بقلم: د. نعمان المغربي (مختص في علوم الأديان المقارنة، – تونس)
عفا الله عنه وحفظ أهله، آمين
بين «غار»«البراءة» و«مغارات»«التعاهد» مع المشركين«المُعْتَدِين»: بين البُنيان السياسي الإسلامي والبُنيان السياسي الضِّراري
- مِمَّ تتبرّأ سورة «البراءة»؟
يتبرّأ الله تعالى ورسوله (ونَفْسُهُ، ونُفُوسُهُ، عليهم السلام) من المعاهدات التي تُحاك خِلْسَةً، كأن الله تعالى ورسوله (ونُفُوسُهُ) لا يرَوْن الأعمال بإذن من الله تعالى، بين بعض المسلمين مع المشركين (عربًا ويهودًا ورُومًا وساسانيّين). وذلك خِدْمة لمصالح وَهْمية، وعصبيات موروثة ومُراكمات رِبَوية/ اكتنازية ذات شبكات عالَمية.
وهذه المعاهدات، والاستعدادات لتلك المعاهدات، هي حسب السورة الفاضحة، غبيّةٌ، لأنها لن تؤدي إلى ترسيخ تلك المصالح الوهمية، العاجلة، بل ستؤدي بعد «سياحة» غَبِيَّة بأربعة «أشهر»[1]، أي أربعة «فضائح»، إلى تقويض «الذمّة» أي قوانين دولة النبي صلى الله عليه وآله، إذ سيكون بعد الشهر الرابع «مُلْكٌ عَضُوض» يبدأ بمأساة كربلاء. وإلى اضطهاد «الإلّ» أي البيت الأطهار، وهم «الشُّهور»[2]، أي الأعلم بالرسالة المحمدية.
﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشهُرُ الحُرُمُ﴾(التوبة، 5)، أي إذا أتمّ الله عِدَّتَهُمْ (علي، الحسن، الحسين، المهدي، عليهم السلام)، أي إذا انسلخ الشهر الحرام الأخير، عليه السلام، من كل بَيْعة، وخرج عَلَى «كافة»الطواغيت في العالم، ﴿فَاقتُلُوا المُشرِكينَ﴾، فاقتلعوا البُنيانات الطغيانية جميعا ﴿حَيثُ وَجَدتُموهُم، وَخُذوهُم، وَاحصُروهُم، وَاقعُدوا لَهُم كُلَّ مَرصَدٍ. فَإِن تابوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلّوا سَبيلَهُم. إِنَّ اللَّـهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾(التوبة،5). فقتَالُ المُجَاهَدة الإلاهيُّ، ليس قِتَالاً مِن أجل القَتل، بل قِتال من أجل السلام، ومِنْ أجل إمكانية عودة الخاطئين إلى ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، فلا مكان لقتل «المشرك المعتدي» إن «تاب» عن «الاعتداء».
وهذه الآية لا تنطبق تمام الانطباق إلا على ظُهُور نَفْسِ رسولِ الله، صلى الله عليه وآله، أي سيدنا المهدي، عليه السلام. ففي الآية 36، التي تؤكد أن «الشُّهور»﴿إثنا عشر﴾، توقعٌ بأن ﴿المُشْرِكِينَ كَافَّة﴾ (أي في كل العالم)، سيقاتلون أتباع النبي (ص) ﴿كَافَّة﴾، وهذا لم يكن في حياة النبي (ص)، بل سيكون في زمان خليفته، و«نَفْسِهِ»: محمد بن الحسن العسكري (ع): ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهورِ عِندَ اللَّـهِ اثنا عَشَرَ شَهرًافي كِتابِ اللَّـهِ يَومَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ، مِنها أَربَعَةٌ حُرُمٌ. ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ فَلا تَظلِموا فيهِنَّ أَنفُسَكُم. وَقاتِلُوا المُشرِكينَ كافَّةً كَما يُقاتِلونَكُم كافَّةً وَاعلَموا أَنَّ اللَّـهَ مَعَ المُتَّقينَ﴾(التوبة،36).
