بقلم: د. نعمان المغربي (مختص في علوم الأديان المقارنة، – تونس)
عفا الله عنه وحفظ أهله، آمين
العنوان الرئيسي:
بين «غار»«البراءة» و«مغارات»«التعاهد» مع المشركين«المُعْتَدِين»:
بين البُنيان السياسي الإسلامي والبُنيان السياسي الضِّراري
- معالم المؤامرة الجزيرية/العالمية
من أسماء هذه السورة الاستثنائية في القرآن الكريم: «الفاضحة»، ولكننا لا نجد انعكاسًا لهذه التسمية في جل التفاسير وفي الكُتب التي تناولت السيرة النبوية الشريفة في المَوَاطن التي تابعتها هذه السورة.
ومن أسمائها «المخزية»، «المُبَعْثرة»، لأنها تخزي بعض المسلمين وأكثر المشركين واليهود (وخاصة اليمانيين لخطة النزول) وبعض «المترفين» سابقا، وتُبَعْثِرُ أسرارهم. وهي «المقشقِشة» لأنها تقَشقش عن النفاق أي تتبرّأ منه. وهي «المشرّدة» و«المثيرة»، لأنها تصنع سَوقًا متعدّدًا، مفصلا، لتشريدهم وإثارة أسرارهم وتخطيطاتهم. وهي «الحافِرة» لأنها تحفر في كَيْدهم الخطير جدًّا وتوضحه توضيحًا. وهي «المُنَكِّلة» لأنها تُنكِّل بهم وتشرّد بهم. وهي «المُدَمْدِمَة» و«سورة العذاب»[1]، لأنها تضع أمام رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر عليهم السلام، وطائفة المتفقهين في الدين، سَوْقًا تاريخيا حتى يُعذب الله تعالى هؤلاء المتآمرين جميعًا على أيدي المؤمنين. يقول الخبير بالمنافقين، حذيفة بن اليمان، رضوان الله عليه: «إنكم تسمّونها سورة التوبة، وإنما هي سورة العذاب. والله ما تَرَكَتْ أحدًا إلا نالت منه»[2]. فلما نقرأ التفاسير والسِّير لا نجد خطورة الموقف التاريخي الذي تتناوله السورة (داخليا وحدوديا)، بينما نجدها تناولت بعض الناس المحدودين جدّا، في حين أنّ حُذيفة يُقْسِم أنها لم تترك أحدًا!!
أمَّا مؤامرة الداخل فتختزلها السورة في الذين تظاهروا أخيرًا بالإسلام وهُمْ لم يُسْلموا حقا، والمنافقون [الذين أبطنوا «الكُفر» ولم يُسلموا]، الكثير من الأغنياء (الاكتنازيين/الرِّبَوِيّين). وأمَّا مؤامرة الخارج فتختزلها السورة أساسًا في النصارى المحاربين للمسيح[3]، أي «الرُّوم» أساسًا ومعهم بعض النصارى العرب (المختلفين عن النصارى العرب المحبّين للمسيح[4]) والساسانيين الفُرْس. ولكنَّ سورة التوبة تُقلّل من شأن هذه المؤامرة الجزيرية/العالمية إذا بقيت نواة الأمة متماسكة، فإذا انقسمت هذه النواة المهاجريّة/الأنصارية ونازعت ﴿أُولي الأَمْرِ﴾،الأمْرَ، مضطرة لأجل ذلك للتحالف مع المتآمرين الجزيريين («المسلمون»- الكفّار، والمنافقون). ولذلك تنبّه السورة إلى ميل الكثير من أهل هذه النواة عن الحق تدريجيا، داعية إياهم إلى «التوبة» قبل فواة الأوان، فذلك سيضرّ بما أنجزه رسول الله، صلى الله عليه وآله، وسيضرّ بمدى قرب خلاص العالم لتُبعده نسبيّا، وذلك ما يجعل هؤلاء ؟أمام مغبة أوزارِ العالَم علاوةً على أوزارهم الأصلية.
وفي كلتي الحالتين المستقبليّتين الممكنتين، تُقدّم السورة المبارَكة سَوْقَيْن لأُوليالأَمْرِ والمؤمنين معهم (سَوْق الوِحْدَة وسَوْق امتصاص الفتنة). ففي السَّوْق الأول بقاء الرسول صلى الله عليه وآله، وأولي الأمر، على رأس الولاية السياسية، وبقاؤهم شرطٌ موضوعيٌّ لوجود الشورى والولاية المشتركة، مع ما يفرضه وجودهم ذاك من وجُود ولاية الفقهاء أثناء غياباتهم الحِمَوية والزمانية في ظهورهم الوِلائي/السياسي.
