كنت من بين الذين استبشروا بتغيير الوضع السياسي بتونس يوم 14 جانفي 2011، مع احترازي لما خالط ذلك من فبركات، برْهنتْ أن الثورة التي اشتعلت بسرعة في البلاد، لم تكن لتقع، لولا رفْع أمريكا والغرب الغطاء عن الرئيس زين العابدين بن علي، وتركه لمصيره الذي أوقع نفسه فيه، ولولا ذلك لذهبت هبّة الشباب العاطل اليائس، كما ذهبت انتفاضات 1978، و1984 والحوض المنجمي أدراج الرياح، بلا أثر يذكر سوى إشارات خجولة، يستحضرها من عاش أحداثها بحسرة مرارة، وبداخله قناعة تقول بأن هذا الشعب لا يزال بعيدا عن روح الثورة والانتصار لحقوقه، بعدما فرّط في فرص أتيحت له، وكان بإمكانه أن يتخلّص من حقبة عمالة، هي أصل كل ما نحن فيه اليوم من تشتّت حال وهوان بين الدول .
بداية انكشاف حقيقة ما حصل في تونس، أن هذا الغرب بمنظوماته السياسية والقانونية، لم يكن ليولي أهمّية بوقائع الشعوب ولا بمستقبلها، وآخر همّه أن يتلفت إلى ذلك بعين البراءة والاهتمام الإيجابي، فخلال عشرية ذهبت بآمال الشعب، في أن يسير ببلاده نحو تخطيط جيّد ومستقبل أفضل، ظهرت فيها تحالفات غير بريئة ومتعمّدة، كشفت لنا حقيقة بعد الشعب عن السياسة، لعل ذلك ناتج عن عقلية قديمة، ترسّخت أساساتها بين أفراده خلال الحكمين السابقين، حيث كان يُرى الساسة وسياساتهم بكثير من الإنزعاج والكره، زاد عليها تكالب على السلطة بعد 14 جانفي، عمّقه إصرار من كان يرى في كتلته ( حزب حركة النهضة) استحقاقا تاريخيا ليكون ماسكا بدفّة الحكم، وله فيه نصيب الأسد.
وعوض أن تسلك هذه الكتلة مسلكا صادقا، في التعامل مع قضايا واستحقاقات البلاد، اختار رئيسها طريق التحالفات المشبوهة، ليوقع نفسه أولا في مأزق عدم مشاورة مجلس شوراه، وتسبب ذلك في انسحاب عدد كبير منهم، وزاد الطين بلّة تحالفه مع حزب (قلب تونس) أقل ما يقال عنه أنه فاسد، وأُنشئ لغايات الإستفادة الشخصية، بتنسّم مواقع سلطوية بالبلاد، وبدا التناقض واضحا بين تصريحات الإتهام بالفساد لهذا الحزب، والتحالف معه لأجل ضمان مقعد رئاسة البرلمان، وأشياء أخرى متبادلة بينهما، لكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، فقد جرت رياح الرئيس قيس سعيد، بما لا يشتهي هؤلاء المستفيدين من بقاء وضع البلاد المتردّي على حاله.
وجاء القرار ببدء الإجراءات الإستثنائية، كبداية لمحاربة الفساد، وتعديل أوتار الدستور، الذي حيك على مزاج من انتخبهم الشعب المسكين أو المغفّل، وهو يعتقد أنهم سيكونون له سندا، غير مدرك بأن الكثيرين منهم، لم تكن غاياتهم سوى خدمة أشخاصهم، والظهور على الساحة السياسة بمظهر الكبار، المشار إليهم بالبنان، وطبيعي أن ينفلت عقال هؤلاء المستفيدين من الوضع السياسي المجمّد، فيحركون قواعدهم، ويعبّرون بشتى الطرق عن معارضتهم لتلك الإجراءات، واضعين في حسابهم شيئا واحدا فقط، وهو إعادة عجلة الزّمن إلى ما قبل 25 جويلية.
ما قام به الرئيس قيس سعيد، وهو في موقعه على رأس السلطة، ليس انقلابا كما يدّعي هؤلاء الذين اجتمعوا على معارضة إجراءاته، ولا علاقة له بمنطق الإنقلابات وإجراءاته القمعية، لا من قريب ولا من بعيد، والدّعاية المُطلَقة من طرف المعارضين خبيثة مبالغ فيها، وفي المقابل هي برأي من وقف إلى جانب الرئيس إجراء سليم، وعمليّة انقاذ تأخّرت نسبيا، لعلّ العائق الأكبر كان جائحة كورونا، التي زادت من معاناة فئات الشعب المهمّشة.