إن «سياحة» المسلمين، الذين انحرفوا عن ما هو مرسوم لهم من رسول الله، صلى الله عليه وآله، لا تجعلهم ﴿مُعجِزِي اللَّـهِ﴾(التوبة، 2) أي «لا تفوتونه وإن أَمْهَلَكم»[3]. تماماً كبني إسرائيل، أي السورِيّين، الذين عصَوْا رسولهم، موسى بن عمران، فـ«سَاحُوا»، أي «تَاهُوا»: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ [السورية مع ابن عمران، ثم الحجازية مع النبي محمد (ص)]. فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [=المنحرفين عن الصراط المستقيم] ﴾(المائدة، 26). وفعلاً فإن «تِيه» الحجازيين دام حوالي أربعين سنة، لكي ينتهي بنيل بني أمية السلطان.
تلك «السياحة»، «التِّيهُ» التي دامت طيلةَ حُكْم أربعة «أشهر»«ضَالين»، أسّست لاضطهاد «الإلّ» المحمدي، عليهم السلام، اضطهادًا فظيعا، وأدى إلى تقويض «الذّمة» المحمدية (الصحيفة والقوانين المحمدية الشريفة، واحدة بعد أخرى).
فقد زرع «الشَّهران»«الضِّرَاريَّان» الأَوَّلان بني أمية بالشام فتقوّوا على المسلمين. فكانت النتيجة أن قَتَلَ بنو أمية ابنَ بِنْت الأوّل: عبد الله بن الزبير (=عبد الله ابن أسماء) وبِنْتَهُ عائشة،، ولم يغفروا لابنه محمد (إذ هو ابن زارِعِهِمْ) فَسَمُّوه بوحشية.
أمَّا عبد الله بن عمر، فكان ذا سجيَّة ضعيفة، ذا خُوَافٍ، فلم يلتحق بأعقل الناس بعد النبي (ص)، ثم ندِم؛ ولم يُبَايع أعْقَل المسلمين (ع) الحسن آنئذ، ثم نَدِم؛ وبايع ثانيهم-تاركًا أعقل المسلمين آنئذ فكان من أوائل قاتليه عمليًّا، ثم نَدم…وهكذا لم يكن يتعظ بتجارب الحياة، فيخطئ الخطأ ثم يعيده مرّاتٍ عديدة.
ذلك مِصداق قوله تعالى: ﴿كَيفَ وَإِن يَظهَروا[4] عَلَيكُم لا يَرقُبوا فيكُم إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرضونَكُم بِأَفواهِهِم وَتَأبى قُلوبُهُم وَأَكثَرُهُم فاسِقونَ؟!﴾(التوبة، 8). ﴿لا يَرقُبونَ في مُؤمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً. وَأُولـئِكَ هُمُ المُعتَدونَ﴾(التوبة، 10). وبذلك كان تمكّن «الشهر الشيطاني»الرابع، الذي أسَّس الطاغوت الأموي، بسبب تولية «الأشهر» الثلاثة له طيلة عقود طويلة دون محاسبة.
فقد كانت خِشْيتهم، (التي دفعت إلى التفكير في التخلص من بني أمية بِزَرْعهم بعيدًا على نار الحدود مع بيزنطة، توهّمًا من أنهم لن يفكروا في التحالف مع بيزنطة) خشية غبيةً، أدت إلى قتل التيميين واضطهاد العَدَويين بعد «الشَّهْر» التيمي و«الشَّهْر» العدوي و«الشَّهْر» العثماني و«الشَّهْر» المعاووي: ﴿أَتَخشَونَهُم؟! فَاللَّـهُ أَحَقُّ أَن تَخشَوهُ إِن كُنتُم مُؤمِنينَ!﴾(التوبة، 13).
