من أسباب تخلّف هذه الأمة اعتمادها على طريقة التبعيّة للموروث، دون اعتبار لأحكام دينها وما تستوجبه من مراعات ما تقتضيه من تطبيقات لا يجب تجاوزها بأيّ حال من الأحوال، وأمّتنا اليوم وفي ما مضى من الزمن ضحيّة سلسلة من التجاوزات، ورّطها فيها حكام سجّل عليهم التاريخ، أنهم من أسوئ من حَكم رقابها، وتصرّف فيها تصرّف المالك لمملوك، لا حيلة له يمنع بها دينه، حكام اعتقدوا ولا يزالون على ما وجدوا عليه آباءهم، معتقدين فصل الدين عن الحياة، لذلك تراهم أبعد ما يكونون عن تطبيق أحكامه، ومجاله فقط في المساجد ولا تتجاوز علاقة العبد بربّه.
ومن زمن حكم بني أميّة وخادم سطوتهم ومقوّي شكوتهم، وعنصر بغيهم وظلمهم، الحجاج بن يوسف واليهم على العراق والمدائن، من دعا المسلمين الى غسل الرجلين بدل مسحهم
(قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده: يا أبا حمزة، إن الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه، فذكر الطهور فقال: “اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم، وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما”، فقال أنس: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله: “وامسحوا برءوسكم وأرجلكم” ) (1)
واعجب إلى أمّة أغلبها اليوم يغسلون أرجلهم إتّباعا للطاغية الحجاج، عوض اتباع من نزل عليه القرآن، وما علّمهم من كيفية وضوء، مع أنّ كتبهم مترعة بمقالة ابن عباس الوضوء غسلتان ومسحتان(2)، ومقارنة بالتيمّم يتأكّد المتابع بأن ما كان مغسولا في الوضوء يمسح في التيمم، وما كان ممسوحا في الوضوء يسقط في التيمّم، فسقط حكم الرأس والرجلين، ومع
سطوع هذه الدلالة في الوضوء، بقي السائرون في طريق إتّباع الموروث المصنوع باطلا، من طرف حكام طغاة جبابرة، لا دين لهم يحترمون أحكامه، بعدما عبث به مشائخ ظلالهم استجابة لرغباتهم الفاسدة، وإلّا فما ذنب حكم بسيط متعلّق بالوضوء حتى يقع تحريفه، إن لم يكن سببه الحقد الأعمى لبني أميّة، في محو آثار الإمام علي بن أبي طالب والأئمة الهداة من أهل بيته عليهم السلام، عدول القرآن وثقله، وحفظته من التحريف وعرفاء أحكامه من التزييف.
فكيف بهذه الأمّة اليوم، وقد بعدت بها الشقّة عن إدراك أبسط متعلّقات الدين، أن تميّز بين ما هو حكم حقيقي، نابع من صميم الوحي، وبين ما هو حكم وهميّ، صنعته أيدي التحريف من بني أميّة، ومن جاء بعدهم فأقرّهم عليه، نكاية في من أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا؟ حكام فصلوا الدين عن متعلقاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فجرّدوه من قيمومته على كامل أوجه الحياة، معتبرين أن أحكامه قد تجاوزها العصر، وعالم الغرب قد تطوّر بعدما تخلّى عن اعتماد الكنيسة طرفا في السلطة، بعدما عبث رجال الكنيسة بمصالح المسيحيين واستعبدوهم بدلا من أن يكونوا جميعا عبيدا لله.
من معضلات أمّتنا الباقية، ونتمنى كشعوب إسلامية أن تزول معوّقات ألفتها وأسباب وحدتها، استهلال شهر رمضان، والخلاف القائم كل سنة، سواء في أوّله أو في آخره، ونادرا ما اتفقت كلمتهم في هذا الإطار، وليتهم يفعلون لما في ذلك خير للأمة الإسلامية، فما الحرج لو وحّد الحكام استهلالهم معتمدين على الرؤية بالعين المجرّدة أو الرؤية بالعين المسلّحة، دون الرؤية التي اعتمدتها السعودية، بالولادة الفلكية عن طريق القمر الصناعي، وهي ولادة علمية دقيقة جدّا، وتعتبر داخلة ضمن محاق الشهر السابق، وأعني به شهر شعبان، بمقدار صفر فاصل، يستحيل بها اعتبارها دالة على بداية الشهر القمري.
وعجبي فيمن بقي مصرّا على المضيّ في موروث صنعه الطغاة، وفرضوه على أهل مناطق حكمهم، فبقي جيلا بعد جيل يحملون تبعاته وأوزاره، بلا ذنب جنوه من أنفسهم، سوى أنّهم اتّبعوا أولياء اعتمدوهم لدينهم، وما هم بأوليائهم الحقيقيين، وكان عليهم أن لا يسلموا مقاليدهم لمن ثبت استهتاره بالدين واستخفافه بأحكامه، ومقالة النبي لحذيفة: (تكون فتن على أبوابها دعاة إلى النار، فأن تموت وأنت عاضّ على جذلِ شجرة، خير لك من أن تتبع أحدا منهم (3)
رأس مال المسلم في هذه الدنيا دينه وأحكامه، فلماذا يتهاون فيها ويتركها مرتعا للحكام يعبثون بها؟ مع أنّ أحكامها واضحة لا لبس فيها، لماذا لا نعتمد على الرؤية بالعين المجرّدة، وهي طريقة سهلة وفي متناولنا، ووفق ما أمر به الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وما ضرّ حكوماتنا لو اعتمدت هذه الطريقة السهلة من الإستهلال، وتركت أدعياء الإجتهاد في الدين مقابل النص في غيّهم يعمهون؟ ألا ترون أنّ هناك دول أخرى لم يثبت عندها شهر رمضان حقيقة، قد قررت إتمام عدة شهر شعبان، ولم تسلك سبيل اتباع السعودية، إيمانا منها بأنّها طريقة غير صحيحة، طالما أنّها تمتلك مؤهّلات تطبيق حكم الإستهلال بما تمتلكه من مراصد تثبت في الهلال، وقد عوّدتنا السعودية كل سنة السبق إلى اعلان دخول شهر رمضان، دون رؤية بالعين المجرّدة، وهي الطريقة الوحيدة والشرعية التي تؤكد دخول الشهر تماما، بينما الرؤية الفلكية بالقمر الصناعي لا شرعية لها، تبقى ضمن زمن محاق الشهر المنصرم، ومتى نفهم أنّ أغلى ما نملك ديننا، فلا نفرّط فيه لمن لا دين لهم، يعبثون به على هوى أنفسهم؟ والتفريط في عبادة عظيمة كصيام شهر رمضان، الذي هو جنة من النار، والعبادة الوحيدة التي جعل الله جزاءها مخصوصا به، (الصوم لي وانا أجزي به) (4) الأمّة ممزقة مشتتة ولن يعيد لمّ شملها وجمع شتاتها، غير عودتها إلى دينها بالعلم والمعرفة، وليس بالوراثة والتبعية العمياء، جعلنا الله وإياكم ممن يؤدّي حقه في صيامه وقيامه، وممن يعتقهم الله من غضبه ونيرانه، ويرفع الغمة عن هذه الأمّة بالعودة إلى صفوته من عباده، حتى يكون في مأمن من أدعياء الدين، إنّه سميع مجيب.
المراجع
1 – تفسير الطبري سورة النساء آية الوضوء الرواية عدد: 11475
2 – تفسير الطبري سورة النساء آية الوضوء الرواية عدد: 11474
3 – سنن ابن ماجة كتاب الفتن ج5ص465ح3981
4 – مسند أحمد ج15ص55ح9112