قام وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بجولة في العراق الشهر الماضي – أول زيارة له منذ خمس سنوات – جاء برفقة حاشية من الممثلين عن قطاع الطاقة ومجموعة من الأفكار لزيادة الاستثمارات الروسية في العراق. وتُعد رحلته إشارة إلى أن الولايات المتحدة ستواجه منافسةً شديدة على النفوذ من موسكو.
وتبرز أهمية هذا التحدي بشكل خاص في سياق الانسحاب الأمريكي من سوريا، والذي لا يضر بالمصداقية الأمريكية ويرفع من احتمال عودة تنظيم “الدولة الإسلامية” فحسب، بل يزيد أيضاً من حساسية بغداد للشركاء الأجانب الذين لا يشاركون المصالح الأمريكية. ولذا من الضروري الاضطلاع بدور أعمق في العراق لمواجهة النفوذين الإيراني والروسي على حد سواء.
ولا بد أن يتعدى هذا الانخراط تقديم المساعدة في مكافحة الإرهاب والضغط على بغداد بشأن القضايا الاقتصادية والإصلاح. ويقيناً، أن التعاون المستمر على هذه الجبهات ضروري للمساعدة في بناء قوات الأمن العراقية، وتحسين العلاقات الأمريكية معها، ومعالجة الفساد المستمر الذي يعاني منه القطاعين العام والخاص. ومع ذلك، تتغلب روسيا حالياً على الولايات المتحدة من حيث السمعة في العراق من خلال أدائها الأفضل في مجال القوة الناعمة.
خلال كانون الثاني/يناير، على سبيل المثال، ادّعى لافروف أن حوالي 4000 عراقي يدرسون في الجامعات الروسية، وأن البلدين يتطلعان الآن إلى زيادة هذه المبادرات التعليمية. وعلى الرغم من صعوبة التأكد من دقة أرقام لافروف، إلا أن الأمر الأكثر أهمية هو تأكيد موسكو علناً على روابطها مع العراق في أطر تتخطى [الاستثمارات] في مجال الطاقة ومبيعات الأسلحة.
وفي المقابل، ووفقاً لتقرير “معهد التعليم الدولي” الصادر في خريف 2018 بعنوان “الأبواب المفتوحة”، هناك 1438 طالباً عراقياً فقط يتابعون دراستهم في الولايات المتحدة حتى العام الماضي. إلّا أن حتى هذا العدد كان مبالغاً فيه على الأرجح، لأنه كان يعتمد على التقارير التطوعية من المؤسسات الأمريكية، ومن المحتمل أن يضم العديد من طلاب الشتات الذين لم يعودوا يعتبرون العراق بلدهم أو ليس لديهم خطط للعودة إلى العراق. وكما قال مسؤول أمريكي مطلع على هذا الموضوع لكاتبة هذا المقال، يعتبر عدد طلبات تأشيرات الطلاب العراقيين “منخفضاً بشكل محزن”.
إن استفادة العراقيين بدرجة أكبر من فرص التعليم في الولايات المتحدة من شأنها أن تساعدهم على الابتعاد عن نظام لطالما كان قائماً أكثر على الحفظ من التفكير الناقد المستقل. كما قد تساعدهم على بناء روابط شخصية مع الولايات المتحدة. ولا تزال واشنطن تتمتع بصلات قوية مع الأكراد العراقيين بشكل خاص، لذلك عليها أن تبني على هذه التجربة.
لكن ثمة خيارٌ مفيد آخر وهو السعي إلى تواجد قوي للولايات المتحدة في الجامعات الأمريكية في بغداد والسليمانية، سواء من خلال جهود القطاع العام أو القطاع الخاص. ويتمثل أحد الأهداف في اجتذاب المزيد من العراقيين للدراسة هناك، وهو خيار أسهل بكثير بالنسبة للعديد من الطلاب من السفر إلى الولايات المتحدة، وقد يقنع المزيد من الخريجين بالبقاء في العراق. وتبقى البصمة الأمريكية أقوى من نظيرتها الروسية في هذا المجال، لا سيما وأن موسكو لا تناقش فكرة بناء جامعة روسية في العراق.
ولا بد أيضاً من تحسين التواصل الإعلامي الأمريكي بشكل أفضل، وجزئياً من أجل تسليط الضوء على النزعة الروسية الاستبدادية، والتدخل الأجنبي، والفساد المستشري، وغيرها من العلل بدلاً من الصورة الخاطئة التي تصوَرها موسكو. وفي هذا الصدد، ربما تكون قناة “آر تي العربية” الوسيلة الإعلامية المسؤولة بصورة أكثر عن تعزيز هذه الصورة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ويعتبرها معظم العراقيين مصدراً موثوقاً للمعلومات أكثر من كونها ذراع دعائي ترويجي. على سبيل المثال، تساعد هذه القناة على نشر “أكاذيب” موسكو الروتينية بأن روسيا قاتلت باستمرار تنظيم «الدولة الإسلامية» وتستحق الفضل الكبير في كبح المكاسب الإقليمية للجماعة الإرهابية. كما ينشر الكرملين صورة إيجابية عن نفسه عبر إعادة أطفال المواطنين الروس إلى وطنهم بعد أن انضموا إلى تنظيم «داعش» في العراق وسوريا.
وفي أيلول/سبتمبر، أوقفت الحكومة العراقية عمل المكتب المحلي لقناة “الحرة” العربية المموّلة من قبل الولايات المتحدة، لكن لا يزال بإمكان العراقيين الاطلاع على برامجها. بإمكان الولايات المتحدة أيضاً أن توطد تواصلها مع العراق من خلال خدمات أخرى كقناة “بي بي سي العربية” ووسائل التواصل الاجتماعي. وتعد الوسيلة الأخيرة مهمة بشكل خاص بين الشباب العراقي، وقد سبق لموسكو أن استثمرت أموالاً طائلة في محاولة للوصول إلى الشباب الناطقين بالعربية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
وإذا لم تقف أي [جهة] بوجه الوجود الروسي المتنامي في العراق، فمن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى تفاقم مشاكل البلاد في مجالات الفساد والقمع وانتشار الأسلحة. وربما يقول لافروف الكلام الصحيح بشأن مكافحة الإرهاب عندما يزور بغداد، إلّا أن سجل موسكو في التكتيكات العسكرية القائمة على “سياسة الأرض المحروقة”، وصفقات الأسلحة التي لا تحظر المبيعات الثانوية، لن تؤدي إلا إلى زيادة عدم الاستقرار في العراق والدول المجاورة له. علاوة على ذلك، إذا استمرت القوى الموالية لإيران في الاستحواذ على المناصب داخل الحكومة العراقية، فقد توفر فرصة أكبر أمام التدخل الروسي نظراً للشراكة الإقليمية التي تربط طهران بروسيا. ومثل هذا السيناريو قد يزيد من احتمالات خسارة العراق لصالح موجة استبدادية متجددة.