وفي السَّوْق الثّاني، يكون تَحصين القرآن الكريم من رغبة الحَرْف أو التحريف مِن المتآمرين هؤلاء، وتحصين الأمة من تراجع يؤدي إلى إعلان الارتداد لأن ذلك يؤدي إلى كارثة مَحْوِ القرآن الكريم والحكمة النبوية الشريفة، وامتصاص قدرات الانقلابيين بالتشويش على تحالفاتهم الجزيرية والعالمية. وبذلك تبقى ولاية المعصومين عليهم السلام ومعهم ولاية الفقهاء، لكنْ في سياق سَوْقي آخر، يختلف حسب المكان والزمان.
- عجْل السامريّ هو مسجد الضرار المَغَارِيُّ
- رُؤية السيدة فاطمة عليها السلام في التأسيس المغاريّ:
لقد بدأت خطبة سيدتنا فاطمة بنت النبي، صلى الله عليه وآله بملخّص سورة التوبة: ﴿لَقَد جاءَكُم رَسولٌ مِن أَنفُسِكُم عَزيزٌ عَلَيهِ ما عَنِتُّم حَريصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنينَ رَءوفٌ رَحيمٌ﴾(التوبة، 128). ثم قالت: «فإن تعرفوه تجدوه أبي دون آبائكم، وأخا ابن عمّي دون رجالكم!!»[5].
فأي علاقة بين الآية الشريفة وبين جَعْل أكثر المسلمين للرسول (ص) أقل مكانة من رجالهم وكذلك للإمام علي؟!!
إنها من الواضح أنها ترى أن الآية الشريفة تؤكد أن الرسول (ص) عَزَّ على المسلمين مستقبلهم، وحرص على سعادتهم وأمنهم وغناهم وفوزهم، رأفة بهم ورحمةً، وتجلى ذلك في اختيارهم أكثر الناس نجاحًا في مدرسته، وأقربهم إلى طبعه الرحيم الرؤوف، فهو هو. ولكنهم في نظرها، من سوء الحظ، جعلوا الرسول (ص) أقل مكانة من رجالهم، وكذلك جعلوا الإمام عليّا أقل رجالهم مكانة، فأقصوه عن الولاية السياسية العليا.
وسبحان الله، إن الآية الثانية التي استشهدت بها كانت من سورة التوبة أيضا: «وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخا بكم، فوجدكم لدعائه مستجيبين (…) فوسمتهم غير إبلكم وأوردتموها غير شربكم. هذا والعهد قريب، والكَلْمُ رحيبٌ، والجُرْح لما يندمل [مازال الرسول (ص) مسجّى لم يدفن]. إنما زعمتم خوفَ الفتنة، ﴿أَلا فِي الفِتنَةِ سَقَطوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحيطَةٌ بِالكافِرينَ﴾(التوبة،49)». وهي ترى أن «البَدَل» المغاري ظالم، مستشهدة بالآية: ﴿بِئسَ لِلظّالِمينَ بَدَلًا﴾(الكهف،50).
وهي تعود في خطبة ثانية لتكرّر اعتمادها على سورة الكهف، عليهِمَا السلام: «أيها الناس. أنا فاطمة، وأبي محمد، صلى الله عليه وآله. أقولها عَوْدًا على بَدْء: ﴿لَقَد جاءَكُم رَسولٌ مِن أَنفُسِكُم﴾(التوبة،128)»[6]. وهي لا تؤكّد الحق إرْثَ رسول الله، صلى الله عليه وآله، ووصيتِهِ لها، بل أيضا لنفسها وحدها في الحقيقة، بل أيضا لسيدنا الإمام علي عليه السلام، إرثا دينيا وسياسيا، صادقا، أعلنه رسول الله، صلى الله عليه وآله، على الجميع، ووصيّة أخذ البيعة عليها من المسلمين يوم الغدير.