- حتى إن تركتم الرسولَ (ونَفْسَه) وحده سينصره الله (التخلّي عن «الغار» وتأسيس «المغارات»/أنفاق «النفاق»
﴿ما لَكُم إِذا قيلَ لَكُمُ انفِروا في سَبيلِ اللَّـهِ اثّاقَلتُم إِلَى الأَرضِ؟! (…) إِلّا تَنفِروا يُعَذِّبكُم عَذابًا أَليمًا(…). إِلّا تَنصُروهُ [وتركتموه دون مناصرة] فَقَد نَصَرَهُ اللَّـهُ [ومن الأمثلة على ذلك أن صاحبه ندم على الهجرة وترْك قريش فحزن]،إِذ يَقولُ لِصاحِبِهِ: لا تَحزَن [على تركِك رأسَ مَالِكَ القرشيَّ وتركك الأمان القُرشي فلم تُصَبْ بالاضطهاد القرشي]. إِنَّ اللَّـهَ مَعَنا [يراقبنا ويعرف باطننا دائما]. فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكينَتَهُ عَلَيهِ [على رسوله وحده، فلم يستعدّ الصاحبُ في الغار لها]، وَأَيَّدَهُ بِجُنودٍ لَم تَرَوها [لم يرها الحزين النادم على الهجرة ومقاطعته قريشا] (…). انفِروا[انفرْ أيها الصاحب في «الغار» مع جَيْشِ أسامة لمواجهة الخطر العالمي] (…) خَيرٌ لَكُم[ولا تُفكّرْ في التولّي السياسي بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وآله]. (…) لَو كانَ عَرَضًا قَريبًا [غزوة قريبة] وَسَفَرًا قاصِدًا[سفرًا يسمح بمراكمة رأس مالٍ تجاري] لَاتَّبَعوكَ[لاتّبعك صاحب الغار، فالعرض القريب لا يُفوِّت التولي السياسي، ويسمح بمتابعة ما يجري في المدينة، أما النفور مع جيش أسامة شهرًا من الزمن أو أكثر فسيجعل فرصة التولي بوفاة الرسول، صلى الله عليه وآله، تَفُوتُ، ولذلك ينبغي تعطيل خروج الجيش وتجهيزه والتذرّع بكل ذريعة في سبيل ذلك] (…)﴾(التوبة، من 38 إلى 42).
إن كثرة استئذان هذا الصاحب أثناء استعداد أسامة بن زيد، رضوان الله عليهما، للخروج، فيندرع بزوجاته وبضيعته في السِّنْج، إنما يعبّر عن «اثِّقال» إلى الأرض، ولكنّ مُدَّة تولّيه ستكون قصيرة جدًّا: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا ما لَكُم إِذا قيلَ لَكُمُ انفِروا في سَبيلِ اللَّـهِ اثّاقَلتُم إِلَى الأَرضِ أَرَضيتُم بِالحَياةِ الدُّنيا مِنَ الآخِرَةِ فَما مَتاعُ الحَياةِ الدُّنيا فِي الآخِرَةِ إِلّا قَليلٌ﴾(التوبة، 38).
وهذا «الاستئذان» يعكس ارتيابًا وتربّصا بخلافة رسول الله، صلى الله عليه وآله: ﴿لا يَستَأذِنُكَ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاللَّـهِ وَاليَومِ الآخِرِ أَن يُجاهِدوا بِأَموالِهِم وَأَنفُسِهِم وَاللَّـهُ عَليمٌ بِالمُتَّقينَ (44) إِنَّما يَستَأذِنُكَ الَّذينَ لا يُؤمِنونَ بِاللَّـهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَارتابَت قُلوبُهُم فَهُم في رَيبِهِم يَتَرَدَّدونَ (45)﴾(التوبة). ولقد زار يومًا ابنتَهُ، فوجدها تتلَقَى رُقْيَةً من امرأة يهودية، فأجَازَ فِعْلها، وقال: «اِرْقِيها بكتاب الله!»[5]، أي بتوراتها، وذهب في حال سبيله، دون أن يتأكد من مضمون فعلها. بينما كان رسول الله موجودًا، في دارها، من حقه هو أن يَرْقِيها: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾(البقرة، 61).
