا- مرة في الأسبوع، يوم بدء الخَلْق المادي والخَلْق التزكوي، وهو ما يجب أن نواصل فيه حتى يوم القيامة.
ومن سوء الحظ أن عدد صلوات جمعة رسول الله صلى الله عليه وآله، طيلة عشر سنوات تقريبا، لم يصلنا منها شيء كثير. وهذا أمر مؤلم، لأننا بذلك ترَكْنا أعظم إنسان على الإطلاق «قائما» وانفضَضْنا من حوله، رغم جمال حكمته وصوته الترتيلي، الموسيقيّ التربويّ[5] (بشهادة أعدائه أنفسهم). لقد بقى مَتْنٌ هام من جمعاته ولكنه قليل جدا، ولعل الله تعالى يجبر هذا النقص الكمي الفادح بذاكرة أهل البيت عليهم السلام، أي بَقِيّتهم عليه السلام. فوقوعنا تحت طائلة البحث عن اللهو والموسيقى المحمّدية (لا المحللة) وتحت طائلة التجارة مع بني أمية[6] والمنافقين وممثليهم، جعلنا نتناسى ثم ننسى الكثير من المتن الجُمُعِيّ المحمدي، ولا نحاول التدبر في ما بقي منه أو نحرّف معانيه عن مَوَاضعه.
وهنا يحذرنا الله تعالى من أن نقع في ما وقع فيه بنو الشام (= بنو إسرائيل) إذ حُمِّلوا المتن التوراتي، ثم لم يحملوها وتركوها قائمة وحدها، منفضّين إلى حب اللهو والموسيقى المحرَّمة وحب التجارة، بتعلة التعلق بالحياة والنفور من الموت.
والأمر نفسه، من سوء الحظ، كان لدى أكثرية الظهور المحمدي الأول، فقد بقوا متعلقين بصورة غير صحيحة عن الحياة والموت: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا. قُلْ مَا عِندَ اللَّـهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّـهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ. وَاللَّـهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)﴾.
فقد قدِمَتْ عِيرٌ مَرَّةً المدينةَ ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يخطب، وكان فيها سلع كثيرة ولهو وموسيقى محرمة لا مُحللة، «فخرج الناس وبقي اثني عشر صحابيا فحسب، فنزلت الآية:﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا (11)﴾»[7].
ولكنهم ليسوا في ذلك واقعيين فإن ﴿ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ (8)﴾.
ومن ناحية أخرى، لم يَحْرِمْنا الله تعالى من الحياة الدنيا، بل طالبنا فقط بجعلها مضبوطة بشروط دينية بسيطة ومعقولة، ووعدنا بالحياة الأبدية إن حملنا متن التقديس والحكمة من رسولِ أمَدِنَا (آدم أو نوح أو موسى… أو محمد، عليهم السلام).
وللمنافقين هدف رئيس، هو هذا «الانفضاض» عن رسول الله، صلى الله عليه وآله، ولذلك فرحوا لما سمعوا بانفضاض جل المسلمين عنه في تلك الجمعة الحزينة، فكانوا من الذين ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ (البقرة، 10)، وأصدقاء في تلك اللحظة للمنافقين موضوعيا. فالمنافقون ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّـهِ حَتَّى يَنفَضُّوا. وَلِلَّـهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (المنافقون، 7).
وحتى لا يَبْخَعَ الرسول نفسه إذ يأسف لتركه وحيدا، ولا تصل الرسالات الإلهية في لحظة ظهوره الأولى، طمأنه الله تعالى أن صوته ورسالاته ومتنه الجُمُعي ستصل في لحظة ظهوره الحاسمة والحقيقية مع ﴿آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾، فينبغي أن لا يبتئس من الحاضرين في لحظة الظهور الأولى. فستكون الجمعة العظيمة، يوم إعلان ظهوره الثاني، الحقيقي، يوم ظهور الإمام الجامع الخاتم باسم الرسول الجامع الخاتم، يوما لبداية اجتماع الأمّيين جميعا حول الجامعيّة المحمدية. ولذلك كان تقديسنا لأعظم جمعة في السنة، وهي آخر جمعة في أعظم شهر، مناسبة للاجتماع حول الرسول (صلى الله عليه وآله) ونائبه، ولإعلان البراءة من الظالمين.
خاتمة:
هذه سورةُ المركزياتِ. فالله تعالى هو الكائن الموجود فعلا، والجميع يُسبّحونه. والجُمُعة هي يوم اجتماع العالم، يوم اجتماع العَالَمين، حتى لا يكون متفرّقا. ورسول الله، صلى الله عليه وآله، هو قلب العَالَم، ورمزه الأعظم، بل مِنْ أجْلِه هو كان الوجود. فيه هو وحده يجعل الله تعالى للبشرية اجتماعا من بعد افتراق وتصارع وتظالم وجهل بالله تعالى والكمالات والفطرة والحكمة. وهو (ص)إمام الجمعة، كلِّ جُمعة، الحقيقي.
هو الجُمُعة، وهو سيد يوم الجُمُعة. سنّها باسم الله تعالى لينسف الأيّام «المقدسة» الوهمية التي تفرّق الأمم وتُساهم في استمرار الاختلاف الظالم بينها، مثل يوم الضالين عن الإبراهيمية الحنيفية، ومثل يوم المغضوب عليهم، ومثل يوم «العروبة» (الذي كرّس العصبية الانقسامية العربية)، ليجعل من يوم الجمعة يوم قبول ﴿الآخَرِينَ﴾، حتى الآخرين «الأمِّيين» (أي: مِن الأمم الأخرى) الذين سيأتون في المرحلة الثانية والحقيقية من الظهور المحمّدي.
صلى الله عليك يا معلّم الكتاب والحكمة والتقديس الأعظم! صلى الله عليك يا إمام الجمعة وعلى أئمة الجمعة الأعظم الذين جعلهم الله تعالى استمرارا لحياتك القُدّوسية – السُّبّوحية، فأنتم سرّ وجود هذا العالم بفضل الله تعالى!
[1] … نسبة إلى «الأمم». فالأصح في العربية أن نَنْسِب الجمع إلى مفردٍ لا إلى جَمْع: «أُمّيّ» لا «أُمَمِيّ» (كما في الاستعمال الحديث!).
[2] رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي والحاكم والطبري.
[3] … ذكره البخاري ومسلم وغيرهما.
[4] المَسْعى: Project ، Projet (والسَّعْيُ هو تنفيذ المَسْعى).
[5] ابن منظور: «رتل: الرتل: حسن تناسق الشيء.وثغر رتل ورتل: حسن التنضيد مستوي النبات»، لسان العرب، دار صادر
سنة النشر: 2003م.
[6] … بالمعنى المِلّي لا النَّسَبي. فابن خلدون في المقدمة، يتناول: «المِلَّة الأموية» (المقدمة، دار الجيل، بيروت، 2005، ص 273.
[7] ابن حنبل، مسلم، البخاري…
* عفا الله عنه وحفظ أهله، آمين