وتعود الحكيمة، وزيرة المَعاش المحمدي، سيدتنا فاطمة، لسورة التوبة من جديد، وهي تستنهض الأنصار: «فأنى حرْتُمْ بَعْدَ البيان، ونكصتم بعد الإقدام، وأسررتم بعد الإعلان، لقوم نكثوا أيمانهم. ﴿أَتَخشَونَهُم فَاللَّـهُ أَحَقُّ أَن تَخشَوهُ إِن كُنتُم مُؤمِنينَ﴾(التوبة،13)؟»[7]. وهي في هذه الخطبة الثانية تَصف الولاية المَغَارِيَّة/الإغارية بقولها: «فدونكموها فاحتقبوها، مدبرة الظهر [فهي قصيرة جدًّا، ليملكها من تحالفوا معهم: بنو أمية، ومن بعدهم]، ناكبَة الحق [لا براءة لها]، باقية العار، موسومة بستار الأبد، موصولة بنار الله الموقودة ﴿الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾(الهمزة،7). وأنا ابنة نذير لكم، بين يديَّ عذابٌ شديد»[8]. فهناك عذابٌ تاريخي قادم: الطاغوت الأموي والطاغوت العباسي الذي سيدمّر ولايتهم القصيرة له ﴿فَخَرَّ عَلَيهِمُ السَّقفُ﴾(النحل،26)، والاحتلالات الرّومية منذ القرن التاسع عشر الميلادي.
وهي تنبه أن لحظة الكفاح الإسلامي ذي السَّوْق التاريخي بدأت: «فاعلموا إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون»[9]. فقد «زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الروح الأمين، الطَّبِن[10] بأمور الدنيا والدين. [سيدنا علي (ع)]. ألا ذلك هو الخسران المبين»[11]، لأنهم جاهلون بالدين، أو أقل منه به علمًا، خالطين له بأهوائهم ورواسبهم الجاهلية لأن الله لم يكرّم وجههم، إذ قضوا مدة في الجاهلية وعبادة الأوثان. وفي المستقبل، «يعرف التالون غِبّ ما أسّس الأوَّلون (…) وأبشروا بسيف صارم وبِقَرْح شامل واستبداد من الظالمين، يدع فيأكم زهيدًا [يجعل معاشكم في تدهور، نظرًا لاستشراء الكَنْز] وجمعكم حصيدًا [سوادكم[12] في تدهور لفساد المؤسسات الصحية والزواجية وغير ذلك]»[13].
- مَحاور التَّماهِيبين عجل السَّامري والمَسْجد المَغاريّ:
نجد مَسْرَد (السامري والعجل) في سورة البقرة والنساء والأعراف وطه.
و«العِجْلُ»، هو الابن غير الناضج للبقرة.وهو رمز الجهل وعدم النضجإذ لا يمكن الاعتماد عليه لاستنباط الأحكام الشرعية وشُرْب ماء الحياة. وأما «البقرة»، فقد سُمّيت كذلك لأنها تبقر الأرض[14]، أي هي رمز العِلْمِ/العِلْمِ، والعمق/العمق.
و«المَغارة»، ليْس فيها غَوْرٌ (أي عُمْق) بل هي سطحية، ولكنها طويلة، ولذلك فهي مُظلمة. فهي سَقْفٌ يمكن أن يتهاوى في أي لحظة لأن قواعدها سطحية. ولكنها تصلح للإغارة (الاغتصاب والسرقة)، ويسهل على المحتالين استعمالها والتعاهد فيها مع أكابر المجرمين. فهي السقيفة دون قواعد، أي هي﴿عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ﴾(التوبة،109) كما وصف الله تعالى مسجد الضرار.
أما «الغار»، فهو الغَوْر والعُمْق، والحفظ، وهو قابل للاستضاءة من الخارج الإلهي دون خطر الوقوع والانهيار لأن قواعده غائرة. وهو يحمل رمز «الغار» (وهو نبات)، ذي الرائحة الطيبة، وذا العلامة على الانتصار، لدى الشعوب («إكليل الغار»). أما إذا كان الغار إسمه «غار ثور»، فقد سُمّي كذلك «لأنه يُثير الأرض»، أي «يقلبها للزراعة ويعمرها بالفلاحة»[15]، وهو الهدف النهائي للرسالة المحمدية: «ملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جَوْرًا» و«في الخبر: (من أراد العلم فليُثوّر القرآن)»[16]. ولكن هناك ﴿الَّذي آتَيناهُ آياتِنا [إلى الغار] فَانسَلَخَ مِنها[إلى المغارة]﴾(الأعراف،175)، وهو أمر قد يحدث لي، ولأي مسلم شقي بذنوبه ومعاصيه، أو بالحنثالعظيم، والعياذ بالله تعالى.