كان رسول الله، صلى الله عليه وآله، يخرج كل يوم، رغم إجهاد المرض، مشددًا على خروج جيش أسامة، وفيه أبو بكر وعمر وعبد الرحمان بن عوف وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وأسيد بن حضير وبشير بن سعد، ليبعدهم عن «المغارات» و«الانقلاب على الأعقاب» إن مات، ويغضب لطعنهم في الأمير: «إن تَطْعَنُوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل. وأيْم الله إنه كان لخليقا بالإمارة وإن ابنه من بعده لخليق بالإمارة». ولكنهم رأوا غير ما رأى محمد (ص)، فأمَّرُوا يزيد بن أبي سفيان. ثم يقول: «أنفذوا جيش أسامة!. لعن الله من تخلف عن جيش أسامة!»، يعيدها ويكرّرها[6]. فأسامة أفضل منهم للإمارة، بينما هم يتربصون الموتَ للنبي الكريم (ص) لاغتصابها.
لقد «قَلَبَ» الصاحب وجمهوره الأمور ﴿وَيَتَوَلَّوْا﴾السلطةَ السياسيةَ واحدًا واحدًا ﴿وَهُمْ فَرِحُونَ﴾(التوبة، 50)، بعد أن استعملوا «سَمّاعيهم» (=جواسيسهم) في تثبيط جيش أسامة وتأخير خروجه متربّصين بأهل البيت وبنظام الصحيفة (الدستور) الشريفة: ﴿يَبغونَكُمُ الفِتنَةَ وَفيكُم سَمّاعونَ لَهُم وَاللَّـهُ عَليمٌ بِالظّالِمينَ(47) لَقَدِ ابتَغَوُا الفِتنَةَ مِن قَبلُ وَقَلَّبوا لَكَ الأُمورَ، حَتّى جاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمرُ[7] اللَّـهِ، وَهُم كارِهونَ(48)﴾(التوبة).
فقد ظهرت الولاية السياسية للإمام علي، عليه السلام، وهي أمر الله الذي أراده وفي ذلك حكمة اجتماعية – تاريخية واضحة، وهم «كارهون» لها. وقد كان أمْرُ عليّ، عليه السلام، محلّ تلاعب و«تنْسِئة»[8]: فيتعللون عامًا بأنهم «كرهوا جَمْعَ هاشِم للنبوة والسياسة»، وبأنهم يرون عليّا صغير السن (كأن المسألة قَبَلِيَّةً وجِيلِيَّةً)، أو «ذا فكاهة لا تليق بالأمر»؛ وعامًا بأنه لم يُرد الالتزام بسُنّتَيْ الشهرين المَغَارِيَّيْنِ الأوَّلًيْن، رغم أن هاتين السُّنّتين لم يأت بهما قرآن ولا سنة نبوية ولا عقل. وبهذه «التنسئة» يتراكم تكفيرُ المشروع المحمدي الأصيل، أي إهالة رُكامات الانحراف عليه: ﴿إِنَّمَا النَّسيءُ زِيادَةٌ فِي الكُفرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذينَ كَفَروا يُحِلّونَهُ عامًا [فيستشيرون الإمام في هذه المسألة أو تلك، عسكريا وقضائيا ومعاشيا وتدبيريا]، وَيُحَرِّمونَهُ عامًا [ويُهملون موقفه في هذا الأمر أو ذاك] لِيُواطِئوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّـهُ [فتكون مواطأةُ حَرَم أهل الكساء بإهانتهم ثم قتلهم واحدًا بعد آخر، وقد دُشن ذلك بخذلان صاحب المغارة أوَّل مرة]. فَيُحِلّوا ما حَرَّمَ اللَّـهُ. زُيِّنَ لَهُم سوءُ أَعمالِهِم وَاللَّـهُ لا يَهدِي القَومَ الكافِرينَ﴾(التوبة، 37). فقد برّروا عملهم وزيّنوه لأنفسهم وللناس، وبذلك سيحملون ﴿أَوْزَارًاعَلَىأَوْزَارِهِمْ﴾، طِيلَةَ التاريخ الدِّكتاتورِيِّ الآتي للمسلمين.