أما بالنسبة لإحتجاجات الشارع، فهي دليل مادّي على أن دعوى الإنقلاب التي رفعها المعارضون لتشويه إجراءات الرئيس باطلة، وما عبروا عنه بأنّه مهّد بإجراءاته لحكم الفرد، ومضى منهم من اعتبرها دكتاتورية جديدة وُلِدت بعد 14 جانفي، أمّا خروج الناس للتعبير عن رأيهم، فقد كان مؤطرا حزبيا ولم يكن عفويّا، حتى الشعارات المرفوعة فيها، هي تعبير عن موقف حركة النهضة ومن تحالف معها بدافع ما، وفي اعتقاد هؤلاء المتظاهرين المحتجين، فإنّ استمرارهم في نهج المعارضة، سيؤتي أكُله بزيادة زخم الجماهير التي ستتخلى عن مساندة الرئيس قيس عندما يداهمها اليأس من تحسّن أوضاعها .
وكعادة قناة الجزيرة التي وضعت نفسها طرفا في الصّراع كتبت مقالا جاء فيه بالخصوص: ( يظل سيناريو إفشال مسار الرئيس التونسي قيس سعيد للتفرد بالحكم مطروحا بقوة، حسب بعض القيادات المعارضة التي شاركت -اليوم الأحد- في مسيرة حاشدة وسط العاصمة تونس للمطالبة بالعودة للديمقراطية، لكن سياسيين داعمين للرئيس يرون أنه لا يمكن إسقاط مسار الرئيس بمسيرات تكررت سابقا ثم فشلت، حسب تعبيرهم.. و تزامنت مظاهرة اليوم مع الاحتفال بذكرى عيد الشهداء، وقد رفع المشاركون خلالها شعارات تمجد رئيس البرلمان وزعيم حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي، الذي يمثل الخصم السياسي الأبرز للرئيس التونسي، في حين تعالت أصوات المتظاهرين لإسقاط ما اعتبروه انقلابا من قبل قيس سعيد على الدستور والشرعية.)(1)
غريب قناة الجزيرة هنا، ما تتفرّدت به في تعريفاتها السياسية، كقولها أن زعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي، تعتبره خصما أبرز للرئيس التونسي، بينما تقول الحقيقة، أنّ شيخ الحركة قد أنهى شعبيّته بنفسه في صلب الحركة، على الأقل على مستوى قيادات عليا، غادرتها بأعداد ليست بالقليلة، احتجاجا على سياساته الفردية الغير متوازنة.
وتأتي تصريحات الرئيس التونسي قيس سعيد، بعد احتجاجات المعارضة يوم الأحد 10 أفريل، لتؤكد مجدّدا اتّهامات موجّهة، لمن تورّطوا في الوصول بالبلاد إلى هذه الحالة المزرية اقتصاديا، بقوله: “هناك من يسعون (لم يسمهم) إلى استغلال الأوضاع الراهنة، للاستفادة منها سياسيا، بالرغم من أنهم لم يفوا بالعهود التي قطعوها، لمّا تداولوا على السلطة، هؤلاء يحاولون التحرّك، ليس من أجل التوصل إلى حلول، بل بغاية بثّ التفرقة بين الجهات، وتغذية الإحتقان.(2).”
محصّل القول أنّه على الشعب التونس أن يعي جيّدا أنه أمام خيارين كلاهما مرّ:
– خيار تضخيم حجم معارضة الرئيس، وبالتّالي خلق مشاكل سياسية له لتزيد الضغط الخارجي عليه، وهذا بحد ذاته عمل غير وطنيّ، فلم نرى من الرئيس ما يدعو الشعب إلى عرقلة محاولته الإصلاحية.
– خيار مساندته في إجراءاته التي قام بها إلى حدّ الآن، واعتبره موقف وطنيّ يجب على الجميع اتخاذه، تغليبا لمصلحة البلاد، التي وصل بها الحال اليوم، لأن تكون محلّ تندّر من دول العالم، بسبب أولئك الذين اعتبرهم الشعب مناضلين وطنيين، فإذا بهم يستنصرون الخارج على الداخل، وهي ينظر كل عاقل عمل مخزيّ من شأنه أن يسقط من يلوذ به من مجال السياسة والحكم، وأيّ حلّ يأتي من الخارج، هو إمضاء لسياسة التبعية والعمالة القديمة، ولا يمكن أن يكون لها محلّ في سياسة البلاد الحالية.
المصادر
1 – هل تغير الاحتجاجات في الشارع مسار الرئيس التونسي قيس سعيد؟
https://www.aljazeera.net/news/politics/2022/4/10/
2 – سعيّد: من تداولوا على السلطة بتونس يسعون لإستغلال الأوضاع الراهنة
https://www.aa.com.tr/ar/2422794