أما إذا اتسع الغار النبوي الشريف، الذي دام 23 سنة قمرية تقريبا «سُمّي كهفا»[17]، باستكمال «الشهور الإثني عشر» عليهم السلام وظهور نورهم الأخير مستَمَدًّا من شمس سيدنا محمد، صلى الله عليه وآله، بملء الأرض عدلا، كما مُلئت جورا.
- خصائص العِجْل والمسجد[18] المَغَارِيّ (أو المسجد الضّراري):
يجمع «العِجْل» المُتَّخَذ بدهاء بين ﴿أَوزارًا مِن زينَةِ القَومِ [الفراعنة، الجاهليين، الطواغيت]﴾(طه،87)، و﴿قَبضَةً مِن أَثَرِ الرَّسولِ﴾موسى عليه السلام (طه،96).
و«مسجد الضرار» أي «المَغَارة التأسيسية» يدّعي أهله ﴿إِن أَرَدنا إِلَّا الحُسنى [=«السُّنّة الحَسَنة]﴾ (التوبة،107). فهو خليط عجيب بين ادعاء سنة الرسول محمد، وأثره، صلى الله عليه وآله، و﴿أَوْزَار﴾من ﴿حارَب اللَّـهَ وَرَسولَهُ مِن قَبلُ﴾(التوبة، 107). فالعجل عمل ﴿المُفتَرينَ(الأعراف،152)، كأوزار أصحاب مسجد الضرار والإغارة ﴿لَكاذِبونَ﴾ (التوبة، 107). وكان الاتهام الفاطمي: «لقد جئتم شيئا فَرِيّا»[19] [=شيئا عظيم الكذب والخداع].
و«العِجْل»، هو «العَجَلة» في استغلال فرصة غيبة سيدنا موسى بن عمران عليه السلام. و«المَغارة»/«مسجد الضرار»، هو العجلة في انتظار فرصة غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله عن الحياة الظاهرية. تقول سيدتنا فاطمة، عليها السلام: «هذا والعهد قريبٌ!»، فالرسول مازال مسجّى لم يُدفن بعْد، بنفسي هو! وفي الحقيقة، فإنّ «الموسى» الحقيقي هو محمد (ص)، لأن «الوِسَايَةَ» (الوَسْيُ) هوي القيام بالاستواء والعَدْل والاستقامة[20].
وفي «العِجْل»، كان ﴿يَقولُ[مَنْ كان] أَمثَلُهُم طَريقَةً إِن لَبِثتُم إِلّا يَومًا﴾(طه، 104). و﴿يَتَخافَتونَ بَينَهُم إِن لَبِثتُم إِلّا عَشرًا﴾ (طه، 103)، ومع «المغارة» كانوا يتربصون بالنبي صلى الله عليه وآله طيلة 10 سنوات أيضا (سبحان الله!) من دولة إيلافه الشريف!! فمن الطبيعي أن يتناول القرآن الكريم عن أهم نقاط المستقبل، ومنها نقطة مسجد الضرار السّاعديّ الخطرة جدّا، فـ﴿يَقولُ [مَنْ كان] أَمثَلُهُم طَريقَةً: إِن لَبِثتُم إِلّا يَومًا﴾ (الأنعام،38)، فكان الابتهاج: «من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات!». ولا ندري أن أحدا كان يعبد رسول الله، صلى الله عليه وآله، قبل وفاته الظاهرية!! إنه التعجل الشيطاني في «العِجْل»: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ (القيامة،20)، و«العَجَلة من الشيطان» (حديث). ولذلك كان التأنيب الموسوي: ﴿أَعَجِلتُم أَمرَ رَبِّكُم؟!﴾ (الأعراف)، وكان التأنيب الفاطمي مستشهدا بالآية القرآنية: ﴿أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّـهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّـهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران،144) (راجع الخطبة).
كان «العِجْل»﴿لا يُكَلِّمُهُم﴾ (الأعراف، 148)، وكان «التأسيس المغاري» ﴿تَفريقًا بَينَ المُؤمِنين﴾ (التوبة، 107) حتى لا يكون تواصل بينهم. وكان «العجل»﴿لاَ يَهديهِم سَبيلاً﴾ (الأعراف، 148)، وكان «التأسيس المغاري» ﴿لا يَهدِي﴾ (التوبة، 109). فكلاهما قائم على الجهل و«الكُفْر» أي طمس الحقيقة، سواءً كانت تهم الإرث الظاهري أو الإرث الباطني.