ومن حُسن الحظ، أن «الأشهر»/الفضائح الأربعة لم تُجازف بالقيادة الميدانية لفتح ما يَلي الحِمى الإسلامي الجزيري من «الكُفر» الرومي و«الكفر» الساساني، ولم يستطيعوا إقصاء أهل البيت عليهم السلام و«طائفة المتفقهين في الدين، رضوان الله عليهم» عنها: ﴿لَو خَرَجوا فيكُم ما زادوكُم إِلّا خَبالًا وَلَأَوضَعوا خِلالَكُم يَبغونَكُمُ الفِتنَةَ﴾. ولكن مع ذلك، هناك بالتوازي مع القيادة الميدانية الرشيدة قيادة سياسية سَمَّاعة «للأشهر» (=الفضائح)، ينبغي حُسن مداراتها ليَنجح السَّوْق المحمدي-العلوي لتوسط العالم لحفظ القرآن الكريم وبيضة الإسلام من الطاغوت الرومي-الساساني: ﴿وَفيكُم سَمّاعونَ لَهُم. وَاللَّـهُ عَليمٌ بِالظّالِمينَ﴾(التوبة،47). وما دام الله تعالى عليما بهم، فلا خوف منهم على السَّوْق التوسطي: ﴿فَتَرَبَّصوا إِنّا مَعَكُم مُتَرَبِّصونَ﴾(التوبة، 52).
ولكنَّ تربّصَ هؤلاء لن يدوم أكثر من «سياحة» (= «تِيه») أرْبعة «أشهر» فضائحية (وهي السورة الفاضحة) تنتهي بمعاوية. أما تربّص أهل البيت عليهم السلام والذين آمنوا حقا، فسيستمر حتى إتمام النور المحمدي بانتصار دولة ﴿المُتَّقِينَ﴾ ووراثة «الصالحين». وأما إنفاق المُخْذِلين فلن يكون مثمرًا تاريخيا: ﴿قُل أَنفِقوا طَوعًا أَو كَرهًا، لَن يُتَقَبَّلَ مِنكُم. إِنَّكُم كُنتُم قَومًا فاسِقينَ﴾(التوبة، 53). و«الفِسْقُ» هو الانحراف لغةً[9]، فهم ﴿قَومٌ يَفرَقونَ﴾(التوبة، 56). وبذلك فقد غَيّروا غَارَ الرسول ﴿مَلجَأً أَو مَغاراتٍ أَو مُدَّخَلًا لَوَلَّوا إِلَيهِ وَهُم يَجمَحونَ﴾(التوبة، 57)، فأصبح وَاحِدُ الرسول (=«غار») كَثْرَةً شَيْطَانية (=«مَغَارات»).
إن إمكانية تحوّل الصاحب من «غار» الرسول، صلى الله عليه وآله، أي كهف أهل البيت، عليهم السلام، الحريز، الآمن، إلى «مَغارات»، إمكانية واردة، إذا لم «يُكلِّبْ»[10] المسلم نفسه. و«الجُموح» (بضمّ الجيم) خروج المسلم من غار رسول الله صلى الله عليه وآله إلى عصبية الهوى والقبلية دون طَرْدٍ من رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو الرحيم، الرؤوف بأصحابه، لا يُطردهم حتى إن فعلوا الأفعال القبيحة راجيا دائما توبتهم وأوْبتهم إلى «غاره» الوسيع المريح. أمَّا «الجَمُوح» (بفتح الجيم)، فهو «الذي يركب هواهُ فلا يُمكن رده»[11]، إذ هو من قوم ﴿يَفرَقونَ﴾(التوبة، 56).
إن مَقْطع «الغار» و«المغارات» في سورة التوبة يبدأ بتأكيد عِدَّة «الشهور»[12]، أي «العلماء» المعصومين، وهي إثني عشر، وأن منها «أربعة حُرُم» (علي، الحسن، الحسين، المهدي، عليهم السلام)، أي أعظم مقامًا في مقاماتهم العُظمى. فينبغي للمسلم أن لا يظلم نفسه بمخالفتهم وإيذائهم ومحاربتهم، لأنهم روح السماوات والأرض. وذلك ينبغي لكل مَنْ يرى نفسه داخل «غار» رسول الله صلى الله عليه وآله الدَّائم إلى يوم القيامة، أي كهف أهل البيت عليهم السلام («ولَنْ يَفْتَرِقَا حتى يرِدَا عليَّ الحَوْض: كتاب الله وعترتي»[13])، أن يحافظ على وحدة الأمة ولا يشقّ وحدتها بالانقلاب على «الشهور» الإثني عشر، عليهم السلام: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهورِ عِندَ اللَّـهِ اثنا عَشَرَ شَهرًا في كِتابِ اللَّـهِ يَومَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ مِنها أَربَعَةٌ حُرُمٌ. ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ فَلا تَظلِموا فيهِنَّ [في السموات والأرض التي تَنْصُرُ الشهور الإثني عشر على مَنْ انقلب عليهم] وَقاتِلُوا المُشرِكينَ كافَّةً كَما يُقاتِلونَكُم كافَّةً. وَاعلَموا أَنَّ اللَّـهَ مَعَ المُتَّقينَ﴾(التوبة،36).