كان قوم «العجل»﴿ظَالِمُونَ﴾ (البقرة، 51)، وكان قوم «المغارة»﴿القَومَ الظّالِمينَ﴾ (التوبة، 109). وهو ظلم للنفس قبل كل شيء (البقرة، 54). كان العجل، ﴿لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ (المائدة، 76)، وكانت المغارة ﴿ضِرارًا[21] وَكُفرًا﴾ (التوبة، 107)، ولكنها لن تضر إذا وقع التشبث بـ«براءة» بنيان المسجد النبوي وحرق بنيان مسجد الضرار. والمقصود باتخاذ العجل مضارّة «كاتب العدل» و«الشهيد»[22]، بينما الله تعالى يحذر: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ (البقرة، 282). فالمقصود بالمضارة هو «كاتب العدل»: سيدنا محمد صلى الله عليه وآله، والشهيد: سيدنا علي، عليه السلام[23].
ففي حالة «العِجْل الشاميّ»، كان «كاتب العَدْل» المضارّ هو الوصيّ هارون، عليه السلام، وصي موسى بن عمران، عليه السلام، فقد شكا الرسول المهيمن عليه: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ (الأعراف، 150). وفي حالة بنيان مسجد الضرار كان استضعاف الإمام علي، علبه السلام وأهل بيته، عليهم السلام، فأهل الضّرار/المُضارّة قالوا: ﴿أَخَذنا أَمرَنا مِن قَبلُ [قد اغتصبنا الولاية السياسية العليا]،وَيَتَوَلَّوا [= ويحكمون]وَهُم فَرِحونَ﴾ (التوبة، 50). ومن ناحية أخرى تقول سيدتنا فاطمة، عليها السلام: «أضيع الحريم، وأذيلت الحُرمة عند مماته، صلى الله عليه وآله»[24]. وبدأ التربص بأهل البيت وأنصارهم: ﴿هَل تَرَبَّصونَ بِنا إِلّا إِحدَى الحُسنَيَينِ﴾ (التوبة، 52). وفعلا وصلوا إلى قتل كل الأئمة الإحدى عشر، عليهم السلام، بدءًا بالنفسيْن الحُسْنييْن.
وكان «العِجْل»«فِتنة» (الأعراف، 155) بقيت آثارها في السبعين رجلا الذين اختارهم موسى عليه السلام. وكانت الفتنة في تأسيس البنيان السياسي لمسجد الضرار (التوبة، 49). وقد أكدت سيدتنا فاطمة عليها السلام ذلك[25]. كان الوصي الهارون عليه السلام حريصًا على الالتزام بوصية الرسول المهيمن عليه، عليه السلام فلم «يُفرقْ» بين بني إسرائيل ورَقَب كل قول الرسول موسى، عليه السلام. وكذلك فرض سيدنا علي، عليه السلام، على أن يرقب قول النبي، فلم يُفرّق بين المسلمين، رغم الانقلاب، وراعى «الحِنث» الداخلي والخارجي الخطير، الذي يمكن أن يَسْتَغِل فرصةَ مطالبة الإمام علي بحق الأمة والبشرية في ولايته الأكثر حكمة والأكثر عدالة والأكثر براعة، بعد ولاية الرسول المهيمن، صلى الله عليه وآله: « رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام وأهله، يدعون إلى محق دين محمد (ص)، فخشيت إنْ لم أنصرالإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلْمًا أو هدما، تكون المصيبة به عليّ أعظم مِن فوت ولا يتكم»[26].
لقد غضب سيدنا موسى عليه السلام وأسِف، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله، غلبت رحمته على غضبه وتأسَّف: ﴿فَقُل حَسبِيَ اللَّـهُ﴾ (التوبة، 129). وقال موسى عليه السلام: ﴿بِئسَما خَلَفتُموني مِن بَعدي﴾ (الإعراف، 150). بينما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «اللهَ اللهَ في أهل بيتي! أذكركم الله في أهل بيتي!»[27]، وقال عن الكتاب والعترة: «فانظروا كيف تخلفونني فيهما!»[28]، فيا للتشابه العجيب!!!
يا سبحان الله!!!
وقد ﴿عَنَتِ الوُجوهُ لِلحَيِّ القَيّومِ﴾ (طه، 111). في آخر قصة «العجل» بينما كان رسول الله صلى الله عليه وآله في آخر سورة التوبة ﴿عَزيزٌ عَلَيهِ ما عَنِتُّم﴾ (التوبة، 128). و«العَنَتُ» هو المَشقة الشديدة.
وإذا كان قوم «العجل»﴿سُقِطَ في أَيديهِم﴾ (الأعراف، 149)، فقد ﴿أَسَّسَ[المَغَاريّ] بُنيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ، فَانهارَ بِهِ في نارِ جَهَنَّمَ﴾ (التوبة، 109). فسُرعان ما سقط البنيان المَغَارِي في شهره الثالث، مؤسسًا طاغوتًا أكَلَ أبناءَهم. ولم يكن بُنيانهم ممكنا تاريخيا، فلم تقم له قائمة بعد ذلك، إلى اليوم، وإلى يوم القيامة تلك ﴿سُنَّةَ اللَّـهِ﴾ (الأحزاب، 38). فقد كان العجل ﴿جَسَدًا لَهُ خُوارٌ﴾ (الأعراف، 148)، فلا حياة حقيقية فيه، وكذلك البُنيان السياسي المَغَارِيّ.
كان «العجل» إِرْصَادًا من السَّامري لكلّ من حَارب الله تعالى وموسى عليه السلام مُخْلفينَ موعده﴿أَفَطالَ عَلَيكُمُ العَهدُ [فلم أَغِبْ عنكم إلا بضعة أيام]،أَم أَرَدتُم أَن يَحِلَّ عَلَيكُم غَضَبٌ مِن رَبِّكُم [غضب سورة البراءة]فَأَخلَفتُم مَوعِدي [بمُحَادَّةِ الكتاب وعصيان خليفتي الهارونِ]﴾ (سورة طه، 86). وكان البنيان المَغَارِيّ أيضا، ذا الظاهر المسجدي الخادع ﴿إِرصادًا لِمَن حارَبَ اللَّـهَ وَرَسولَهُ﴾ (التوبة، 107)، مخلفين موعد رسول الله في مبايعة وصيّة.
عدو «العجل» هو «الهارون». و«الهارون» باللغة العربية-السريانية هو «الجبل»، ومجازًا هو «العلي»،«المرتفع». أو «الموسَى» فهو القائم بالوساية إي الاستقامة والاستواء، وهو من معاني المحمدية. وكان «الهارون»«جَبَلاً»، بهذا الامتحان العصيب الذي نجح فيه، وصيّا لِلموسَى فعلاً وانطباقا، وكان علي عليه السلام، بهذا البلاء المبين من الرسول، صلى الله عليه وآله، «جَبَلاً»بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبوة بعده. وكانت تلك الشهادة أثناء أيام سورة التوبة نفسها، وكان مسرحها المدينة المنوّرة. وقد نجح في ولاية المدينة المنورة في غياب صاحبها الأول، رغم أن جل الحُماة خرجوا بعيدا إلى الحدود الشمالية. ولم يكن هناك دليل أقوى من هذا الدليل، لذي عينين، على أحقيته الموضوعية بإمارة المؤمنين. وبهذه الأكثرية اختارت «إِرصَادَ» أبي سفيان وبني أمية ووهب بن مُنَبّه وكعب الأحبار (وغيرهما من أحبار اليهودية اليمانية «سابقا»)، وبني أَسْلَم (الأعراب المحيطون بالمدينة)…
وكان ما توقعته سورة التوبة من تأسيس مسجد الضرار لمّا غاب موسى الزمان مِن، واستضعاف هارونه، صلى الله عليهما وآله.
لقد ﴿أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ (البقرة، 93)، إلى أيام رسول الله، صلى الله عليه وآله. وكذلك البُنيان السياسي الضِّرَاري/المَغاري: ﴿لا يَزالُ بُنيانُهُمُ الَّذي بَنَوا ريبَةً في قُلوبِهِم﴾ (التوبة، 110)، أي سيستمرّ قرونًا وقرونًا، إذ سيُشْربُهُ المسلمون، وسيكون ﴿إِرصادًا لِمَن حارَبَ اللَّـهَ وَرَسولَهُ﴾ (التوبة، 107)، أي فرصة ذهبية سيرصدونها، أي سيسْتثمرونها أحسن استثمار.
لقد كان السَّامِري «من خيار قوم موسى»[29]، تماما كالشيطان ﴿كانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَن أَمرِ رَبِّهِ﴾ (الكهف، 50). و«شَهَر» أي «تحدث ليلاً» و«دقَّ المسمار». فالسَّامرية هي تبييت المؤامرة والإعداد لها، إذ «كان رجلاً أحْوذيًّا» ودقّ المسمار في الضلع الشريف لمركز البنيان الإسلامي/المحمدي. زهي مرتبطة، حسب سورة الأنعام بالاستكبار ورجوع «المترفين» والتماهي بهم و«الانقلاب على الأعقاب» و«النكوص»: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ(67)﴾ (المؤمنون)[30].