فهناك مؤامرة عالَمية خطيرة منسّقة بين مشركي البلاد العربية ومشركي الروم والساسانيين بوساطة أبي سفيان وأخلاقه[14]، فينبغي للمسلمين أن يكونوا يدًا واحدًا بقيادةٍ معصومة عاقلة تعرف الواحد سبحانه وتعالى. أي إن الحل الأمثل، والوحيد، لمجابهة المؤامرة الجزيرية – العالمية هو اللّجوء إلى كهف رسول الله وآله، صلى الله عليهم جميعا، أي غارهم الحريز الذي يؤدي إلى الانتصار على كافة المتآمرين على دين الله في العالم: ﴿اللَّـهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾(البقرة، 194). ﴿العاقِبَةَ لِلمُتَّقينَ﴾ (هود، 49). جاء في الحديث النبوي: «إنما عترتي كهْفٌ للمؤمنين» (رواه الترمذي).
أما «اللجوء» إلى «المغارات»، أي إلى غير ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ أي صِراط ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ و﴿الضَّالِّينَ﴾، فإنه سيؤدي إلى أن لا يكون الله معنا، أي معية التأييد والنصرة (وإن كان معنا بمعية الوجود)، فلن يكون الله تعالى ثالث الصاحب مع رسول الله[15]، صلى الله عليه وآله، فهو ثانٍ فقط، أي ثاني رسول الله فحسب: ﴿ثانِيَ اثنَينِ﴾(التوبة، 40)، وبذلك يكون الصاحبُ في «الغار» المادّيّ، وليس في «الغار» المَلَكوتيِّ لرسول الله، صلى الله عليه وآله. فلقد اختار «الصاحب» أنْ يكون في «الغار» المُلْكيّ فيزيائيا وفي «المَغارَة» الضِّراريّة/المُوازية بالآن نفسه، أي خارج «الغار» الملكوتي/الحقيقي.
ثم يواصل المَقْطع في التحذير من «تنسئة» أمير المؤمنين، وأهل البيت عليهم السلام (كتنسئة المأمون للإمام الرضا عليه السلام)، ثم يدعو «صاحب»«الغار» المادي إلى النفور مع جيش أسامة، رضوان الله عليه، ونصرةِ نَفْسِ رسول الله، صلى الله عليه وآله، أي الإمام علي، عليه السلام (الآيتان 38 و39). ويذكّره بأن حزنه وندمه على التفكير في «غار» رسول الله، صلى الله عليه وآله، تاركًا «مُدْخل»قريش، جعلا رسول الله يفقد لحظتها ناصرًا، ولكن الله تعالى أيّده بجنود كثيرين عِوَضهُ، وكانت كلمته، سبحانه، هي العليا (الآية 40).
ثم تأني الآية 48 لتبشر الرسول الكريم، صلى الله عليه وآله، أن ولاية الإمام علي، عليه السلام، لن تَطْمُرَها «المغارات» الشيطانية، بل سيظهر أمْرُها (السياسي) رغم كراهة الانقلابيين/التنسئيين لها. وأنّ ازدواج القيادة العلوية لتوسط العالم، كانت بأنْ راهَنَ الانقلابيون، فإن كانت مصيبة الانكسار أمام الطاغوت الرومي وتحالفه العربي وكذلك الطاغوت الساساني، سيقولون: ﴿قَد أَخَذنا أَمرَنا مِن قَبلُ، وَيَتَوَلَّوا [= يغتصبون الوِلايَة] وَهُم فَرِحونَ [بالسلطة]﴾(التوبة، 50)، أي إن الأمر السياسي بأيدينا، وهذه الهزيمة لن تضرّ إلاّ بأنصار الإمام علي، أي بالقيادة الميدانية للفتح التوسطي للعالم، فتُدمَّر تلك القيادة الميدانية على الحدود ويُرَسِّخون فرِحين توليهم السياسي إلى الأبد، حَسَبَ سَوْقِهم الشيطاني.