أمّا تأسيس البُنيان السياسي الضِّراريِّ/المَغَارٍيِّ، فقد كان نتيجة ﴿الْحِنثِ الْعَظِيمِ﴾ (الواقعة، 46)،﴿لَقَدِ ابتَغَوُا الفِتنَةَ مِن قَبلُ وَقَلَّبوا لَكَ الأُمورَ﴾ (التوبة، 48). ولو لم تسهل الظروف التاريخية الإمارة السياسية العليا للإمامين علي والحسن، عليهما السلام، لبقيت حقيقتهما سرًّا إلى الأبد، ولطُمست ولم نستطع اكتشافها. ﴿حَتّى جاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمرُ اللَّـهِ وَهُم كارِهونَ﴾ (التوبة، 48).
سيكون تعذيب «المَغَارِيِّين» ﴿مَرَّتَينِ﴾قبل العذاب العظيم (التوبة، 101): مرةً مع الأمويين ومرةً مع العباسيين، قبل الانخراط في عذاب الاحتلالات الرومية منذ نهاية القرن الثامن عشر الميلادي. وأما فرديّا فهو ﴿يُفتَنونَ في كُلِّ عامٍ﴾ (التوبة، 126). وإذا كانت فتنة سامريِّ «العجلِ» أن يقول هستيريّا: «لا مسَاس!» (طه، 97) فإن أحد سامريّي المغارة/الإغارة/المسجد الضرار أصبح يقف إلى الصلاة فينسى القرآن الكريم[31]، لأنه ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ (الواقعة، 79)، وهو لم يكن، على الأقل من ﴿رِجالٌ يُحِبّونَ أَن يَتَطَهَّروا﴾ (التوبة، 108)، أي على صراط المطهّرين تطهيرا، عليهم السلام.
لقد أمر الله تعالى موسى بن عِمْران والمسلمين في عصره بتحريق «العجل» ونَسْفه في اليَمِّ: ﴿لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسفًا﴾ (طه، 97)، وذلك لنعمقه في النفوس فلا بد من عمل طويل لاستئصاله. وأمّا مسجد الضرار، فلا بد من تقطيعه تقطيعا أيضا لِتَمَكُّنِ رَيْبيّته مِن الإسلام والنبي والوصي بشدة: ﴿لا يَزالُ بُنيانُهُمُ الَّذي بَنَوا ريبَةً في قُلوبِهِم[إذ تماهُوا به] إِلّا أَن تَقَطَّعَ قُلوبُهُم﴾ (التوبة، 110). وذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وآله إلى تهديم بنيانه وتحريقه. فهذا المسجد الضراري ليس بناية مادية حدثت في نقطة من التاريخ، بل هو بنيان قلبي (الآية 110) لا يزال، أي مستمر في التاريخ غير الواعي للمسلمين، وينبغي، نسفه نسفا بالحكمة والموعظة الحسنة والتأسيس المستمر لمسجد التقوى. فهو تمامًا كالعجل، ليس حدثا كان في نقطة من التاريخ، بل هو «مشروبٌ» «رِيبيّ» لا يزال في القلوب المريضة.
- ماهية «البراءة»: المفارَقة والتميُّز البُنياني والحضاري
«البراءة» هي «الامتناع»، و«المفارَقة»[32]، أي القطيعة مع الماضي البشري الطاغوتي الاستكباري، والدخول في مرحلة بداية استئصاله لتأسيس «بُنيان» صَفاء «العَدْلِ» و«القسط» العالمي. فهو تميّز الدولة الإسلامية وتلبيتها لرِبْعِيَّتها واستقلاليتها عن السيرورة الظُّلْمية الداخلية والسيرورة الاستكبارية الخارجية، دون تلوث بما يشوب من اختلاط ببعض بقايا الجاهلية العربية أو الرومية (أو الساسانية) مِلّيّا ومعاشيا وانتحاليا وبُنيانًا سياسيا، قطعا للشبهة والطعن، ومنعا لإمكانيات الانقلاب الداخلي على ذلك «البُنيان» الذي تعب من أجله رسول الله، صلى الله عليه وآله، ويتلوه شاهدٌ منه عليه السلام، وثلة عظيمة من الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم. فتلك الشائبات ستعطل نموّ «البُنيان» الإسلامي، وقد تُسقطه على مدى قصير أو طويل نسبيا.