ولكن الله، سبحانه وتعالى يؤكد أن هذا «التربص» لن ينجح: ﴿قُل هَل تَرَبَّصونَ بِنا إِلّا إِحدَى الحُسنَيَينِ [الانتصار أو الشهادة]، وَنَحنُ نَتَرَبَّصُ بِكُم أَن يُصيبَكُمُ اللَّـهُ بِعَذابٍ مِن عِندِهِ أَو بِأَيدينا. فَتَرَبَّصوا إِنّا مَعَكُم مُتَرَبِّصونَ﴾(التوبة، 52). فالمؤمنون لن ينهزموا تاريخيًّا، وإن تواطأ عَالَمُ الشرّ، ما دامُوا سَوْقِيّين.
فإنفاق الانقلابيين المكره على الفتح التَّوسّطيِّ للعالم ضد المتآمرين الخارجيين («الجَمْع» بلغة سورة العاديات) لن يُقبل، نظر «لفسقهم»، أي انحرافهم (الآية 53)، وتكاسلهم عن الصلاة الحقيقية (الآية 54). إنه يُقسمون ﴿إِنَّهُم لَمِنكُم﴾(التوبة، 56)، أي مِن «غار» رسول الله، صلى الله عليه وآله الحقيقي، الملكوتيّ، بينما هم ﴿قَومٌ يَفرَقونَ﴾(التوبة، 56)، أي من أهل «المغارات الجُموحية» (الآية57). وبذلك يَنتهي المقطع على تأكيد خطير جدًّا.
من هذه «المغارات»، التحالف مع «مَغَارة» بني أمية، فيكون تعيين يزيد بن أبي سُفيان على جيش الشام، قائدا سياسيا، من المتولي التيمي، ثم يعزز ذلك المتولي العدَوي بتولية معاوية. ومنها اللجوء إلى خالد قائدا على من هو أكفأ منه دينًا وأخلاقا وسَوْقا عسكريا، وعدم محاسبته على قتل ناسٍ مُؤمنين (بني يربوع)، وعلى اغتصاب إحدى نسائهم (زوجة مالك بن نويرة).
فلقد أقصى «الشهر» المَغَاريّ الأوّل (والثاني) كبارَ الصحابة وأهلَ بدر عن الولايات، «مُقَلِّبا» في ذلك الأمور مِن الحِكمة النبوية إلى اتّباع الهوى السياسي، فمرّة يقول: «أكْرَهُ أن أدنّسهم بالدنيا»، ومرة يتهمهم بحب السلطة والتطلع للمال: «وأحذر هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله الذين انتفخت أجوافهم وطمحت أبصارهم وأحب كل امرئ منهم لنفسه»[16].
ومن هذه «المغارات»، «المغارة» اليهودية. ففي الوقت الذي يُمزّق فيه التيمي والعدوى أوراقا عديدة من السنة النبوية بتعلات واهية، ويحرّمان الرواية منها بتعلات واهية أيضا، يقرّبان كعب الأحبار ووهب بن منبّه اليهوديّين. وهذا التيمي يعود إلى نبوءة كاهنيْن يمانيَّيْن، روى البخاري عن جرير بن عبد الله البجلي (الصحابي) أن التيمي طلب منه أن يأتي له «بِهِمْ» [وليس «بهما» تعْظيمًا لهما]، فقد قال أحدهما لجرير: «إنكم معشر العرب لن تزالوا ما كنتم إذا ملك أمير تأمرتم في آخره»[17]. فالرسول عندهم «أمير» وخلفه «أمير»، وهي «نبوءة» تجعل إمارةَ التيمي مشروعة بفضل «النبوءة»-الجاهلية الكاهِنيّة الكاذبة.