فالبراءة«البُنيانية» هي أصْل التمكّن في «دولة الصالحين»، وشرط التميّز «الحضاري» الذي يجعل الآخرين يشرئبّون لذلك «البُنيان» فيطلبونه دون احترازات، وهي شرط الصحة (=البُرْء) والاستمرار التاريخي. أمّا «المُعاهدات الشركية»، من وراء ظهور المؤمنين، فهي نقيضها تمامًا. و«شِرْكُ المُسْلِم» هو طاعة الانتحالات والسِّوَاق الشِّرْكِيَّة: ﴿وَلا تَأكُلوا [=لا تَنْتَحِلُوا] مِمّا لَم يُذكَرِ اسمُ اللَّـهِ عَلَيهِ. وَإِنَّهُ لَفِسقٌ [= انحراف]. وَإِنَّ الشَّياطينَ [مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه] لَيوحونَ إِلى أَولِيائِهِم لِيُجادِلوكُم [=ليحرّفوا فهمكم الديني]، وَإِن أَطَعتُموهُم إِنَّكُم لَمُشرِكونَ﴾(البقرة، 121). و«الشّرك» هنا، هو عَمَلُ السامريّ المخَلّط بين ﴿أَثَر الرَّسُول﴾وما سَوَّلتْ له نفْسُه (سورة طه، الآية 96).
[1] انظر في كل تلك التسميات: الزمخشري، تفسير الكشاف، دار المصحف، القاهرة، 1977، ج1، ص 179.
[2] م. س، ص 179 أيضا.
[3] لا بدّ هنا من ترجمة كُتب الإخباريين البيزنطيين المعاصرين لسورة التوبة.
[4] تناوَلتهم سورة المائدة (الآية، 82).
[5] ابن طيفور (أبو الفضل)، بلاغات النساء، المكتبة العصرية، صيدا وبيروت، 2001، ص30.
[6] ابن منظور، م. س، ص34.
[7] ابن طيفور، م. س، ص36.
[8] و2 ابن طيفور، م. س، ص36.
[10]الطَّبِن: الفطن، الفهيم.
[11]ابن طيفور، م. س، ص37.
[12]السَّواد: الحجم «الديمغرافي».
[13]ابن طيفور، م. س، ص38 [ذكرت ذلك أثناء مرضها، فدتها نفسي!].
[14]الطريحي، المجلد3، ص238.
[15] الطّريحي، م. س، المجلد3، ص238.
[16] م. س، ص238، أيضا.
[17]الطّريحي، م. س، ص429.
[18]«المسجد» هو «الأرض»: «جعلت في الأرض مسجدًا» أي حِمَى الدولة الإسلامية وبُنيانها.
[19] انظر فصل: تدبر في سورة الكهف والرقيم.
[20] ابن منظور، مادة: و س ي.
[21] … أي «المضارّة» للمؤمنين (الطريحي، المجلد الثالث، ص372).
[22] وقع تناولها في هذا الفصل.
[23] راجع التدبر في سورة الهُود.
[24] ابن طيفور، م. س، ص35.
[25]ابن طيفور، م. س، ص36.
[26] الإمام علي، نهج البلاغة، ص219.
[27]مسلم النيسابوري، الصحيح.
[28] م. س، [عجيبةٌ خطبة رسول الله هذه: تُعْلِمُ بقرب وفاته، ولا تُوصي المسلمين إلاَّ بالكتاب والعترة فقط!! ذلك لأنها كل شيء].
[29]الجزائري (نعمة الله)، النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين، دار ذوي القربى، طهران، 1328هـ، ص253.
[30] … عجيبٌ أنْ يُوثّق الذهبي عمر بن سَعْد بن أبي وقّاص، قاتل الحسين، آخذًا كل أحاديثه مع النبي، بينما يرفض أحاديث عنترة مِن عشاق الحسين! ولكن ذلك يعود إلى التماهي بالسّامريّين الأولين للأمة (حَبْر الأمة، وَهب بن مُنبّه…).
[31] ابن الجوزي، المناقب، دار الجبل بيروت، ص77. وكذلك: الشعراني، كشف الغمّة، «كتاب الصلاة».
[32] الطّريحي، م. س، المجلد 1، ص 51.