فمن حسن الحظ أن توفي التيمي بسرعة، وإلا كُنا نجد أنفسنا أمام تَهْوِيد فظيع وسريع للإسلام الشريف. وكما مُنِعَ حديثُ رسول الله، كان كعب الأحبار يحدث العَدَويَّ، فيسْمَحُ له ولوهب بن منبه بالتدريس في مسجد الرسول، فجعلاه «مسجدًا ضرارا»، يُضارُّ المشروع المحمّدي ببثِّ التحريفاتِ الفَهْمِيّة.
كانت «المَغَارَة» الأولى هي «السقيفة»، وكانت «المغارة» الأخيرة: اغتصاب فدك، فقد كان «غنيّا»، أي يوفّر حاجاته وأَزْيَدَ حسب الشروط الشرعية لدولة المدينة، فلمّا اغتصب فدَكًا أصبح «مُتْرَفًا»: ﴿وَإِذا أَرَدنا أَن نُهلِكَ قَريَةً أَمَرنا مُترَفيها فَفَسَقوا فيها﴾ (الإسراء، 16)، فتأمّر «المُتْرَف» كان باغتصاب فدك. فمن سوء الحظ أن «غار» الرسول الكريم، كان كهفًا في متناول الصاحب، هَيَّأ له ﴿مِن أَمرِنا رَشَدًا﴾ (الكهف، 10)، أي بعضَ الأمر السياسي وليس رَأْسَهُ، والعياذ بالله، لأن رأسه اغتصابٌ من أهله، ذلك الرأس الذي جاء في آية الكهف النبوي تحْمل العدد 10، وهو عدد سنة وفاة رسول الله، صلى الله عليه وآله، ليصبح ماء «الغار» المحمدي «غَوْرًا».
وذلك ما يقوله كلُّ إمامٍ لطاغية زمانه: ﴿أَو يُصبِحَ ماؤُها[=استمرارُ مَنابِع قدرتها] غَورًا فَلَن تَستَطيعَ لَهُ طَلَبًا﴾ ومن ثمة ﴿وَأُحيطَ بِثَمَرِهِ ﴾ السياسيِّ، ﴿فَأَصبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيهِ عَلى ما أَنفَقَ فيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُروشِها[على سُلُطاتِها]،وَيَقولُ يا لَيتَني (…) الوَلايَةُ لِلَّـهِ ﴾ (الكهف، 41-44). ذلك هو حديثُ «الصاحب»﴿لِصَاحِبِهِ﴾ في سورة الكهف بهذا المَقْطع منها.
[1]«الشهْرُ» في أحد معانيه هو الفَضْحُ (ابن منظور)، مادة: ش هـ ر.
[2]«الشهور» ج «شهر» وهو العالِم (ابن منظور)، مادة: ش هـ ر.
[3] الكاشاني، الأصفى، ص313.
[4] راجع: قلعة حي (محمد روّاس)، فقه عبد الله بن عمر، مؤسسة الرسالة، بيروت.
[5] … رواه البخاري.
[6] الحسني (هاشم معروف)، سيرة المصطفى، ص686.
[7]«الأمْرُ» هو الولاية السياسية.
[8]«النّسِيءُ» في الأصْل هو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر. كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلّوه وحرّموا مكانه شهرًا آخر.
[9] ابن منظور، لسان العرب، مادة: ف س ق.
[10] راجع التدبر في سورةالمائدة.
[11] ابن منظور، المجلد 2، ص 426.
[12]«الشهر هو العالِم»، ابن منظور، مادة: ش هـ ر.
[13] رواه الترمذي، وهو حديث حسن صحيح (الألباني).
[14] علاقة أبي سفيان بالقيصر هِرَقل، عدوّ رسول الله (ص)، معروفة (راجع صحيح البخاري– مثلاً).
[15]﴿مَايَكُونُمِننَّجْوَىثَلَاثَةٍإِلَّاهُوَرَابِعُهُمْ﴾ (المجادلة، 7).
[16]رواه البخاري.
[17] البخاري، الصحيح، الحديث عدد 4101.